كانت الكرمة أو "الكورمة" الرفيق والصديق الجميل للقمح والزيتون والتين، حيث كانت أولى الزرعات التي وجدت ودجّنت في منطقتنا منذ أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد، وفقاً لـ"كتاب الفلاحة النبطية – ابن وحشية".
فلقد استخرج منها أجدادنا عدّة أصناف، وأطباق، ووصفات، وعصائر، وحلويات مبتكرة وذكية، ولا يشق لها غبار.
الكرمة والدة العنب وأمه ومرضعته، تلك الجفنة التي أحبها أجدادنا منذ آلاف السنين، واستقوا من عصير عنبها ما لذ وطاب، وامتنوا لها لما جادته وأعطته، كيف لا وهي رمز للصبر ومقبرة للعطش ومستقبل للماء بكل ودّ، فلا يطيب ثمرها ويحلو إلا عندما يعطيها الإله "بعل" ماءه ويسقيها من غيمه، فتجود لنا بعصير رقراق مليء بالحب وخلاصته.
قل ديبشا ولا تقل دبس
هذا العصير تلقفه الأجداد الأذكياء عندما عصروا العنب في آخر موسمه كي لا يحرموا من طعمه في الشتاء، وليكتشفوا من وراء هذه العملية أعاجيب عصيره، والتي منها ولد "الديبشا أو الديبشو" أو الدبس كما يسمى اليوم، والذي يتناول هذا التقرير طرق صناعته وفوائده وبعض مما يصنع منه.
أما عن معنى التسمية فكلمة "ديبشا" في الآرامية والسريانية تعني عسل الفواكه، وقد أطلقت أيضاً فيما بعد على عسل النحل. ومعنى "دبس" في اللغة العربية هو الشيء الحلو المشرّب بالحمرة المائلة للسواد.
معنى "ديبشا" في الآرامية والسريانية عسل الفواكه، وقد أطلقت فيما بعد على عسل النحل. ومعنى "دبس" في اللغة العربية هو الشيء الحلو المشرّب بالحمرة المائلة للسواد
ترافقت صناعة الدبس قديماً وتاريخياً مع صناعة النبيذ، كيف لا وهما ولدان لأم واحدة، فقد كان الأجداد يحلّون بعض أنواع النبيذ بالدبس، ليخرج لديهم صنف خاص وراق ونبيل من النبيذ بواسطة الدبس، خاصة أن الأولين كانوا يعتقدون أن الدبس هو النفس الحلوة والحارة والمعقدة للعنب بدون تخمّر.
كيف صنعه الأجداد؟
يعصر العنب ويصفى جيداً مما يسمى "العرموش او الحشمل"، وفي هذه المرحلة كانوا يضيفون وبحركة ذكية حجر يسمى "الحوارة أو الجيرة" وهو حجر كلسي، يوضع العصير على النار لمدة طويلة، فإذا كانت نار حطب سيستغرق الغلي نصف يوم، أما على النار الحديثة فلمدة ثلاث ساعات، مع تحريكه بنبتة عطرية تدعى "الجيجان" أو "الحلبلوب" وتعرف شعبياً باسم عشبة الربو، طبعاً يمكن الاستغناء عن هذه الخطوة واستبدالها بعملية تحريك بملعقة خشبية كوننا وفي هذه الأيام قد نجد صعوبة بإيجاد هذه النبتة (لكننا سنخسر بهذا الاستبدال الفوائد الكثيرة لنبتة "الجيجان" فهي تعزز جهاز المناعة، وتساعد على حل مشاكل الجهاز الهضمي، وشفاء القرحة الفموية).
أثناء الغليان نراعي إزالة الزفرة أو الرغوة أو كما تسمى "القعوة" عن الوجه، ثم بعد ذلك يرفع عصير العنب عن النار ويترك لليوم الثاني حتى يرقد، وهنا تكون "الحوارة" قد فعلت فعلها وترسبت للقاع وسحبت معها كل الشوائب، ومع ذلك يصفى الدبس بقطعة قماش من الشاش، ثم يمد على الصواني، وإلى الشمس ليعقد جيداً ويصبح دبساً جاهزاً، لينتقل بعدها الى أجمل بيت في العالم وهو بيت المونة.
وصفة حلوى جلد الفرس
سنحتاج الى كأس من الدبس ممدد بستة كؤوس ماء.
نضيف لها سبع ملاعق طحين، ونخلط المكونات ونذيبها جيداً، ويفضل أن تصفى بعدها.
نضعها على النار مع التحريك المستمر حتى يصبح المزيج لزجاً سميكاً.
نقوم بمد هذا المزيج على أقمشة خام بيضاء وهو ساخن بسماكة ½ سم تقريباً.
يوضع عصير العنب على النار لمدة طويلة، فإذا كانت نار حطب سيستغرق الغلي نصف يوم، أما على النار الحديثة فلمدة ثلاث ساعات، مع تحريكه بنبتة عطرية تدعى "الجيجان" أو "الحلبلوب" وتعرف شعبياً باسم عشبة الربو
يترك ممدوداً في الظل يوماً كاملاً دون تحريك حتى يجمد، ثم ينتقل للشمس وينشر على الحبال كالغسيل تماماً ليتعرض للهواء أيضاً ويجف جيداً. ومعيار بقاءه في الشمس هو جفافه وجفاف القطعة القماشية الممدود عليها المزيج، تقلب القطعة الجافة على صينية والقماش الى الأعلى، يبلل القماش قليلاً ليسهل سلخ جلد الفرس عنها.
ثم نقطعه أو نلفه كما نريد ويمكننا تناوله وحيداً أو مع الجوز والمكسرات.
وصفة الملبن
أما "الملبن" فهو خيط تعلق به حبات من الجوز الكامل كالمسبحة، يغط في المزيج السابق وهو ساخن، ويعلق حتى ينشف قليلاً، ثم نعاود الكرة عدة مرات حتى نصل للسماكة التي نريد، ونتركها منشورة حتى تجف تماماً.
الملبن وجلد الفرس من أشهى الحلويات المشتقة من الدبس، وبالطبع هناك استخدامات أخرى شهية وبسيطة مثل الدبس بالطحينية، وإضافة بعض الدبس إلى الأرز المطبوخ
صنفان من ماء العنب في طبخة واحدة عصفوران جميلان في حجر واحد، هناك الكثير من الوصفات التي تشتق من الدبس أو يرفع الدبس من قيمتها، مثل الدبس بالطحينة أو إضافة الدبس الى الأرز المطبوخ.
فوائد الدبس أو الـديبشا"
- 60سعرة حرارية.
- 14 جرام من الكربوهيدرات.
- فيتامين C.
- فيتامين E.
- فيتامينات B1, B2, B6.
- معادن النحاس، الحديد، الزنك، البوتاسيوم، الصوديوم، الكالسيوم.
يمتص جسم الانسان الدبس بسهولة وسرعة مما يجعله حلاً رائعاً وسريعاً لإمداد الجسم بالطاقة والدفء، كما يساعد على الوقاية من فقر الدم لغناه بالحديد، ويحمي الخلايا من التلف لأنه غني بمضادات الأكسدة بفضل مادة "البوليفينول" الموجودة به، إلى جانب عمله على الوقاية من الأمراض المزمنة، كما يعمل على تقوية العظام لاحتوائه على المعادن الهامة المعززة لصحة العظام والوقاية من هشاشة العظام، وخطر التعرض للكسور.
من هنا نستنتج أننا نقف أمام كائن نبيل مرن مفيد.
أتذكر كيف كان جدي يدهن لي رغيف "السيالات" أو "اللزاقيات" بالدبس والسمن البلدي، تلك الطعمة التي لن أنساها ما حييت. لكني أتساءل أيضاً لماذا نجح الفرنسيون بإطلاق "الكريب" إلى العالمية بينما ظلت "السيالات" و "اللزاقيات" حبيسة ذاكرتنا الى أن دفنت فيها؟
يساعد الدبس على الوقاية من فقر الدم لغناه بالحديد، ويحمي الخلايا من التلف لأنه غني بمضادات الأكسدة، إلى جانب احتوائه على معادن معززة لصحة العظام والوقاية من الهشاشة وخطر التعرض للكسور.
لماذا لا تقدم بعض مطاعمنا طبق تحلية من هذه الوصفات الذكية؟ طبعاً لا نتكلم هنا عن الحلويات الشرقية المعقدة، أتكلم عن منمنمات مطبخية شهية ولماحة. على كل حال هذا هو "الديبشا"، أحد أنواع ما يذرفه لنا العنب من جمال وحب:
شـآمُ أهلوكِ أحبابي، وَمَـوعِـدُنا أواخِرُ الصَّيفِ، آنَ الكَرْمُ يُعتَصَرُ
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع