شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حين قرّرت حنان التخلي عن حضن الوطن لكنه رفض بشدّة

حين قرّرت حنان التخلي عن حضن الوطن لكنه رفض بشدّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 28 يناير 202312:07 م

يعيش أهل بلدي


"ملاحظة: جميع الأسماء الواردة في هذه المادة هي أسماء مستعارة، بما فيها اسمي أنا".

بدأت القصة في الربيع الماضي، حين ضاقت الدنيا بصديقتي حنان، فاتخذت قراراً بمغادرة سوريا دون رجعة، سالكة إحدى طرق التهريب، مجازفة باصطحاب ابنها كريم البالغ من العمر ثماني سنوات. وبما أنني صديقة مقربة استشارتني.

ارتبكت بداية، فالأمر معقد جداً، خاصة بوجود طفل، لكنني فكرت أنه من الأفضل ألا أثنيها عما نوت لكيلا "أوهن عزيمة الأمة"، عفواً عزيمة حنان، فالحياة هنا بالفعل ما عادت صالحة للعيش الإنساني، وأقصد بـ "هنا" ليس سوريا فحسب، بل منطقة الشرق الموبوء بأسرها، وهكذا قرّرت مد يد المساعدة قدر الإمكان، واتصلت بكل من أعرفهم من أصدقاء في أوروبا أسألهم عن طرق التهريب الدارجة الآن.

هناك من نصح بالحصول على الفيزا الرومانية وآخر نصح بالفيزا الصربية ثم سلوك الطريق البري باتجاه ألمانيا وهولندا، وغيرهم لم يتحمس كثيراً لفكرة سلوك طريق بلغاريا واليونان براً بعد عبور الحدود التركية، وبما أنني سمعت عن بعض مكاتب السفر في سوريا تقوم بتأمين الفيزا الرومانية لكن لم يسبق لي أن عرفت طريقها إذ أني لم أضطر للأمر،  وضعت منشوراً على صفحة فيسبوك أسأل. استجاب بعض الأصدقاء للنداء حتى لو من منطلق النكتة، ولكن بعد جرد الآراء تبين أنها مكاتب من النوع الذي يظهر ويختفي بعد أن يتقاضى مبلغاً مالياً كبيراً دون أن تتحصل على الفيزا، وأسوأ ما في الأمر أن الفيزا قد تكون مزيفة، وتلك مصيبة أكبر إن تم اكتشافها على الحدود.

أخبرت حنان بما آلت إليه التحقيقات فأجابتني أنها قررت السفر إلى العراق، وهناك يوجد من يضمن لها ولكريم الفيزا الصربية. حسناً، يبدو الموضوع آمناً ولا داعي للخوف طالما لا حاجة لجوازات سفر مزورة ولا لفيز مضروبة ولا للاختباء في الغابات لحين مرور الدورية: تركب طائرة، ثم أخرى وبعدها تدبر أمرها نحو هولندا بطريقة ما، فهناك من وعد باصطحابها بالسيارة ما أن تطأ قدماها مطار بلغراد.

مرّ الربيع والصيف ونحن نبحث عن طريقة للوصول إلى بغداد دون جدوى، فبغداد تحتاج لفيزا والفيزا تحتاج لدعوة، وما الذي ستفعله امرأة وحيدة مع ابنها هناك؟ فاقترحت أن تحصل على فيزا للسياحية الدينية لزيارة الأماكن المقدسة، وما المانع؟ المهم أن تصل إلى العراق.

نسيت أن أخبركم أنه خلال هذه المدة انشغلت حنان أيضاً باستصدار جواز سفر سوري لابنها، حين كان التسجيل على المنصة الإلكترونية للحصول على دور يعتبر من المستحيلات السبعة، لكنني شاركتها بخبرتي في التكتيكات الملتوية بعد أن خضت التجربة في الهجرة والجوازات، واستطعت الحصول عليه لأبي، رغم اشتراطهم لوجود دعوى طبية من مشفى في الخارج أو فيزا من دولة ما أو دعوة إلى دولة ما، وأنا لا أملك كل هذا، فقط التكتيك وقليلاً من منهج ستانسلافسكي في التمثيل.

ودّعتها دون الكثير من الانفعالات العاطفية وكأننا سنلتقي غداً، فقد علّمتنا سوريا على مدار السنوات الأخيرة اعتياد الوداع والخسارات مع كل من أحببناهم وكل ما أحببنا... مجاز

أتذكر يومها حين استلمنا الجواز ونحن ما نزال غير مصدقين حقيقة الأمر، سألني الشرطي وهو يمده لي:

 - مبروك، أين سيسافر الحجي؟

- لن يسافر لمكان، الجواز ضمانة فقط كيلا نشعر أننا محبوسون في سجن.

لكزني أبي بكوعه كي أسكت، فعزوت الأمر لكونه انزعج من لقب "الحجي" لتجربته المريرة مع أقاربنا الحجاج بكل ما يخصّ الإرث، وليس بسبب إجابتي.

أصبحت جوازات السفر جاهزة، ولكن حنان غيّرت رأيها مرة أخرى، فقد تواصلت مع مهرب عن طريق فيسبوك – َلقَطَته على إحدى الصفحات- ووعدها بسفينة تجارية قادمة من مصر إلى ميناء بيروت، تصعد إليها هي وكريم بعد أن يسلّمهما أوراقاً رسمية تحسباً لأي طارئ، خمسة أيام ويصلون إيطاليا، ومن بعدها براً إلى ألمانيا، وهناك يقبض المبلغ كاملاً وهو ليس بقليل.

بدأت الاستعدادات للرحلة، باعت حنان السيارة وكل ثمين تملكه، حتى الثياب وألعاب كريم، وأصبحت جاهزة للسفر مع حلول الخريف. خيّرها المهرب بين يوم الخميس الواقع في 22 أيلول 2022 ويوم الأحد الذي بعده، فاختارت الأحد لأنه ما يزال أمامها عمل عليها إنجازه قبل أن تغادر حضن الوطن دون عودة.

ودّعتها دون الكثير من الانفعالات العاطفية وكأننا سنلتقي غداً، فقد علّمتنا سوريا على مدار السنوات الأخيرة اعتياد الوداع والخسارات مع كل من أحببناهم وكل ما أحببنا، تمنيت لها رحلة سالمة مع الكثير من التوصيات، ثم سافرت لأقضي إجازتي السنوية في طرطوس، ليست إجازة بمعنى الإجازة، فأنا فعلياً عاطلة عن العمل وكل أيامي إجازات وعطل رسمية.

في الـ 22 من أيلول استيقظنا صباحاً لنسمع خبر غرق المركب المتجه من طرابلس نحو أوروبا أمام سواحل طرطوس. كان يوماً ثقيلاً جداً، خفنا النزول إلى البحر الذي ظل حتى صباح اليوم التالي يحمل جثث الغرقى على أمواجه ليرميها على الشاطئ. فكرت بحنان وكريم، أمن الممكن أن يكون هذا المركب هو السفينة التجارية التي وُعدت بها؟ محتمل جداً.

اتصلت بحنان مساءاً لأجسّ نبضها، أما تزال تنوي السفر؟ وخاصة بعدما جرى اليوم؟ ردّت على الهاتف وأنا بالكاد أسمعها بسبب صوت الموسيقا المرتفعة حولها:

- أنا والبنات في الـ pub  "توديعة" بمناسبة سفري..

شتمتها في سرّي وقد أدركت أن القرار ما يزال سارٍ.

- إن لم تكن سفينة تجارية إياك أن تصعدي... سنجد طريقة أخرى.

- اطمئني... لن أصعد بالتأكيد.

*****

حنان لم تصعد السفينة التجارية، لا زورقاً ولا بلماً حتى، فهي لم تصل لبنان.

انقطعت أخبارها عني حتى يوم الثلاثاء، بقيت على تواصل مع أمها وأخوتها الذين بدوا مرتبكين جداً، ولم أحصل على جواب إلى أن ردّت حنان على الهاتف بنفسها وهي تضحك: لقد عدت.

طلب المهرب الذي تواصَلت معه أن تستقل سيارة أرسل لها رقم هاتف سائقها لتحملها تهريباً عبر الحدود اللبنانية، لكنها لم تصل إلا إلى ضيعة في مكان ما بعد مدينة حمص، حيث أنزلها السائق مع ابنها كريم لتستريح قليلاً في أحد البيوت حتى يصل المهرب، ومع وصوله ركبت حنان وكريم خلفه على دراجته الآلية حاملة حقيبتيها الصغيرتين اللتين وضعت فيهما الضروري للرحلة، جوازي السفر السوريين ومبلغ صغير بـ"الأخضر"، فالاتفاق أن يتم تسليم المبلغ كاملاً ما إن تصل إلى ألمانيا حيث ينتظرها هناك من سيكون معه المبلغ، وهكذا بدأوا رحلتهم بعبور وادٍ ليصلا إلى نقطة أخرى يعبران منها إلى لبنان.

في البداية كان الطريق معبّداً، ثم انحرف المهرب نحو طريق جانبي، حيث بدأ فعلياً القفز فوق الصخور كما يحدث في الراليات التي نتابعها على التلفزيون، أقصد كنا نتابعها أيام الكهرباء التي ذهبت دون عودة، مسترخياً يتحدث على هاتفه الجوال وهو يمسك المقود بيد واحدة، بينما المسكينة تتشهّد خلفه وهي مقتنعة تماماً أنها ستطير بعيداً بعد لحظات لتتكسر على صخور الوطن. انتهت الرحلة في قرية أخرى، حيث طُلب منها أن تسلّم جميع الأغراض التي معها، بما فيها جوازات السفر والهاتف النقال والـ "الأخضر" لتستلمها مجدداً بعد عبور "الحاجز"، وإلى أن يحين موعد عبور "الحاجز" عليها البقاء في بيت المهرّب بانتظار الوقت المناسب.

 ظلت حنان تتصل بالمهرّب بعد عودتها من الخطف، تفاوضه على هاتفها وحقائبها التي لم تعد إليها، ففيها جميع ملابس كريم الدافئة والجديدة، فقد كنا على أبواب الشتاء وثمن أي جاكيت جديد الآن في البالة يعادل سبعين ألف ليرة... مجاز

طال وقت الانتظار، المهرب يدخن سيجارة حشيش تلو الأخرى ويشرب الشاي وحنان وكريم منتظران و"منهنهان" من رحلة الدراجة الآلية إلى أن ناما من كثر ما استنشقاه من دخان وربما بسبب التعب. استيقظت حنان وكان الظلام قد حلّ فوجدت كريم في نقاش فضولي مع المهرّب، يسأله عن المهنة التي يزاولها، وذاك يعدّد: "مهرّب حشيش، مهرّب بنزين، مهرّب مازوت، مهرّب غاز.. ومهرّب بشر يائسين".

ساقت الأحاديث بعضها في تعارف لطيف لدرجة أن المهرب طلب من حنان أن تتوكل عنه في قضية تهريب ملاحق فيها منذ عدة سنوات، فهي بالمناسبة محامية، وفي الأثناء، دخل والد المهرب حاملاً صينية العشاء ليكتمل انتظار اليوم في جلسة لطيفة اعتذرت خلالها حنان عن سيجارة الحشيش التي قدمها لها المهرّب لكسب الود، وعن تولي قضيته فهي مسافرة إلى هولندا، وهناك لن تزاول مهنتها بكل تأكيد، بل ستقبل بأي عمل يعرضه عليها الـ "جوب سنتر" ما إن تطلب اللجوء، وربما ستعمل في الدهان أو توزيع البيتزا كما يفعل أحد أصدقائنا حامل شهادة الماجستير في الاقتصاد.

في صباح اليوم التالي كانت هناك حركة مريبة في البيت: أشخاص جدد، وشجارات تدور بينهم وبين المهرّب، وعند استفسار حنان عن الأمر أخبروها أن من اتفقت معه عبر فيسبوك غير رأيه ويريد استلام المبلغ كاملاً الآن، ثم طلبوا منها أن تتحدث مع أخيها وتخبره أنها بخير.

- لكن هاتفي معكم.. اعطوني هاتفي وسأتحدث إليه وسيطمئن.

وبعد مشاورات، أحضر لها أحدهم هاتفه لتكلم أخيها عبر الماسنجر، فسمعت صوته وهو يصرخ بالمهرّب قبل أن تأخذ الهاتف منه: "أعيدوا أختي وإلا".

*****

تبين لاحقاً وأنه منذ اليوم السابق لم يكن الشباب يضيعون الوقت، وبينما حنان بالانتظار إلى أن يحين الوقت المناسب لعبورها "الحاجز" كما أخبروها، كانت مخطوفة دون أن تدري، وكانوا بدورهم قد تواصلوا مع أخيها طالبين أن يسدّد لهم المبلغ كاملاً وإلا اغتصبوها وصوروها عارية، أو باعوها، هي وكريم، كأعضاء بشرية لأحد أشهر تجار الأعضاء في المنطقة.

لكن الأخ كان ذا علاقات واسعة، فاستطاع تعقبهم من خلال رقم السيارة وأبراج إشارة الخليوي، ليحدّد موقعهم وليكون تهديده لهم موقع خطر فعلي، وبالتالي قرّروا التخلص من حنان وما يمكن أن تجلبه لهم من مشاكل، فأوصلوها إلى أحد الاستراحات قرب حمص، أعادوا لها جوازي سفرها هي وكريم وبعض الأوراق الرسمية، وأعطوها 50 ألفاً لتركب الباص رجوعاً إلى دمشق، فعادت طائعة إلى حضن الوطن الذي حاولت مغادرته ولكنه لم يتخلّ عنها، بل حضنها بكامل قوته حتى ما عادت تستطيع الحراك.

الطريف في الأمر أن حنان ظلت تتصل بالمهرّب بعد عودتها، تفاوضه على هاتفها وحقائبها التي لم تعد إليها، ففيها جميع ملابس كريم الدافئة والجديدة، فقد كنا على أبواب الشتاء وثمن أي جاكيت جديد الآن في البالة يعادل سبعين ألف ليرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image