كعادته، لا يبخل أحمد سعيد (35 سنةً)، على أهله وأقاربه وأصدقائه بحضور مجالس العزاء الخاصة بفقدهم أحداً من ذويهم. صيف العام الماضي كان حافلاً بمجالس العزاء التي حضرها. يقول: السبب يعود لأمرين، الأول وباء كورونا الذي فتك بالعراقيين، وقتل منهم أكثر من عشرين ألفاً، والثاني حوادث السير التي لا تقلّ خطورةً عن كورونا، فقد يصل الفقد السنوي إلى أكثر من عشرة آلاف ضحية حسب إحصاءات رسمية.
في أحد مجالس العزاء، يدخل أحمد كعادته برفقة أقاربه ليقوموا بالواجب. قبل كورونا، كانت التقاليد تتحدث عن وجوب مصافحة الجميع يداً بيد، مع قبلة على الخد الأيمن، وعناقٍ لأهل المتوفى وأصحابه. أما مع كورونا، فصار التباعد ضرورياً؛ سلام هوائي، ثم جلوس، فقراءة الفاتحة.
جلس أحمد في منتصف السرادق، جاوره في مجلسه شاب في متوسط العمر بملابس شبه رثّة، لا يبدو أنه يعرف أحداً، ولا أحد يعرفه من الحاضرين. أخرج من جيبه هاتفاً متواضعاً، وأخذ يُحدث المتصل به همساً: "هناك مجلس عزاء (فاتحة)، في قطاع رقم 24 في مدينة الصدر (شرق بغداد)، قرب جامع الصادق عند العشيرة الفلانية" .
كان الجميع على موعد مع وجبة الغداء المجانية التي يقدّمها ذوو المتوفى للمعزّين. أغلق هاتفه، وأخذ يتصل بالثاني والثالث والرابع والخامس. يقول أحمد: "أثار الشاب فضولي. أحسست بأن شيئاً ما يترتب، فأخذت أطالع وجوه الداخلين في تلك اللحظة، وإذ بخمسة أفراد يتشابهون من حيث المظهر والسلوك مع الجالس بالقرب مني.
العظّامة معروفون في كل مدينة الصدر، لا يتناولون الغداء ولا طعام العشاء في بيوتهم. يجوبون قطاعات المدينة التي تتجاوز السبعين قطاعاً، بحثاً عن الأكل، وهم ليسوا بالضرورة فقراء
يضيف: "انتهى وقت صلاة الظهر. طبعاً صاحب الهاتف والمهاتَفين، لا علاقة لهم بالصلاة، وأنا كذلك. في هذه الأثناء، وصل الغداء: صوانٍ كبيرة جداً مليئة بالرز واللحم. رصد المعنيون الصواني، وأيها أكبر وأغنى، وتراصفوا عندها. اجتمع المعزّون بعد الصلاة، وصاح أحدهم: "تفضّلوا إلى الغداء يرحمكم الله".
يُكمل أحمد سرد روايته: "همّ جاري في المجلس ومَن معه، وأخذوا يتناولون اللحم وكأنهم لم يتذوقوه من قبل. ملأوا جيوبهم بما يمكن من فواكه وعبوات بيبسي. خرجوا من السرداق مجتمعين، فصاح بهم أحد الموجودين، وهو قريبي: كيف وجدتم الطعام؟ شهادتكم تهمنا، فردوا بصوت واحد: عاشت الأيادي".
أبرز نموذج تاريخي للعظّام، هو شخصية أشعب الطامع الذي انتقل من المدينة وعاش آخر أيامه في بغداد زمن خلافة أبي جعفر المنصور، وشقيقه المهدي.
سأل أحمد قريبه عن هؤلاء الناس، فأجابه: "هؤلاء عظّامة، معروفون في كل مدينة الصدر، لا يتناولون الغداء ولا طعام العشاء في بيوتهم. يجوبون قطاعات المدينة التي تتجاوز السبعين قطاعاً، بحثاً عن الأكل. انتاب أحمد الكثير من الفضول لمعرفة هذه الشريحة التي لا يُعرف عنها إلا "طراطيش" كلام. بدا له أن معلوماتٍ كثيرةً فاتته، فتبع أحدهم، وعرّفه بنفسه، وقال له: أريد أن أتحدث معك. تمنّع أولاً، ثم رضخ، واتفقا على اللقاء في مطعم ليمونة، وهو مطعم معروف في مدينة الصدر.
في اليوم التالي، التقى أحمد بالشاب، فوجده غير مستنكفٍ من مفردة عظّامة. لم يبادره بأي سؤال قبل أن ينتهي من تناول الغداء، متهيئاً أن تكون "نفسه مفتوحة على الكلام، كما كانت لجهة تناول الطعام".
حين انتهى، دار بينهما الحوار التالي: سأله أحمد: من أنتم؟
ج: نحن عظّامة. أحمد: ماذا يعني ذلك؟ ج: العظّامة مجموعة من الأشخاص يأكلون في الفواتح والأعراس، ونعمل بطريقة المجاميع.
حين يكون هناك أكثر من عزاء أو فرح، تكون المفاضلة بالنسبة إلى العظّامة على أساس الطبّاخ (الشيف). ولكل سرداق لافتة تعريفية، وتالياً يعرفون من الطبّاخ، فيقررون على هذا الأساس
أحمد: أريد المزيد من التفاصيل. ج: نحن كعظّامة مُتفقون في ما بيننا على أن أي شخص تكون في منطقته فاتحة، أو عرس، أو عزاء، عليه أن يُبلغ جماعته، وإن لم يفعل لا يعود منّا. في مدينة الصدر، أكثر من 70 قطاعاً، يسكنها أكثر من ثلاثة ملايين شخص، فلك أن تتخيل كمية الفواتح والأعراس فيها... المهم لا نأكل ولا نشرب في بيوتنا.
بادره أحمد بمزيد من الأسئلة، فكان جوابه: "العظّام ليس فقيراً، والعظّامة ليسوا مشرّدين، أو محتاجين إلى المساعدة. نحن ببساطة نستسيغ طعام المآتم. نتواصل في ما بيننا عبر الهاتف. بعض الجماعات ابتكرت أدواتٍ حديثةً كالواتساب، ولكنّي لا أعرف ما هو، كما أن هاتفي قديم لمثل هذه الأمور.
أحمد: كيف تختارون مكان الأكل، إذا كان هناك أكثر من عرض؟
ج: في القطاع الواحد، من الممكن أن يكون هناك أكثر من عزاء أو فرح، وتالياً المفاضلة تكون على أساس الطبّاخ (الشيف). ولكل سرداق لافتة تعريفية، وتالياً نعرف صاحبه، ومَن الطبّاخ الذي يتعامل معه، وعلى هذا الأساس نُقرر.
انتهى الحديث، وعاد كُل منهما ليُكمل حياته. أحمد إلى يومياته وعمله، والعظّام ليرى أين سيتناول وجبة العشاء، كونه اكتفى بما حصل عليه في جلسته في المطعم.
هناك صفحات تُعنى بالعظّامة، وللسخرية هناك بطاقات تعريفية لهم شعارها الملعقة والشوكة. يتواصلون عن طريق فيسبوك، وتحديداً عن طريق المجموعات، والدخول إلى هذه المجموعات يحتاج إلى تزكية عظّام قديم.
العظّامة، من الناحية التاريخية، ظاهرة لها جذور بعيدة، لكنها بدأت تتمظهر جلياً في تسعينيات القرن الماضي، عندما دخل العراق مرحلة العقوبات الاقتصادية، بعد غزوه الكويت. عندها، دب الجوع في مفاصل الشعب، وصارت وجبة الغداء قضيةً من بين القضايا التي تؤرق الفرد العراقي.
يقول الدكتور عباس عبود، وهو مختص في التاريخ العراقي المعاصر: "أبرز نموذج تاريخي للعظّام، هو شخصية أشعب الطامع الذي انتقل من المدينة وعاش آخر أيامه في بغداد زمن خلافة أبي جعفر المنصور، وشقيقه المهدي. وهو تميّز بالتطفل على الموائد، وامتهان تسوّل الطعام بطرق فكاهية لا تخلو من الطرافة والبراعة بالشكل الذي يجعله ينتزع ما يريد من طعام، بأسلوب محبب وطريف، وقد امتلأت كتب التراث بنوادر أشعب، وطرائفه".
ويضيف: "مفهوم العظّامة المتداول اليوم، ليس بالجديد. ففي كل مجلس عزاء ومناسبة، اشتهر العراقيون بالبذخ في تقديم الطعام. في سبعينيات القرن الماضي، كان عدد سكان بغداد لا يتجاوز ثلاثة ملايين من أصل 11 مليون عراقي. ولكن بعد سنوات الحرب العراقية الإيرانية، بدأت تكثر مجالس العزاء، وكثرت معها إفرازاتها، وقد تبعتها سنوات الحصار التي أفرزت هي الأخرى فئاتٍ حُرمت من أصناف أساسية من الطعام، لذلك ظهرت مجاميع متطفّلة على الحفلات والموائد ومجالس العزاء".
وضوح ظاهرة العظّامة اليوم، بهذا الشكل، حسب عبود، يعود إلى قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على تجميعهم، وتنظيمهم، والإسهام في شهرتهم، وليس لأي سبب آخر. ولا تقف قضية العظّامة عند الطرق التقليدية، فالتواصل الاجتماعي لعب دوراً في ذلك .
يقول حسين عذاب، وهو مختص في مواقع التواصل الاجتماعي: "هناك صفحات تُعنى بالعظّامة، وللسخرية هناك بطاقات تعريفية لهم شعارها الملعقة والشوكة. يتواصلون عن طريق فيسبوك، وتحديداً عن طريق المجموعات، والدخول إلى هذه المجموعات يحتاج إلى تزكية عظّام قديم".
في محرم وصفر يتوقف العراقيون عن إحياء حفلات الزفاف، لكن ما يعوض عنها بالنسبة للعظّامة هي المواكب الحسينية، وكثرة الولائم التي تُقام عن روح الإمام الحسين.
ظهر مؤخراً نوع آخر من العظّامة يُدعى "المعلنون عن الطعام" في المطاعم. يقول عذاب: "بعض الأشخاص امتهن مهنة التجول في المطاعم، وتصوير مقاطع الفيديو للإشادة بالطعام، ودعوة الناس إلى زيارة المطعم. هم عظّامة من نوعٍ آخر، لا تدري كيف لهم أن يتذوقوا خمسة أصناف من الطعام، أو أكثر، خلال وجبة واحدة".
للعظّامة فترات ذهبية، وأخرى فضّية، يقول أبو حسن، وهو العظّام الذي جمعته طاولة المطعم بأحمد. يضيف: "شهر رمضان فترة غير مناسبة، لأننا لا نصوم، وفي الفواتح لا يقيمون إلا وجبة الإفطار، فنضطر في هذه الفترة من السنة إلى العودة إلى وضعنا الطبيعي، ومن يَصُم منا فلا خوف عليه، فإفطاره موجود في كل مكان".
أما خلال شهر محرم، فيقول: "نبقى رهناً لمجالس العزاء فحسب. ففي محرم وصفر يتوقف العراقيون عن إحياء حفلات الزفاف، لكن ما يعوض عنها هي المواكب الحسينية، وكثرة الولائم التي تُقام على روح الإمام الحسين".
يقول الباحث الاجتماعي، ساطع راجي: "مصدر العظّامة علاقة العشيرة بمضيف الشيخ الذي يكثر فيه اللحم في بعض المناسبات، وحضور الضيوف من عشائر أخرى قديماً، وهو ما يعني أكلاً مجانياً وجيداً في زمن الفقر. تراجع تأثير هذا الأصل حتى جاء الحصار، وتم استحضار الممارسة من الذاكرة الجماعية، طبعاً بعدد أقل، لكن التطور اللاحق للظاهرة كان أوسع عبر المناسبات الدينية عام 2003".
شهر رمضان فترة غير مناسبة بالنسبة للعظّامة، لأنهم لا يصومون، وفي الفواتح لا يقيمون إلا وجبة الإفطار، فيضطر العظّامة إلى العودة إلى وضعهم الطبيعي، ومن يصُم منهم لا خوف عليه، فإفطاره موجود في كل مكان
ويضيف: "حالياً نعيش زمن العظّام المتديّن. هذه الحالة نمت بشكل خطر اجتماعياً، وهو هوس الحصول على الأشياء مجاناً، ولو عبر ربطها بالدين، وتالياً العظّام ليس مَن يذهب إلى الولائم فحسب، بل كل مَن يترقب دائماً الحصول على أشياء مجانية. تقريباً يمكن عدّ المطالبين دائماً بدور دراسي ثالث، نوعاً من أنواع العظّامة.
في العراق، هناك نجاح في الشهادة الدراسية، أي الامتحانات الرسمية من الدور الأول، أو الثاني، وفي الفترة الأخيرة، عمدت الدولة إلى منح دور ثالث، تفادياً للظرف السياسي والاجتماعي لفترة ما، لكن صار الدور الثالث حقاً مكتسباً في نظر البعض، وأخذوا يطالبون به في كل عام.
في الحديث عن العظّامة، يبرز التداخل بين العظّام والفرهود، يقول راجي: "هناك تداخل منطقي بحكم وجود المعدة الممتلئة، كهامش مشترك بينهما، لكن الفرهود (سلب أشياء الغير بالقوة، وعرف العراق فرهود اليهود حين سُلبت أموالهم، ومقتنياتهم، في خمسينيات القرن الماضي، بعد أن هاجروا إلى إسرائيل)، يحتاج إلى القوّة والغزو، أما العظّام فهو ضعيف، ولا يغزو، إنما يتسلل بلطفٍ، وهو متطفل على مائدة غيره".
أبو حمزة، صاحب مطعم وعمره 60 سنةً، يقول عن العظّامة: "يرتاد مطعمنا البعض منهم، كما الفقراء الذين لا طعام لهم، لكننا نميّز بين الاثنين، فنطرد الأول، ونستقبل الثاني. نستطيع أن نُفرّق بينهم، لأن آكل اللحم ترى أصابعه متورمة، وذو خدود منتفخة، معافى صحياً، حتى لو كان ضعيفاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...