لا شك أن الفيلم السينمائي حين ينزع إلى التجريب عبر تضمين بنى فنية غير مستهلكة، فإنه يحقق فرادةً خاصةً بدخوله إلى مناطق جديدة، وهو ما حققته السينما في الآونة الأخيرة في عدد من البلدان العربية على يد مجموعة من المخرجين، منهم المخرج اللبناني علي شري، في فيلمه الروائي الأول "السد" عن مجموعة من العمّال السودانيين في أثناء التظاهرات التي طالبت بإسقاط نظام البشير.
علي شري فنان تشكيلي استفاد من خبرته في النحت والرسم، في الإخراج السينمائي، فقدّم عملاً استثنائياً يمزج بين التشكيل والسينما في رؤية فنية تقوم على التعبير البصري في المقام الأول، وتالياً جاء الحوار الشفهي مكثّفاً والشخصيات محدودةً، فيما حضرت الصورة بفضاءاتها المختلفة، وحضرت الموسيقى التصويرية بقوة.
التعبير بالصورة عن البسطاء المطحونين
حمل الفيلم رؤيةً فنيةً تقوم على التشكيل بالصورة، والتعبير البصري عن عالم البسطاء المطحونين، حيث الوحدة والتقشف والغربة التي تفرضها عليهم طبيعة عملهم في صحراء قاحلة تخلو منها مظاهر الحياة. على هذا الأساس تتبّعت كاميرات التصوير حركة الشخصيات، عبر كادرات متسعة تكشف حدّة الوحدة وقدر الضآلة داخل صحراء شاسعة تغيب عنها أسباب الحياة ما عدا النيل الذي يمتد في الصحراء كصورة للحياة ودلالة على وجودها واستمرارها، في ظل الثورة السودانية التي تنادي بالعدالة والحرية والكرامة والمساواة الاجتماعية.
تناول المخرج بصورة غير مباشرة التحولات السياسية التي أدت إلى إسقاط نظام الرئيس السوداني عمر البشير، عام 2019، وتوقف عند العمال الذين يعملون في كمائن صنع الطوب في الصحراء في موقع قريب من سد مروي (شمال السودان)، ويعانون من شقاء مضاعف بسبب عزلتهم الاجتماعية وعملهم الذي يصلون فيه الليل بالنهار.
الثورة... والبحث عن خلاص
يروي الفيلم قصة ماهر الذي يعيش في الصحراء حائراً، هائماً على وجهه، يبحث عن خلاص لروحه المتعبة، ويبدأ ببناء بيت، قد يجد فيه ضالته، يذهب إليه من حين إلى آخر ويقوم ببعض الأعمال. في هذا الوقت تكون الثورة في السودان على أشدها، وتنتشر في الشوارع لافتات تطالب بإسقاط النظام، وأخرى تنادي بمحاكمة البشير ورموز الدولة.
في فيلم "السد"، تناول المخرج اللبناني علي شري بصورة غير مباشرة التحولات السياسية التي أدت إلى إسقاط نظام الرئيس السوداني عمر البشير عام 2019، وتوقف عند العمال الذين يعملون في كمائن صنع الطوب في الصحراء في شمال السودان
وتبدو صور الرئيس في الشوارع مكتوباً عليها "يسقط حكم العسكر"، بينما يتحرك ماهر داخل الصحراء ذهاباً ومجيئاً، كأنه يبحث عن شيء ما، أو ربما يبحث عن ملاذ آمن، إذ إن الوطن لا يحتويه في ظل الحكم العسكري الذي يقمع الرأي والحريات، ولذلك يأتي صوت الثوار عالياً عبر التلفزيون منادياً بالحرية والعدالة والكرامة للشعب، وقد جاءت لافتاتهم تحمل كلمات "حرية سلام عدالة"، و"الثورة خيار الشعب"، وغيرها.
المزج بين الرمز والواقع
يمزج الفيلم بين الرمز والواقع في جدلية فنية تحضر فيها الصحراء بتفاصيلها المختلفة، حيث تتحول إلى فضاء شاسع يبدو فيه الإنسان ضئيلاً، وحائراً، أمام ما تفرضه عليه الحياة من تساؤلاتٍ ومشقّة، في ظل واقع صعب تختلط فيه الأحداث السياسية داخل المدينة بمعاناة العمال داخل الصحراء. وتأتي علاقة هؤلاء العمال بالمدينة مقتصرةً على ذهاب بعضهم لشراء بعض المأكولات بصورة نادرة، فلا تحمل الأحداث أي علاقة لهم بأسرهم أو حيواتهم الخاصة أو مصائرهم داخل هذه الصحراء، فضلاً عن غياب العلاقات الحيوية القائمة على الحوار والألفة والروح الإنسانية حتى في ما بينهم.
نتيجةً لذلك، ربما يختفي تطور الشخصيات ويتلافى وجودها مع الأحداث، باستثناء ماهر الذي يستمر في بناء مجسم يشير إلى بيت يحلم به أو مأوى أو رمز للوطن، لكن هذا المجسم ينهار، ما يعني المستقبل المبهم للوطن من وجهة نظر ماهر.
توظيف جماليات الفن المعماري
برزت علاقة المخرج بالنحت والتشكيل في قدرته على توظيف الضوء والظلال، من خلال العديد من المشاهد التي اعتمدت على تصوير نهر النيل وحركة العمال في الصحراء، وفي أحد المشاهد اعتمد مدير التصوير باسم فياض، على تركيز الكاميرا على ظلّ المجسم الذي يقوم ماهر ببنائه، فبدا ظلّ المجسم أكثر شموخاً وكِبراً، والمخرج بذلك يوظف الفراغ كونه إحدى جماليات الفن المعماري. لكن هل تستطيع الصورة والتشكيل والتعبير البصري التعبير عن الثورة السودانية؟
عبّر فيلم "السد" عن شقاء الرجال داخل الصحراء وحياتهم في ظروف قاسية، فهم لا يشاركون في الأحداث التي ستغيّر مصير بلادهم، لأنهم مشغولون بتوفير قوت يومهم، ولا تأتي أخبار التظاهرات الشعبية المنتشرة في البلاد إلا من خلال نشرات الأخبار
عبّر الفيلم، من خلال الصور المتلاحقة، عن شقاء الرجال داخل الصحراء وحياتهم في ظروف قاسية، فهم لا يشاركون في الأحداث التي ستغيّر مصير بلادهم، لأنهم مشغولون بتوفير قوت يومهم، ولا تأتي أخبار التظاهرات الشعبية المنتشرة في البلاد إلا من خلال نشرات الأخبار في الإذاعة والتلفزيون أو زيارة ماهر وصديقه إلى المدينة بواسطة دراجة بخارية لشراء بعض الاحتياجات، فتبدو حالة الغليان الشعبي في شوارع المدينة.
غياب الشخصيات النسائية
على الرغم من أن الفيلم يتناول ثورة السودانيين على الحكم، وعلى الأوضاع السياسية في البلاد، إلا أنه يركز على شخصية ماهر الذي يذهب بين حين وآخر، إلى أماكن أخرى في الصحراء بعيداً عن زملائه، حيث يجلس متأملاً، بينما لم تطرح الأحداث شخصية المرأة بحكم أن أن الفيلم مهموم بشقاء العمال في الصحراء بلا أسرة أو حياة اجتماعية، ولذلك تم تصوير مشهد استمرار العمال في العمل في مصنع الطوب حتى الليل معتمدين على وحدات قليلة من المصابيح، كما تركزت أغلب المشاهد على حيرة ماهر الذي يحيا وحيداً، باحثاً عن نفسه وعن وطن يأوي إليه من خلال البيت أو المجسم الغامض الذي يشيّده في ركن آمن.
يسقط المجسم الذي يقوم ببنائه، مما يجعله يحزن حزناً شديداً، فالبناء لم يستطع الصمود أمام سيل المطر، وهي صورة رمزية معادلة للظرف التاريخي الذي يمر به الوطن، خاصةً مع تصوير سقوط المجسم بطريقة درامية، إذ إن بكاء ماهر على سقوط المجسم جاء بمثابة بكاء على انهيار الحلم، حلم الوطن أو الحلم بالوطن.
الصور الرمزية وآفاق الدلالة
حفل الفيلم بالعديد من الصور الرمزية المعبرة عن الأحداث مثل مشهد غليان الشاي وتركيز الكاميرا على الوعاء (كلوز أب)، في إشارة إلى حالة الغليان الموجودة في الشارع السوداني، كذلك مشهد المياه المندفعة بقوة من المواسير الضخمة والتي ترمز إلى اندفاع الثوّار لتحرير بلادهم من حكم مستبد يقمع الحريات، أيضاً لقطة هبوب الرياح والتي تدل على الثورة التي لن تهدأ إلا بعد أن تحقق غاياتها، وصورة رجل الشرطة الذي يغطّ في النوم في أثناء المناوبة فينزلق منه السلاح... وغيرها من الصور الدالّة.
يمزج الفيلم بين الرمز والواقع في جدلية فنية تحضر فيها الصحراء بتفاصيلها المختلفة، حيث تتحول إلى فضاء شاسع يبدو فيه الإنسان ضئيلاً، وحائراً.
كما عبّر جرح ماهر، أو القرحة التي يعاني منها في جسده، عن حياته في الصحراء وعن أزمة الوطن، فالجرح لا تتم مداواته إلا في المدينة البعيدة، ولذلك فالجرح لا يندمل، إذ لا تتوافر في الصحراء مراكز صحية تداوي الجرح.
عبّر مجيء صاحب العمل إلى العمال في قلب الصحراء بسيارته الخاصة التي تنطلق من مذياعها الأغاني، عن البون الشاسع بين الحياة المترفة التي يعيشها في مقابل الحياة البائسة للعمال والتناقض الكبير بينه وبينهم، كما أكدت وصوله بالطريقة ذاتها إلى مراسم دفن أحد العمال، حيث تنطلق الأغاني من مذياع السيارة بأنوارها الملونة، من دون إحساس بالحدث أو بمشاعر الحزن التي تسيطر على العمال.
مهرجان القاهرة السينمائي وجائزة أفضل ممثل
أدى توظيف إحدى أغاني المطرب السوداني الراحل محمود عبد العزيز، الذي عُرف بحبّه للبسطاء وإخلاصه لهم إلى حالة من البهجة والشاعرية، كما أضفت بعداً خالصاً في الارتباط بالمحبوب والشوق إليه، ما يعبّر عن الارتباط بالوطن بحسب سياق الأحداث داخل الفيلم.
نجح الفيلم الذي عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في آخر دوراته (تشرين الثاني/نوفمبر 2022)، في لفت الأنظار إليه وحصول الممثل ماهر الخير على جائزة أفضل ممثل، فقد برَعَ في أداء شخصية ماهر، الشخصية المحورية في أول وقوف له أمام الكاميرا، إذ لم يسبق له التمثيل من قبل. وكان الفيلم قد عُرض في أسبوعي المخرجين، في مهرجان كان السينمائي الدولي العام الماضي.
شاركت في إنتاج فيلم "السد"، كل من فرنسا ولبنان والسودان وقطر وألمانيا وصربيا، ويُعدّ خطوةً جديدة في تطور السينما السودانية التي عبّرت عن خصوصيتها في السنوات الأخيرة من خلال أفلام روائية طويلة وقصيرة ووثائقية مثل "ستموت في العشرين" 2019، و"الحديث عن الأشجار" 2019، و"الخرطوم أوف سايد" 2019، و"حفنة تمر" 2020، و"طوبة لهن" 2021، والفيلم القصير "الست" للمخرجة سوزانا ميرغني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...