أينما حلّ السوريون حملوا مطبخهم معهم، فهو إدمان على تفاصيل حيواتهم اليومية، لا يتعلق الأمر فقط بذائقة خاصة لا تستسيغ إلا ما تصنعه أيديهم من طعام وشراب، بل لأنه مطبخ يتسم بالتنوع انسجاماً مع طبيعة البلد المتنوعه، وللثراء الذي تركه الاستعماران الفرنسي والعثماني على المائدة.
الطعام للسوريين ليس مجرد "حشو بطن" كما يقال في العامية، فهو جزء من هويتهم، وأسلوب حياة واظبوا عليه خلال مناسباتهم الدينية والاجتماعية، وهو الذاكرة المؤتمن عليها مع بداية ونهاية كل صيف حيث ينشغل أغلبهم بإعداد "مونة" الشتاء.
تعرف مناطق الساحل السوري أصنافاً لا نجدها في منطقة سورية أخرى. ووصفات تقليدية تروي أسماءها الغريبة حكاياتها المستمدة من الذاكرة الشعبية، ووصفات تتسم بالبساطة والتعقيد في آن، إضافة إلى "النَفَس الخاص".
الشنكليش أو العفن الملوكي
"سيد المازات" المرافق لجلسات شرب العرق البلدي بلا منازع. وأحد أشهر المقبلات المعتقة (لدرجة العفن) على الموائد السورية، تتميز بملمسها اللين الطازج، وطعمها اللاذع. تتناول باردةً بعد إضافة زيت الزيتون. أو البصل والبندورة والنعناع ليصبح الطبق المعروف شعبياً بـ" الشعيفورة".
الشنكليش هو "سيد المازات" المرافق لجلسات شرب العرق البلدي بلا منازع. وأحد أشهر المقبلات المعتقة (لدرجة العفن) على الموائد السورية
يُعرف أيضاً بـ"السوركي" وهي تسمية فرنسية. أما الشنكليش فهو اسم تركي جاء من قبيلة (شنكلة) التركية، التي سكنت الحدود شمال حلب بين سوريا وتركيا. الجزء الثاني من التسمية (إيش) تعني عمل باللغة التركية، فقد كانت قبيلة شنكلة من البدو الرُحل، وقد ابتكروا هذه الطريقة لحفظ اللبن من الفساد عبر تحويله إلى كُرات مجففة حتى يحافظ على نفسه خلال الترحال الدائم.
تقول فاطمة (50 عاماً)، وهي تدير محل أجبان وألبان لحسابها الخاص، إن إعداد الشنكليش يجري غالباً في موسم الربيع من خلال عملية طويلة نسبياً ومعقدة نوعاً ما. فبعد بسترة الحليب لتخليصه من الكائنات الحية الدقيقة عبر غليه على حرارة تصل إلى (63 درجة مئوية)، لمدة نصف ساعة، يضاف إليه القليل من اللبن ليتحول الحليب إلى لبن رائب ثم يترك لثلاث ساعات.
ثم يتم خضّه عبر آلة خاصة، لتفصل الزبدة عن اللبن العيران. لتأتي مرحلة التقريش، وهي الأساس الذي ينتج عنها هذه الوجبة اللذيذة. يتم غلي العيران مع إضافة قليل من الملح على نار هادئة لمدة ساعتين. لتلف بعد ذلك القريشة بمنديل نظيف وتعصر وتُضغط بإحكام للتخلص من الماء الموجود فيها. ولينتج لدينا بعد عدة أيام ما نسميه الشنكليش الأخضر أو النيء.
بعدها، تأتي عملية التمليح وإضافة بعض الفلفل باعتدال. ثم تكوير القريشة إلى كُرات صغيرة قطر الواحدة بين 4-6 سم. توضع في طبق لتنشر تحت أشعة الشمس لثلاثة أيام. إذ ذاك ينتج لدينا ما نسميه السوركي اليابس أي الشنكليش غير الناضج الذي يُحفظ بدوره في جرار أو أكياس محكمة الإغلاق أو أوعية بلاستيكية في مكان دافئ لتحضير المناخ المناسب، لنمو الطبقتين الزرقاء والخضراء من العفن الملوكي بعد مدة تقارب الشهر، وليخرج لدينا ما يُسمى بالشنكليش.
وتؤكد فاطمة أن هذه الوجبة التقليدية كانت تُعد وجبة الفقراء، إذ كانوا يتناولها على فطورهم أو عشائهم مع كأس شاي ساخن. أما اليوم وبسبب ارتفاع أسعارها صارت ضرباً من ضروب الرفاهية. يباع الشنكليش اليوم بالقرص الواحد بعد أن كان في متناول جميع السوريين.
السليقة
في تموز/يوليو حتى آب/أغسطس من كل عام، تعم الأرياف السورية لا سيما قرى الساحل احتفالية السليقة، وهي عادة قديمة جداً لا تزال ممارسة حتى يومنا هذا والغرض منها تصنيع مؤونة البرغل الذي يعد مادة أساسية في كثير من الأطباق.تترافق هذه الاحتفالية الطقسية التي تعتبر بمثابة يوم فرح كبير يساعد فيه الجيران بعضهم بعضاً، ويقوم الأطفال بحمل صحون السليقة الساخنة إلى الجيران البعيدين بقصد "طرح البركة" في رزقهم بأهازيج وأغان و"عداويات" تراثية ترددها الفتيات والنساء اللواتي يشرفن على تحضير السليقة.
الطعام للسوريين ليس مجرد "حشو بطن" كما يقال في العامية، فهو جزء من هويتهم، وأسلوب حياة واظبوا عليه خلال مناسباتهم الدينية والاجتماعية، وهو الذاكرة المؤتمن عليها مع بداية ونهاية كل صيف حيث ينشغل أغلبهم بإعداد "مونة" الشتاء
من العدوايات التي ترددها الفتيات: درن "أي حركن حجر الراح" يا بنات بكرة تتزوجن.
يروي أحمد (45 عاماً) لرصيف22 أن الفتيات يرددن هذه "العداوية" خلال عملية الـ"جَرْش" حيث تقوم إحداهن بصناعة الكبة من آخر وجبة تم جرشها، وتُسمى هذه الوجبة بـ"الزقزوقة".
ومن ذكريات طفولته: "كُنا نجتمع أنا وإخوتي حول والدتي في موسم إعداد السليقة، ويحمل كل منّا صحنه لتسكب له بعضها، وتضيف له قليلاً من السُكر".
ويعتقد أن طعمها فيما مضى كان أطيب بكثير مقارنة بسليقة هذه الأيام بسبب إضافة السماد والمخصبات الأخرى أثناء زراعة القمح.
وتشرح خديجة (55 عاماً) وهي ربّة منزل كيفيه إعدادها، المرحلة الأولى هي الغربلة أي تخليص الحنطة من التراب والحصى والشوائب الأخرى. ثم "التصويل" أي النقع في الماء لتنظيفها. بعد ذلك، يتم وضعها في قدر حديدي كبير يُدعى بـ"الجلة" أو "الحِلة"، كان يتسع قديماً لقرابة 200 كيلو غرام من الحنطة تحضيراً لسلقها وهي عملية تأخذ ساعة وربع أو ساعتين على أبعد تقدير، حيث يدل انتفاخ الحبوب على أنها وصلت لدرجة النضج.
أحمد... كُنا نجتمع أنا وإخوتي حول والدتي في موسم إعداد السليقة، ويحمل كل منّا صحنه لتسكب له بعضها، وتضيف له قليلاً من السُكر
بعد الانتهاء من عملية السلق، يتم مد الحنطة وتغطيتها بقطعة قماش بغرض تجفيفها ليومين لتختمر ويكتمل نضجها. ثم غربلتها مجدداً لتنظيفها من بقايا الأبخرة ونشرها على الأسطح لتجف تحت أشعة الشمس. وهذه المرحلة تستغرق يومين أيضاً، قبل تعبئتها في أكياس والذهاب بها إلى طاحونة البرغل أو "الجاروشة".
ينتج عن عملية الطحن نوعان من البرغل: الناعم المسمى بـ"الصريصرة" الذي بستخدم في طهو وطبخ الكبة بأنواعها خاصة النيئة، والتبولة. أما البرغل الخشن فيستخدم في أكلات أخرى كـ "المجدرة" و"البرغل ببندورة" و"البرغل بشعيرية". فيما تبقى الشوائب المسماة بـ"النخالة" كعلف للأبقار والأغنام.
"هبول" التين
يُصنف الهبول كحلوى طبيعية غنية بالطاقة التي يحتاجها الجسم، ويعدّ وجبة غذائية متكاملة، كونه يصنع من ألياف ثمرة التين الخالية من السكر التي تُساعد على الإحساس بالشبع. كذلك، يعتبر مصدراً للمواد المضادة للأكسدة، إضافةً لغناه بالمعادن التي يحتاجها الجسم. يتم تناوله مباشرة أو يُخزن لفصل الشتاء. ويُقدم للضيوف كوجبة مميزة.تدأب ربّات البيوت في منطقة مصياف وسط سوريا في تموز/ يوليو وآب/أغسطس من كل عام بعد الانتهاء من جني محصول التين على اختيار ثمار التين المُسمى بـ"العدي" أو البعل الذي يروى من مياه الأمطار. وهناك أيضاً أنواع أخرى من التين بمسميات مختلفة لدى أهل المنطقة الأحمر، والسماقي، والمرملي، والبورطاطي، والشبلاوي، والشتوي. وكلها تصلح لإعداد الهبول الفاخر.
فمع ارتفاع درجات الحرارة اللازمة لنضج التين، تدأب النساء على فتح الحبات الجيدة من الأسفل ونشرها على سطوح المنازل على طبق أو حصيرة من القصب لمدة عشرين يوماً حتى تفرغ تماماً من الماء الموجود فيها. ثم تجمع الثمار المجففة لتدخل في عملية "التهبيل"، ومن هنا جاءت تسميته بالهبول. توضع على قماشة بيضاء نظيفة يتم إحكامها جيداً فوق غربال يوضع بدوره على وعاء يحتوي على الماء فوق النار. فتُطهى الثمار بالبخار المُتصاعد من الوعاء وحين يصبح ملمسها طرّياً وقابلاً للعجن، تُرفع القماشة عن الغربال.
وتأتي المرحلة الأخيرة التي تقسم فيها الثمار إلى قسمين: الأول يُضاف إليه السكر ويُكبس في وعاء بلاستيكي خاص، ويحفظ كمؤونة للشتاء. أما الثاني فيُعجن بعد طحنه، ويُقسم إلى قطع بحجم قبضة الكف، ثم يُضاف له ما يُسمى "الفرفور" أي طحين البرغل. ويجري بالنسبة للبعض إضافةُ بعض المكسرات إليه كالجوز واللوز والفستق الحلبي ليكون جاهزاً للأكل. وقد تتفنن ربات البيوت في صناعة كرات صغيرة من الهبول. وإضافة جوز الهند إليها فيما يشبه الزينة.
مع ارتفاع درجات الحرارة اللازمة لنضج التين، تدأب النساء على فتح الحبات الجيدة من الأسفل ونشرها على سطوح المنازل على طبق أو حصيرة من القصب لمدة عشرين يوماً حتى تفرغ تماماً من الماء الموجود فيها. ثم تجمع الثمار المجففة لتدخل في عملية "التهبيل"
تروي مريم (65 عاماً) لرصيف22، وهي متقاعدة حالياً، أن الهبول يرتبط بما هو متوارث تقليدياً بين أبناء المنطقة عبر أجيال متعاقبة. فالعروس قديماً كانت تخرج من منزل أبويها محملة بصندوق كبير مملوء بالهبول. ليكون ذا وزنٍ ثقيل، إشارة إلى مكانة الفتاة بالنسبة إليهما. وليعرف أهل العريس قدرها ومكانتها لديهم. وتقول أيضاً: "الموسم الحالي كان شحيحاً بسبب سوء موسم التين. وارتفاع أسعاره في السوق وعدم قدرة البعض على شرائه بغرض تحويله إلى هبول".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 17 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...