شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"مثل أكل السفرجل، كلّ لقمة بغصّة"... نفخ الزجاج الدمشقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 24 مارس 202301:01 م

"المهن اليدويّة هي أوّل ما يتوقف عند الحروب، وآخِرُ ما يعود إلى العمل والإنتاج، إنْ عاد"! هذا ما يقوله "شيوخ الكار"، وهذه هي حال واحدة من أعرق الحرف التراثية الدمشقية وأكثرها خصوصية: مهنةُ صناعة الزجاج بالنفخ اليدوي، وهي من المهن التقليدية السورية المهددة بالاندثار بسبب الحرب وكوارثها، والتي يسعى مزاولوها والمهتمون بالتراث إلى إدراجها على "قائمة الصون العاجل لليونيسكو" أملاً ببعض الإنصاف التاريخي لها، ولأنّ "بحصة بتسند جرّة"، كما يقول المثل الشّامي، كنايةً عن الحاجة إلى الدعم الضروري للاستمرار فيها!

"رصيف22" التقى "آخر فرسان" هذه الحرفة المعلّم محمد الحلاق (أبو نعيم) وأخيه أحمد، اللذين أخبرانا حكايتهما.

يقول أبو نعيم: "أولَ من اكتشف الزجاج وصنّعه هم الفينيقيّون، وكان على شكل خرز الأطواق والعقود والحُليّ النسائية. ثم صنعوا قوارير العطور الفينيقية الشهيرة. لكن أوّل من نفخَ الزجاج هم الدمشقيون. وبالنسبة لي فأنا تعلمتُ المهنة من والدي الذي ورثها عن والده وجدّه، كان عمري تسع سنين (أنا من مواليد 1959) وكلمة (قَزَازْ) باللهجة الشامية هي نفسها (الزجاج) لكن الدمشقيين حرّفوها على عادتهم في تغيير منطوق الكلام فأصبحت (أجازْ) أو (قزَاز)".

"المهن اليدويّة هي أوّل ما يتوقف عند الحروب، وآخِرُ ما يعود إلى العمل والإنتاج، إنْ عاد"! هذا ما يقوله "شيوخ الكار"، وهذه هي حال واحدة من أعرق الحرف التراثية الدمشقية وأكثرها خصوصية: مهنةُ صناعة الزجاج بالنفخ اليدوي

وكان ولا يزال هناك حيٌّ يسمّى بـ"القزّازين" أي صانعو الزجاج، وهي كلمة دارجة كخطأ شائع، لأن المعنى الأصلي لـ"قزّاز" هي المشتغل في مهنة دود القزّ/الحرير.

ماكياجٌ للنّساء الشاميّات

"يُقال (أرقُّ من زجاج الشام)، وهذا مَثَلٌ شعبيّ يعود إلى ما قبل وجود أدوات الماكياج الحديثة"؛ يُكمل أبو نعيم حديثه وكأنّ لقاءنا معه أفاق ذكرياته: "إذ كان الحرفيّ يأخذُ قطعةً صغيرة جداً من الزجاج المصهور وينفخها عبرَ (ماسورة الحديد) لتصبح على شكل بالونٍ رقيقِ الحواف بشكل لا يصدّق (سماكة ميليمترات) وكأنه جناح فراشة، إلى درجة أنه وبمجرد أن تنفخ عليه بلطف يتحول إلى بودرة مطحونة كانت نساءُ الشام تتزيّن بها، ويضعنها على وجوههن وأجسادهن، حتى إن جدتي ووالدتي استخدمتا هذه الزينة، ولها في خاطري ذكرى جميلة".


الشاغور وخان الزجاج

يضيف أبو نعيم: "أهم منطقة للزجاج المنفوخ يدويّاً كانت تلك التي وُلدتُ وتربيتُ فيها أي الشاغور، وكان فيها 13 فرناً لصهر الزجاج وصنعه على شكل أدوات مطبخ من كاسات وصحون و(زبادي) و(أكواز الزيت) و(قطرميزات) حفظ (المونة) مثل الجبن والزيتون والمكدوس السوري والمخللات وغيرها. وكان عدد أفران الصهر كبيراً لأن أدوات المطبخ البلاستيكية أو المصنوعة من الستانلستيل لم تكن معروفة أو متوفرة يومها.

كنا نعاني جداً في الماضى لأننا كنا نُشعِلُ الفرنَ على مادة تسمّى (البيرينا) أو (الجِفت) أي بذر الزيتون المجفف بعد عصره، وكنا نستهلك كميات كبيرة لأن الزجاج المكسور الذي نضعه في الفرن يحتاج إلى حرارة أكثر من 1200 درجة مئوية ليصبح مادة مصهورة قابلة للاستخدام والنفخ فيها.

"مهنةُ صناعة الزجاج بالنفخ اليدوي" هي من المهن التقليدية السورية المهددة بالاندثار بسبب الحرب وكوارثها، والتي يسعى مزاولوها والمهتمون بالتراث إلى إدراجها على "قائمة الصون العاجل لليونيسكو" أملاً ببعض الإنصاف التاريخي لها

لكن بعد أن تهدّمت الأفران بفعل الزمن وصعوبة الاستمرار في صيانتها بسبب التكاليف العالية، انتقلَ والدي إلى هذا المكان (خان الزجاج في باب شرقي) وكان فيه حرفيون يصنعون (علب زجاج البويا/دِهان الأحذية)، وبدأ يخترع قطعاً زجاجية لم تكن موجودة في السوق الدمشقي، مثل: تُحف الزينة، المزهريات، أباريق الزيت الصغيرة بشكل مختلف عن كوز الزيت القديم، أنواع مختلفة من كاسات الشراب، وأهم ما صنعناه وأصبح ماركة مسجلة أو بصمة خاصة بآل الحلاق هي ثريات عنقود العنب الزجاجية، والتي يمكن أن نضع في داخلها لمبات/إضاءة تستخدم في إنارة البيوت العربية والمقاهي والفنادق التقليدية في الشام القديمة.

لكن اليوم للأسف توقفت السياحة الأوروبية إلى البلد بسبب الحرب، وتوقّفت عمليات التصدير والشحن، فقد كانت فرنسا أكثر دولة في العالم تطلب هذا النوع من الزجاج الدمشقي المنفوخ يدوياً، تليها ألمانيا، وهناك السويد وبلجيكا وسويسرا، أمّا في دول الخليج العربي فيفضلون أدوات الكريستال المذهّب".

مهنةٌ صعبةٌ... لكنها تُعشَق!

فيما يخبرنا أحمد الحلاق عن التفاصيل الصعبة التي لا يعرفها الكثير من الناس، يقول: "توقفنا حالياً بشكل شبه نهائي عن العمل والسبب الأهم هو انقطاع الوقود (نحن بحاجة إلى 190 ليتراً من المازوت يومياً) وتوفّر هذه الكمية هو أمرٌ مِن (سابع المستحيلات) مع الحصار المميت على سوريا، وعملية بناء فرن الصهر تحتاج إلى مهارة عالية وصبر طويل وتكلفة عالية تصل إلى عشرين مليون ليرة سورية للفرن الصغير (طوله 120 سم وعرضه حوالى 60 سم من الداخل)، فهو يصنع يدوياً أيضاً من آجرّ حراري مُطيّن بـ"طينة عربية" هي مزيج من التراب الأحمر والتبن والتراب الناريّ.

يُخلط المزيج ويترك للتخمّر يوماً كاملاً، ثم يتم (تطيين) الآجر من الخارج ليحفظ درجة الحرارة العالية جداً، والفرن من الداخل فيه (جرن) يتّسع لحوالى 70 كيلوغراماً من الزجاج المكسّر نضعها بعد أن نكون قد تركنا الفرن مشتعلاً لأكثر من 12 ساعة حتى يصل إلى درجة الحرارة المناسبة. لكن بمجرّد أن وضعنا الزجاج فيه لا يمكن التوقف عن العمل أبداً، ليلاً ونهاراً، فما أن يبدأ الفرن بالعمل لا يمكن أن يتوقف حتى تنتهي كميات الزجاج المصهور داخله. لذلك كنا نُقسّم العمل على ثلاثة أو أربعة أشخاص، وعلى مناوبات متواصلة، كلّ منها يمتد لحدود 8 ساعات، بالإضافة إلى الصعوبة الشديدة في تحمّل درجات الحرارة المخيفة.

"لولا أنني أحببتُ هذه المهنة حدّ الإدمان لما تمكّنتُ من الاستمرار فيها إلى هذا العمر، لأنها مثل (أكل السفرجل كلّ لقمة بغصّة)".

(يتنهّد العمّ أحمد ويكمل): هذه المهنة لا يمكن لأي شخص أن يستمر فيها ما لم يتعلمها منذ صغره، ويتدرب على النفخ المستمر الذي يؤدي أحياناً إلى مشاكل في الرئتين، وفي الفكّين، وفي العينين"!

"سرّ الصنعة"!

يعاود أبو نعيم سرد بقية الحكاية: "سأريك نموذجاً أفتخر أنني أوّل من صنعه، وأعتقد أنني الوحيد في سوريا، وهو يشابه النمط الفينيقي حتى من حيث المزيج والخليط المستخدم وهذا هو سرّ المهنة الذي لا أقوله لأحد (يبتسم)، وهناك بعض المواد الداخلة في نفخ الزجاج تُعطيه جماليات إضافية منها: أوكسيد الكوبالت للّون الكُحليّ، أوكسيد التوتياء للون الأخضر، أوكسيد النحاس من أجل اللون التركواز، وأوكسيد الحديد من أجل اللون البنيّ، وحالياً ندرّب مجّاناً بعضَ الأشخاص ممن يثبتون مقدرة ورغبة بهذه المهنة".


ويواصل: "هناك خطة من قبل المؤسسات الرسمية المعنيّة لبناء ما يسمّونه (قرية شام الياسمين لتعليم الحرف التراثية) وخاصةَ تلك المهددة بالاندثار، في محاولة من قبلنا -شيوخ الكار- لننقل خبرتنا لمن يرغب، ولكي تبقى هذه المهنة النادرة موجودة في تاريخ دمشق".

"متل السفرجل كل لقمة بغصّة"!

نسأل العمّ أبو نعيم أن يذكرَ لنا لحظة وجدانية من تاريخه المديد في هذه المهنة. يضحك ويقول:

"لولا أنني أحببتُ هذه المهنة حدّ الإدمان لما تمكّنتُ من الاستمرار فيها إلى هذا العمر، لأنها مثل (أكل السفرجل كلّ لقمة بغصّة)، لكنّ هناك (الحَلَق النسائي-أقراط الزينة) مِن أحلى ما صنعتُ في حياتي، وتبقى أجمل لحظة بالنسبة لي هي تلك التي يقولُ لي فيها شخصٌ ما وهو يشاهد عملي بإعجاب: الله يعطيك العافية"!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image