تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، في رصيف22.
حينما سأل أحد العابرين بائعَ الشطائر العجوز أمام دار السينما: "لماذا اللهيب على هذه الدرجة من الشفافية؟"، أجابه: "إنها دهون البشر"، لن ينسى أحد في مدينة عبادان، تلك المدينة البترولية الأهم في جنوب غرب إيران، ليلة 19 من شهر آب/أغسطس 1978، إذ احتشد الناس أمام دار سينما "رِكْس" ينظرون بحيرة واستغراب إلى الدخان والنار الصاعدة منها.
حادث هز إيران وأحدث موجة استياء من النظام الملكي آنذاك، قبل أن يطاح به في ثورة شعبية بعد أقل من سنة على ذلك الحادث المرير الذي بقي نقطة سوداء في تاريخ البلاد.
"قبل ساعة من تصاعد رائحة اللحم المشوي وتغطيته أجواء المدينة، كان الوضع طبيعياً جداً في سينما رِكس. صالة باردة لكنها مزدحمة بانتظار عرض فيلم "الغزلان"، وأناس من كافة طبقات المجتمع، وعشاق قد لجأوا إلى الفن السابع ليتلاطفوا بعيداً عن أضواء المدينة. يُقال إنّ 600 بطاقة قد بيعت لذلك العرض الذي بدأ في الساعة 8:50 من المساء، فجلس المشاهدون على الكراسي وفاحت رائحة ساندويشات المارتدلا. وكان قد غفا بعضهم وسط العرض، وفجأة جاء صوت يصرخ: "احترقت السينما..."؛ هكذا جاء شرح الحادث في كتاب "سينما جهنم" الإيراني.
استمر الحريق حتى الصباح الباكر فأصبح من كان في الصالة رماداً، ويؤكد شهود عيان أنهم سمعوا أصواتاً عجيبة كالانفجار، فيشرح بائع الساندويش: "هو صوت انفجار الجماجم".
كتبت صحيفة "اطلاعات" الإيرانية حينها: "احترق 600 شخص في سينما رِكْس وهم أحياء، وأُعلن حداد عام في المدينة التي كانت تمرّ بصيف ساخن. كان في السينما كثير من الناس، وكانت هناك عائلة واحدة من عشرة أفراد، احترقوا كلهم. ما يزيد عن 100 جثة لا يمكن التعرف على أصحابها، فأذابتهم النيران، وأصبحوا خليطاً من شحم وبلاستيك محترق، دفنوا في قبر جماعي".
دخلت المدينة التي كانت تعرف بنشاطها وأفراحها وحفلاتها، في أجواء حزن مليئة بالصراخ والنواح والبكاء، فهناك من توقف قلبه ومات بعد سماع خبر احتراق أقاربه، وهناك من رافقه الحزن إلى مدى حياته، وهناك من غادر المدينة دون العودة إليها، بعد أكبر عملية إرهابية في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، قد هزّت قلوب الإيرانيين.
مَن أحرقها؟
أوردت وكالة الأنباء الفرنسية بعد مأساة حريق سينما رِكس: "مَن ارتكب هذه الجريمة؟ ما هو تأثير هذه الحادثة على التحولات السياسية للبلاد؟".
ونسبت وكالة أنباء "بارس" (pars)، التابعة للنظام آنذاك، أسباب الحريق إلى المخربين: "حريق سينما رِكس متعمد، وقد قام عملاء التخريب عبر خطة شيطانية بحرق السينما".
منذ بداية عام 1978، باتت الاحتجاجات الشعبية ضدّ النظام الملكي تعم البلاد، كما كانت دور السينما تمثل أيقونة الفساد والفحشاء في نظر الثوار الإسلاميين، وكانوا قد أحرقوا 29 صالة سينما في عموم البلاد قبل حادثة سينما رِكْس، لكنها كلها كانت مغلقة ودون سقوط ضحايا.
كل ما كان ينتمي إلى الإمبريالية أو اللا ديني، وقع تحت مساءلة اليساريين والإسلاميين، فأُحرقت الكباريهات والبارات ودور السينما في أولى لحظات اندلاع شرارة الاحتجاجات. ووقف البعض ممانعاً من افتتاح سيرك إيطالي في مدينة بابُل، لذلك ربطت الحكومة مأساة سينما رِكْس بمن أسمتهم مثيري الشغب وخونة الوطن.
بينما قال البعض إن إحراق السينما جاء من أجل فيلم "الغزلان"، الذي يعتبر معارضاً للنظام، وكانت الأفكار العامة لا تثق برواية الحكومة بل تعاطفت مع رواية المعارضة.
اعتقلت الشرطة السرية "السافاك"، بعض المشتبه بهم ليمتصوا غضب الناس، لكن روح الله الخميني، المرجع الديني المعارض الذي كان يعيش في المنفى، اعتبر الحادث "أكبر تخطيط الملك لتشويه سمعة الثورة".
كتبت صحيفة "ديلي تلغراف": "القوى الأمنية متأكدة من أنّ أعضاء منظمة تحرير فلسطين وقاعدتها في بغداد قد ساعدوا الإرهابيين الذين أحرقوا السينما. المسافة بين عبادان والحدود العراقية ليست أكثر من ستة كيلو متر. قالت الحكومة في بعض أخبارها إنّ الإسلاميين هم من نفذوا العملية. بيد أنهم في خضم الاحتجاجات وتوسعها لم يقبض إلا على بعض العناصر المشتبه بهم، فلم يشف ذلك غليل المصابين بفقد أهلهم. أدّت هذه الحادثة إلى كره شديد للحكومة وانضم أفراد بصورة كاملة إلى الثورة الشعبية لإسقاط الملك، بعد خمسة أشهر من الحادث، سافر محمد رضا بهلوي ملك إيران بحجة قضاء العطلة ولم يعد، وبعد مضي شهر قام أتباع آية الله الخميني الذي عاد للتو من المنفى بالسيطرة على البلاد وانتصرت ثورة عام 1979."
تابع سكان عبادان وأهالي الضحايا، ملف الحادث بعد الثورة، وصرح حينها بعض الناجين من الحريق أن حكومة الجمهورية الإسلامية لا ترغب في محاكمة المتورطين، ولكنها بضغط شعبي أغرمت على ذلك. كان القاضي هو حسين موسوي تبريزي، أحد رجال الدين الثوريين، والذي كان حاضراً أثناء وقوع الجريمة، ينقل أخبار الخميني لسكان المدينة في المسجد. عقدت اجتماعات المحكمة في سينما شركة النفط، وبعد 20 جلسة في 3 أيام ولفترة 50 ساعة، انتهت المحاكمة باتهام شاب في 23 من عمره باسم "حسين تَكبعَلي زاده".
من هو وماذا فعل؟
تؤكد اعترافات حسين في المحكمة وحواراته مع الصحف والمجلات: "أنا مدمن على الهروين والحشيش، أعمل حدّاداً وأبيع المخدرات. وتعرفت في حارتنا على شخص باسم أصغر نوروزي، وعن طريقه انخرطت في جلسات دروس القرآن".
كان قد قبض عليه قبل انتصار الثورة، كمتورط في الحادث، وسُجن فترة وتمّ التحقيق معه. بيد أنّ أوضاع البلاد المتدهورة في الأشهر الأخيرة قبل الثورة لم تتح فرصة محاكمته. مع انتصار الثورة هجم الشعب على السجون وحرروا السجناء، وتحرر حسين معهم. وبينما كان ضحايا الحريق يتابعون قضية الجريمة، كان حسين في نفس الفترة يراسل عدداً من زعماء الثورة يقول فيها إنّ السافاك أجبره قبل الثورة وبالتعذيب أن يعترف، وأنه بريء، وأظهر نفسه ثورياً يطلب من رجال الثورة مساعدته. كتب حسين في مكان ما: "باسم الله قاصم الجبارين" و"المهم هو أنّ الناس كيف يحاسبوني في محكمة وطنية".
اعترف أنه في لحظة عرض الفيلم ذهب مع ثلاثة أشخاص إلى سينما رِكس. أثناء عرض الفيلم ذهبوا إلى الممر، وسكبوا مواد حارقة على الجدران، وهو من أشعل الكبريت، فنشبت النيران، ولكيلا يشكّ فيهم عادوا إلى صالة العرض ليهربوا مع الهاربين
وقد اعترف في المحكمة أنه بتاريخ 19 آب/أغسطس 1978 وفي لحظة عرض الفيلم ذهب مع ثلاثة أشخاص إلى سينما ركس. أثناء عرض الفيلم ذهبوا إلى الممر وسكبوا مواد حارقة على الجدران، وهو من أشعل الكبريت، فنشبت النيران، ولكيلا يشكّ فيهم عادوا إلى صالة العرض ليهربوا مع الهاربين. بيد أنّ مرافقيه الثلاثة لم يُعثر عليهم. وصرح في المحكمة: "اعتقدتُ أنّ هذا العمل خطوة في طريق الثورة". حُكم عليه بالإعدام على أنه عميل جهاز السافاك، وكان يصرّ طوال الوقت أنه قام بهذا العمل من أجل الإسلام. كما قبض على 6 أفراد من السافاك، وصاحب السينما، ومدير الصالة، وأعدموا جميعاً.
برغم مرور 42 سنة على محاكمة حسين تكبعلي زاده، بيد أنّ الناس ما زالت تنظر إلى محاكمته بأنها جاءت سريعة، وثمة الكثير من الأسرار الخفية وراءها، فمن 50 ساعة مصوّرة لم يبق سوى 6 ساعات. لا يعلم أحد ممن تلقى حسين ورفاقه الأوامر؟ لماذا لم تحضر بعض الأسماء التي أشار إليها حسين في المحكمة؟ ولماذا لم يحصل المتهمون على محامي في جلسات المحكمة؟
ما زالت جريمة سينما رِكْس، بمثابة النار تحت الرماد مع أسرارها التي لم تكشف حتى الآن، ولكن بكل تأكيد إنها حصيلة مجموعة متطرفة وإهمال ومواجهات ومخاوف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...