إلى درجات "المتحف الوطني"، عبر برنامج "فنّ وأرض" الّذي تنفذّه السفارة الفرنسية والفروع الإقليمية للمعهد الفرنسي في لبنان، بالشراكة مع المديرية العامة للآثار اللبنانية ومؤسسة "أمم"، دعا ألفرد طرزي الجمهور من أجل افتتاح تجهيز "نشيد الحب"، بعد ظهر الأحد 23 تشرين الأوّل/أكتوبر 2022.
ألفرد هو المُبدع الساعي بنشاط، منذ العام 1919، نحو جعلِ الذاكرةِ الجماعية تلتقي بالفن المعاصر (ذاكرة مدينة من ورق-The Lovers - A Nation's Inflation). بالمناسبة وأمام البوابة الرئيسة للموقع العام، رفع المنظمون نموذجاً خشبياً عملاقاً يحاكي بعناية "قصر الصنوبر" المحاذي. ومن داخله، أقام كلٌّ من الفنانين شربل هبر، ساري موسى، فادي طبّال وسيرج يارد حفلاً موسيقياً استثنائياً، شكّل نوعاً من رحلةٍ صوتية للحاضرين.
فهؤلاء، من تلك المساحة العامة، ما لبث أن وُجّهوا إلى فضاء آخر عائلي بقي غامضاً لهم حتّى لحظةِ رفع الستار الحديدي عنه. أقصد ذلك الهنغار (العنبر-المرآب) الذي منحه مؤخراً صديقُ الفنان له إلى حين هدمه، فبات عملياً محترفاً له ومعرضاً للناس. أما الهدف، فهو الكشف للعيون عن إرث عائلة طرزي المدهش والعريق في تجويد المفروشات الخشبية العالية، والأواني النحاسية المشغولة، تلك الّتي ذاع صيتها حتّى قصور مصر والمغرب.
دردشة مع صاحب المشروع
لحظة، ولنرجع بعيداً إلى الوراء؛ في دردشة مع صاحب المشروع، قال لـرصيف22 إنّ وفق أنسابه المهتمين بدراسة شجرة العائلة، يعود أصلهم إلى أرمن سوريا، حيث عُرفوا بآل "ترزبرشيان"، وهي كلمة تعني باش طرّاز أو كبيرهم. أمّا الجدّ الأقرب، فهو مؤسس فندق "آلكازار"، المُتاخم لـ"سان جورج" الشهير. فعاشت هذه العائلة عزاً وهّاجاً، إلى أن اندلعت الحرب الأهلية فكانت "معركة الفنادق" (1975) نقطةَ تحوّل "الشُغل". معها، انقلب لوبي المنتجع السياحي وغرفه إلى معمل لا يهدأ من حوالى 30 حرفياً، يصنعون بشكل أساسي ومع الأب، الثريّاتِ الأنيقة والسقوفيات المتقنة للسعودية.
في "نشيد الحب" استعاد الفنان ألفرد طرزي، جانباً من تاريخ عائلته الذي يتصل أيضاً بتاريخ الفنون الحرَفيَة في لبنان وبلاد الشام عامَة من درج المتحف الوطني في بيروت
دام الحال إلى عام 2008، حيث استقال نوعاً ما الوالدُ المُنهك، ووضع بين يدي الولدِ كلَّ ما راكمه بدرايةِ وشغفِ ابن الكار الأصيل. والجدير بالذكر أنّ اليوم، في المكان نفسه، قد حلّ بنك أيضاً. أمّا بالنسبة للشاب الّذي زار متاحف العالم، فلا يقتصر فعل الأرشفة على حفظ كلّ ما هو ورقي، فحسب، بل لمقتنياته العتيقة -وإن هي أصغر عمراً بين غيرها- دورٌ هام في تدوين تاريخ الصنعة بأدواتها وتقنياتها، وفي تسجيل تطور أنماط العيش الّتي سادت غابراً. هو يلحظ أنّ لدينا متحفاً وطنياً جميلاً جداً، ومتاحف حديثة متنوعة كـ"سرسق" مثلًا، لكن بينها ما يناهز 2000 سنة من غياب تام لما أُنتج في الأركيولوجيا، الأنثروبولوجيا وفنّ الزخرفة (Art Deco).
ولدى طرزي -الّذي يبدو حالماً أنّ نوثق مشرقيتنا بأنفسنا- قطعة قيّمة للغاية، ركّزها عند نقطة انطلاق خطّ الطواف داخل "الهنغار" المنتهي بأعمدة الأسرّة المندثرة. خريطة الروّاد المعلّقة هناك، تشير إلى أنها نموذج "الباب الصغير للبنان الكبير". ويعرّف عنها بدوره على أنها المجسم الأوّلي لباب قصر الصنوبر الأسطوري، إذ أشرف أجداده على تأثيثه ليكون "سركل القمار"، وملحقاً بـميدان سباق الخيل، قبل أن يغدو مسكنَ المفوّض أيّام الانتداب، ومسكن السفراء حالياً.
سدّ طرزي أيضاً الفتحات الّتي خلّفتها مئات الرصاصات في سقف الهنغار الحديدي بكسرات الزجاج الملّون الّذي طالما زيّن بيوتنا العامرة. وفي منطقتنا المخروبة، بدا هذه المرة، حالماً بتدوير القنص إلى نورٍ يشبه السكّانَ الّذين يحبون هذا البلد ويصبون لخيرِه.
"بُعيد 100 سنة على تأسيس لبنان الكبير، مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون وما شهدتْه من انهيارات غير مسبوقة، أحسستُ كما لو أنني أمشي في تأبين الجمهورية وأنشد عزاءً ما، على غرار كثرٍ من أبناء جيلي الذين عاشوا الحرب مراراً، لكنهم لم يشعلوها قط"
تعرف رصيف22 من بين الحضور على وجه الحكواتية نسيم علوان، فسألناها بماذا شعرت وفكّرت فور التجربة، فأجابت: "رائعٌ ذلك المجسم الخشبي ذو القناطر العديدة! في البداية، علت التساؤلاتُ الوجوهَ، ثم صدحتْ موسيقى أشبه بضوضاء تَخلّلها أحياناً غناءٌ… أو ربما صلوات". وأضافت: "تساءلت بدوري: لماذا كلّ هذا الضجيج ونحن بحاجة لبعضٍ من السكون فقد أنهكنا ضجيج البلد؟". وتابعت: "كانت الموسيقى بوصلتَنا، فسِرنا في مجموعة متراصة بدون أيّ شرح، حتّى وصلنا إلى مدخل غريب".
ذاكرة الوطن
وواصلت نسيم: "المفاجأة كانت عند الخطوة الأولى باتجاه الداخل؛ شعرتُ بعبثٍ جمعَ بين هنا وهناك، اليوم والبارحة، العتمة والنور. دخلنا إلى ذاكرة الوطن، مدينة انتصبت أمام أنظارنا عبر الأبواب المفتوحة، المشرقة. رأينا القناديل المعلقة، الأباريق المكدّسة، المرصعقة بعشق صاحبها. رأينا الماء والضوء. تنشقنا عبقَ مكان يجمع أمكنةً تسللت إلى أرواحنا". وختمت: "خرجنا خفافاً، مسحورين، وقد نسينا ضوضاء الخارج. ابتسم لنا من خلف شارب كثيف رجلٌ أشيبُ الشَّعر والحاجبين. بدا كأنه لا يزال عالقاً في تلك الذكريات. استفسرتُ عن هويته، فعرفت أنه والد ألفرد. ثم عدنا نحمل فينا (نشيد الحب)".
لحظة ثانية ونعود إلى الحاضر. بحسب طرزي، "إنّ النغمات الجنائزية الّتي انطلقت معها المسيرة روت أسطورة الملك ميداس، الّذي يحوّل كلَّ ما يمسّه إلى ذهب، للمقاربة مع مدينة أضحت جلُّ عمارتها من الخرسانة. تلك الطريق القصيرة سوف تعلَّم قريباً بسلسلة غرافيتي تروي الحكاية وتسهل الوصول.
ثمّ بُعيد 100 سنة على تأسيس لبنان الكبير، مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون وما شهدته من انهيارات غير مسبوقة على جميع الأصعدة وعيد الاستقلال، أحسستُ كما لو أنني أمشي في تأبين الجمهورية، وأنشد عزاءً ما، على غرار كثرٍ من أبناء جيلي الذين عاشوا الحرب مراراً، لكنهم لم يشعلوها قط".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...