"إن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان في أعقاب ثورة (كانون الأول) ديسمبر المجيدة يحتاج لمراجعات عميقة تتطلب تفاكراً حقيقياً على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدين". هذا ما جاء في بيان أصدرته قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، في 18 كانون الثاني/ يناير 2023، أعلنت فيه موقفها الرافض لدعوة من الحكومة المصرية للمشاركة في ورشة عمل بعنوان "آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع"، انطلقت في الثاني من شباط/ فبراير، وذلك في إدانة ضمنية للموقف المصري من السودان.
"هذه الخطوة تُعتبر تجاوزاً لروح الأخوة وحسن الجوار وانتهاكاً للسيادة الليبية لا يمكن القبول به، وإن ترسيم الحدود الذي أعلنته مصر غير عادل بموجب القانون الدولي، ويتعدى بشكل واضح على الحدود الليبية البحرية". هذا ما جاء في بيان أصدته لجنتا الشؤون الخارجية والدفاع والأمن القومي في البرلمان الليبي المنعقد في طبرق في الشرق الليبي في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2022، تعليقاً على إعلان مصر من طرف واحد، وبقرار رئاسي صدر في 11 من الشهر نفسه، ترسيم حدودها البحرية الغربية مع ليبيا.
"يُعتبر (ترسيم مصر حدودها البحرية مع ليبيا من جانب واحد) ترسيماً غير عادل بموجب القانون الدولي، لإعلانه من جانب واحد... ناهيك عن إخلاله بمبادئ حسن النية لمخالفته ما تدّعيه مصر في كل المحافل الإقليمية والدولية باحترام سيادة ليبيا ووحدة أراضيها"، جاء في بيان الخارجية الليبية الصادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2022، تعليقاً على القرار المصري.
"نحن نغيّر طريقة تقديمنا للمساعدات وتطويرها... اعتدنا أن نعطي منحاً وودائع دون شروط، ونحن نغيّر ذلك، ونقوم بالعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف... لنقول نحن نريد أن نرى إصلاحات"، قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان في إشارة إلى المساعدات السعودية لدول إقليمية لم يسمّها.
عواصف من الجهات الأربع
تبدو السياسة الخارجية المصرية محاصَرة من جهاتها الأربع، فمن الشمال لا يبدو أن ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا يحظى بدعم دولي كافٍ. ووصف "مجلس الأطلنطي"، وهو مركز بحثي أمريكي، الإعلان المصري بأنه "استيلاء" على آلاف الكيلومترات من المنطقة البحرية الليبية دون اتفاق مسبق مع الليبيين. وأدت الخطوة المصرية المفاجئة التي حدثت بدون تنسيق إلى توحيد الفرقاء في الشرق والغرب الليبي ضد مصر. فلأول مرة منذ فترة طويلة يتفق الشرق الليبي (حليف النظام المصري المقرّب) مع الغرب الليبي الذي يمثل حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دولياً في طرابلس والمقربة من تركيا، على موقف مشترك، وهو إدانة الموقف المصري، ما طرح تساؤلاً: هل فقدت مصر قدرتها على التواصل والتأثير حتى على حلفائها المقربين؟
في الجنوب، نجحت القاهرة نسبياً في صناعة تحالفات داخل القوى السودانية في الحركات المعارضة للاتفاق الإطاري مثل قوى الحرية والتغيير (جناح ما يعرف بالكتلة الديمقراطية المكونة من الحراك الشرقي المنبثق عن مجلس نظارات البجا، الحزب الاتحادي الديمقراطي جناح جعفر الميرغني، وحركات مسلحة في دارفور مثل العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بزعامة مني مناوي)، إلا أنها جمعت جبهة كبيرة من الساخطين على سياستها والرافضين لواسطتها. فبيان قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) المذكور سابقاً يعبّر عن تيار واسع في السودان يرفض التدخل المصري كما يرفض استنساخ النموذج المصري في السودان.
وغير بعيد من ذلك، اتفقت الأطراف الدولية على استبعاد مصر وتشكيل رباعية تضم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والسعودية، والإمارات للوساطة بين الفرقاء السودانيين، وهو ما أسفر عن توقيع الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والمجلس العسكري الحاكم بدون أي دور لمصر. كما رفض الموقعون على الاتفاق بشكل حاد أي دور مصري لتوسيع الاتفاق الإطاري عن طريق ضم العناصر المناوئة له. بل زيد على ذلك وصف الدعوة المصرية بأنها تهدف إلى تجميع قوى الثورة المضادة.
"يبدو أن السياسة الخارجية المصرية تواجه في اللحظة الراهنة أزمات كبيرة تراكمت بفعل أداء النظام المصري الذي يغلب عليه تفضيل الحلول الأمنية على الحلول الدبلوماسية"
ومن الشرق، تهب رياح موسمية محمّلة بتراشق إعلامي بين إعلاميين محسوبين على النظام المصري ضد الرياض، وإعلاميين محسوبين على النظام السعودي ضد القاهرة. وعززت ذلك التصريحات الضمنية للمسؤولين السعوديين بأن السعودية ستتوقف عن تقديم منح غير مشروطة، كتصريح وزير المالية السعودي المذكور، في مؤتمر دافوس. وأشارت تقارير صحافية إسرائيلية إلى أن مصر أوقفت تنفيذ نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير إلى الجانب السعودي في ما يبدو أنه احتجاج على اقتطاع جزء من المعونة الأمريكية من جهة، ونتيجة خلاف حول حزم المساعدات السعودية لمصر وطرق إنفاقها من جهة أخرى.
يبدو أن السياسة الخارجية المصرية تواجه في اللحظة الراهنة أزمات كبيرة تراكمت بفعل أداء النظام المصري الذي يغلب عليه تفضيل الحلول الأمنية على الحلول الدبلوماسية. ويبدو أن ثمة عوامل تراكمت في السنوات الماضية أثّرت على القدرات الخارجية المصرية.
أسباب التراجع الخارجي المصري
لعبت عدة عوامل دوراً في أزمات السياسة الخارجية المصرية الأخيرة أهمها:
أـ الإنهاك الاقتصادي
تسببت الأزمة الاقتصادية في وضع مصر دائماً في موقف غير قادر على المناورة طويلاً. فالتحالفات لا تذهب أبعد من قدرات الدولة على التأثير. وأهم هذه القدرات هو القدرات المالية. على سبيل المثال، يستطيع الفرقاء في السودان الاعتماد مالياً أكثر على السعودية والإمارات في تمويل العملية السياسية المتعثرة بأزمات اقتصادية، لكنهم لن يكونوا قادرين على الاعتماد طويلاً على القاهرة المنهكة اقتصادياً.
كذلك، أثّر وضع مصر الاقتصادي في بناء صورتها كحليف لدول الخليج الغنية. فالعلاقة التي اتخذت دوماً شكلاً مطلبياً بين الطرفين أضعفت فاعلية مصر الاستراتيجية وقدراتها على بناء علاقات صحية مع الشركاء الخليجيين المحبطين من الأداء الاقتصادي المصري، والذي وعلى ما يبدو، خالف توقعاتهم وفقاً للتصريحات المباشرة أو المبطنة القادمة من مصر ومن العواصم الخليجية. وأشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنفسه إلى أن دولاً خليجية تململت من طلب مصر المساعدات الاقتصادية التي شكلت "ثقافة اعتماد"، وفقاً لتصريح له.
ب ـ فقدان قوة التأثير (القوة الناعمة)
القوة هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين لتحقيق الأهداف إما عن طريق الإجبار، وهي قوة تخلق مقاومة كبيرة خاصة في العلاقات الدولية، وإما عن طريق الإقناع، من خلال تقديم حل أفضل أو نموذج أفضل للآخرين يمكنهم اتباعه، وهو ما يعرف بالقوة الناعمة.
لفترات طويلة، بنت مصر قوتها الناعمة من خلال سياسات يتم تقديمها للآخرين على أنها النموذج الملهم، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، غير أن تلك القوة الناعمة فقدت جزءاً كبيراً من فاعليتها مؤخراً. فمصر الرسمية خسرت معاركها الإعلامية في المخيلة العربية والعالمية مما أسهم في تقديم نظامها إعلامياً وسياسياً على أنه نظام سلطوي غير قادر على تحقيق تنمية حقيقية. فعلى خلاف الأنظمة السلطوية التي قدّمت نماذج نجاح اقتصادي تبرر لدى البعض الحكم السلطوي، يظهر النظام المصري على أنه سلطوية متعثرة لا تقدم مثالاً يحتذى، لا على المستوى الشعبي (كما يظهر في الحالة السودانية لقوى المعارضة المدنية التي ترى في النظام المصري نموذجاً لكل ما ترفض وجوده في بلادها)، ولا على المستوى الرسمي (كما في الحالة الخليجية الذي يظهر أمامها النظام المصري كحليف منهك مثقل بأزمات تستنزف قدرات حلفائه المالية).
ج ـ المخابرات بدل الدبلوماسية
تحوّلت السياسة الخارجية المصرية من المسار الدبلوماسي الذي تقوم عليه مدرسة الخارجية المصرية العريقة، إلى مسار أمني تقوم عليه المخابرات العامة. فتدريجياً، تسحب الدولة المصرية إدارة الملفات الخارجية الساخنة من وزارة الخارجية التي تستخدم وسائل التأثير الدبلوماسي والسياسي، وتسلّمها للمخابرات العامة التي يغلب على عملها الطابع الأمني وتشرف عليها مجموعة من الضباط ذوي الخلفية العسكرية.
"أثّر وضع مصر الاقتصادي في بناء صورتها كحليف لدول الخليج الغنية. فالعلاقة التي اتخذت دوماً شكلاً مطلبياً بين الطرفين أضعفت فاعلية مصر الاستراتيجية وقدراتها على بناء علاقات صحية مع الشركاء الخليجيين المحبطين من الأداء الاقتصادي المصري"
وظهرت إدارة المخابرات لملف العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية والعلاقات مع الفصائل الفلسطينية كنموذج اقتنعت الدولة المصرية بتعميمه على ملفات أخرى. في السودان، عقد رئيس المخابرات العامة، عباس كامل، لقاءات مع الأطراف السودانية في إشارة واضحة إلى أن المخابرات لا الخارجية هي التي تدير الملف السوداني. وأدت الإدارة الأمنية للملف إلى خلق اعتقاد لدى اطراف سودانية بأن مصر تحاول التدخل "لتغيير السياسات الداخلية للسودان".
في أحد المشاهد الأيقونية في السينما المصرية، يقف ريتشارد قلب الأسد، حمدي غيث، في فيلم الناصر صلاح الدين يشكو بمرارة خيانة الحلفاء. لكن لم يسأل ريتشارد نفسه ما هو الخطأ الذي جعل الجميع ضده. يبدو أن السياسة الخارجية المصرية تعاني من نفس متلازمة ريتشارد السينمائي؟
بعد نجاحات البدايات الأولى، حين استطاعت مصر ترميم علاقاتها مع دول العالم في وقت قصير وحصار تركيا في البحر المتوسط، ووضع خط أحمر لتمددها في ليبيا، وإقامة تحالف حديدي مع دول خليجية ضد الإسلاميين، تغيّر الأمر وصارت السياسة الخارجية المصرية تعاني. ذهبت سكرة ونجاحات البدايات لتجد السياسة الخارجية المصرية نفسها في المياه الإقليمية العميقة العاصفة. والمزعج لصانع السياسات الخارجية المصري أن العواصف مثل المصائب لا تأتي فرادى وتهب من كل الاتجاهات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...