شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حمالة الصدر

حمالة الصدر "السوتيان": القشرة أطيب من اللبّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 18 فبراير 202311:58 ص

أشيائها

 

"غطي هذا الثدي الذي لا أستطيع رؤيته"، يقول طرطوف ويعطي دورين منديلاً، تردّ المربية: "أنت إذن هش أمام الإغراء".

كان موليير منذ أزيد من ثلاثمائة وخمسين سنة يوضّح وجهة نظر النساء اللواتي ظهرن في الستينيات وحتى الآن، ويهاجمن حمالة الصدر، الصندوق المغلق الذي يمنعهن من التنفّس، ويفنّد مقولة الإغراء التي يرفعها الذكور لمواجهة عري الثدي.

وحّدت حمالات الصدر بين النساء، كبيرة، صغيرة، متدلية، مرفوعة، مستديرة، قاسية. حمالات الصدر الآن تمحو العيوب وتخفي الحلمات البارزة، وتجعل الأثداء كلها، مثيرة وممتعة للنظر. كل الأثداء الآن في موقع واحد من بهجة النظر، وكل العيون تتجه صوب "قمتي المرمر" اللتين تصوّبان مدافعهما نحو "خائنة الأعين"، وتجعلان من الذكور كالكلاب التي تكاد يغمى عليها من العطش.

سرية السوتيان

تقع السوتيان في النطاق السرّي للمرأة وتمثيلاتها، في حرز متين ومساحة سرية، حيث لا يجب أن يظهر طرف منها أبداً لعين الناظر، خصوصاً الذكر. هذا الخوف الذكوري من أي تمثيل علني للمرأة تمثل في القرن التاسع عشر باختراع المشدّات والكورسيهات، التي وصفت بأنها أدوات تعذيب فحسب: صناديق قماشية مدعّمة بقطع خشب وقضبان من المعدن. إنها بالنسبة للمؤلفة والمفكّرة الفرنسية كميل فرويدفو ميتيري: "زي اجتماعي كزي المسرح للخروج والحماية". ترتدي المرأة سوتيانها فتصبح امرأة، جاهزة لتقع موقع النساء في العالم، تخلعها فتتحوّل إلى عاهرة، في الحيزين، السري والعلني، فهي لا تخلع إلا لممارسة الجنس.

هي دلالة عبودية ودلالة نقصان، بدونها لا تصبح المرأة امرأة، ولا يستقيم وجودها في "المجتمع"، فتواجه النساء مجموعة ضخمة من الإملاءات الني توجّه المظهر وتقولبه في تفضيلات ذكورية، والأثداء أكثر من غيرها تقع في مجموعة ضخمة من التوجيهات والأوامر لتتطابق مع معايير نموذج جمالي وجنسي تم تشكيله في مسيرة اجتماعية طويلة، ويأتي السوتيان هنا ليقسر الأثداء على التوافق مع هذه التفضيلات المثالية المتوقعة، أثداء مرفوعة ومستديرة وتكاد تنفجر من الضغط، حتى لو أدى ذلك لخنق المرأة ومنعها من التنفّس، وتحبس أنفاس الذكور اللاهثين خلفها كالجراء.

وحّدت حمالات الصدر بين النساء: كبيرة، صغيرة، متدلية، مرفوعة، مستديرة، قاسية. حمالات الصدر الآن تمحو العيوب وتخفي الحلمات البارزة، وتجعل الأثداء كلها، مثيرة وممتعة للنظر... مجاز

كان الأمر كذلك في العصور القديمة، كانت النسوة يرتدين "الستروفيوم"، وهي شرائط كتانية تلف حول الصدر لإخفائه، لمنعه من "البروز" وتهديد "الجدية" التي يختصّ بها الذكور. السوتيان كاريكاتوري، طرفة فحسب، موجودة لتضحك الصبيان وتمتع الذكور، ولتصنع الفارق بين "خفّة" المرأة و"رصانة" الرجل. "المرأة بسوتيانها والرجل بسلاحه الحربي"، هكذا خرجنا إلى العالم، وهكذا نريده أن يبقى: الثديان للمرأة وللرجل قضيب مرفوع كإله الحرب مارس.

تمّ ارتداء الكورسيهات لمدة أربعة قرون تقريباً، من القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين. أربعمائة سنة من تشويه الجسد الأنثوي لصالح "جمالية" العفّة، أربعمائة سنة من خنق الصدر وضغط الخصر، أما ظلّ الحلمتين، قطعتي المارشميلو الداكنتين، قطرتي الاسبريسّو في صباح مشمس، فكان منالاً بعيد المنال وعيباً لا يخفى إلا بالوصم.

وظيفة حمالة الصدر

نستطيع أن نكون متطرّفين ونقول: "إغاظة الرجال في كل مكان"، أو نتفزلك على طريقة كونديرا ونقول: "وظيفة حمالة الصدر هي دعم شيء أثقل مما توقعنا، وقد تمّ تقدير وزنه بشكل خاطئ كلياً ويجب دعمه بعد فوات الأوان، مثل دعم شرفة مائلة بدعامات".

ثمة تناقض في تواجد الأثداء وحضورها في التفضيلات الذكورية، فمن ناحية يرغب الرجال بحجوم أكبر وظهور علني للثدي، ومن ناحية أخرى ينشأ تهديد لمكانة الذكر بين أقرانه، وفي العالم بشكل عام، من الحضور المبالغ في تقديره والاعتناء به للأثداء. يضعنا الثدي، كذكور، في مرمى نيران المفاهيم، التصنيفات، الطفولة الأبدية والرغبة بالرضاعة حتى عمر الثمانين. يقلقنا الثدي ضمن "حمالته/ صندوقه"، إذ يبدو فجاً كثمرة إجاص، وما إن يفلت من عقاله حتى ندوخ وتصعقنا السيولة فيه، الرجراجة، الإناء الذي يعيدنا أطفالاً "هبلاً"، فرحين بالثمار المتساقطة وحائرين من رغبتنا بنهشها.

"أحب الصوت الذي يصدره ثديي المتحرر من قفص الحمالة عندما أنزل الدرج. أحب شكله الحرّ وقممه الصغيرة"

كل الملابس تخلق تساؤلات عن دورها، كما أنها ليست ذات استخدام بديهي: الفساتين للنساء والبنطلونات للرجال، ذلك أن العلاقة مع القطع التي تلامس الجسد تتصف بغموض وحميمية معاً، خصوصاً الملابس الداخلية، والسوتيان منها، إذ يتقاطع في المخيلة كل ما له علاقة بالجسد الأنثوي وإفرازاته، ملمسه ورائحته، الملابس الداخلية للمرأة ربما تثير أكثر من المرأة نفسها، في مخيلة الفيتشيين الذين يكتبون هذا النص حالياً.

وغالباً ما تقع النساء نتيجة هذا التناقض الذي يجدن أنفسهن فيه، في خطأ معرفة القياس المناسب لهن، إذ إنهن يخترن حمالة الصدر ليس بناء على راحتهن أو ما يقدّرن أنه حجم أثدائهن، بل بناء على نظرة الذكر لهذا الأمر، فالعديد منهن يحشرن أثداءهن في حمالات ضيقة وهن يعتقدن بأنهن أقل حجماً مما ينبغي لامرأة تلفت انتباه الرجال، أو العكس.

تأتي حمالة الصدر عبر تاريخ تشكلها وتطورها من مجموعة أشرطة قماشية إلى منتج معقد كالذي بين أيدينا، مدعومة بخطاب كامل وصورة أتت عبر هذا الخطاب، فهي كفّت عن كونها منتجاً له استخدامات صحية أو حتى جمالية، بل يتدخّل حتى في تفسير مفهوم الأنوثة نفسه، والتمثيل الكامل للجسد الأنثوي، فالصورة تمنح إحساساً أن الثدي نفسه لم يعد ذا أهمية بالنسبة للتفضيلات الذكورية نفسها، ولا مداعبته أو عضّه أو مصّه، بل مدى مطابقته للخطاب ولسيطرة معينة ضد النساء: يجب ألا يتحرّك ولا يترجرج، يجب أن يكون الجسد أملساً، بدون تجاعيد، جسد صلب، منظّم، يسير جنباً إلى جنب مع الخشية من "الرخاوة".

نستطيع أن نكون متطرّفين ونقول إن وظيفة حمالات الصدر "إغاظة الرجال في كل مكان"، أو نتفزلك على طريقة كونديرا ونقول: "وظيفة حمالة الصدر هي دعم شيء أثقل مما توقعنا"... مجاز

وانتقلت الحمالة من كونها أداة للاستخدام إلى تمثيل واقعي للثدي، بحيث أصبح ظهورها في العلن يماثل ظهور الثدي نفسه، وينظر للمرأة التي تقوم بنشر حمالاتها على حبال غسيل ظاهرة أنها تفتقد للحياء، بل وعاهرة، ومعادل ذلك إجبار النساء على الظهور بالحمالات كنوع من العقاب أو الفضيحة، كما حصل في ثورة يناير في مصر على سبيل المثال، أو حين عريت الصحفية أطوار بهجت بعد قطع رأسها في العراق، كعقاب لها، لكن الأمر لم يكن أكثر من خوف ذكوري من الثدي الذي يتفلّت من الناظر ويدفق في الهواء.

No Bra

في عام 2014 في حفل توزيع جوائز الأزياء CFDA، عندما سأل أحد المراسلين الصحفيين المغنية ريهانا، لماذا اختارت عدم ارتداء حمالة صدر تحت الثوب الذي ارتدته، ردّت: "هل يزعجك ثديي؟ رغم أنه مغطى بكريستال شوارزوفسكي!".

اكتسبت حركة "لا لحمالة الصدر" صدى متجدداً، خصوصاً خلال فترة الحجر وانتشار كورونا، اتصالاً باحتجاجات 1968، أحد الاضطرابات التي أسّست للموجة الثانية للحركة النسوية، ولكن على قاعدة أخرى من عدم الإجبار، وترك للمرأة حرية ارتداء السوتيان من عدمه، طبقاً لخياراتها، وأصبحت عبارة جيرمين جرير في عام 1970 رمزاً للفكر النسوي المعاصر: "جسدي خياري".

وكتبت الصحفية الأميركية هيلاري برينهاوس في 2017: "أحب الصوت الذي يصدره ثديي المتحرر من قفص الحمالة عندما أنزل الدرج، أحب شكله الحرّ وقممه الصغيرة. أحب حمل أوزانه، تماماً كما أحب أن أحمل بقية جسدي. يتلويان ويقفزان ويشكلان بركاً من العرق تتدفق عبر السرّة. هناك دائماً جزء مني يرقص".

"لا مزيد من الألم تحت الأسلاك، لا مزيد من الأشرطة الخانقة والمشابك، وتعذيب العمود الفقري"... هذا التخلي المضطرد عن ارتداء الحمّالة يتيح للعديد من النساء إمكانية التحكّم بأجسادهن واتخاذ القرارات الملائمة لهن، بعيداً عن الإملاءات الذكورية والتفضيلات المهيمنة.

بغض النظر عن المفارقة التي تصنعها الدعوات هذه، إلا أننا لا نستطيع إنكار أنها حطمت العديد من الحواجز والعقليات، خصوصاً لجهة حرية المرأة في ارتدائها من عدمه، خصوصاً لناحية ظهور "تأثير الحلمة" على الذكور، إذ نخرج هذا الجزء المهم والفاتن من منطقة الحميم لندخله في الطبيعي، ذلك أن المحظور  يفقد جدواه هنا، ويصبح "اعتيادياً" لجهة البروز والملاحظة، حيث يمكن القول هنا: "مهما كانت طريقة موتي، أريد أن يقال إنني غرقت في ضوء القمر واختنقت بحمالة صدري الخاصة"، وأي ميتة ألطف من هذه ياأختي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard