في عام 1972، ظهرت أغنية "السحّ دحّ إمبو" لأحمد عدوية للنور، ليتغيّر كل شيء، أولها حياة عدوية نفسه، من مجرّد مطرب صغير معروف في حدود كازينوهات شارع الهرم، إلى النجم الأول الذي تتهافت عليه العقود والطلبات في الأفراح والصالات ومنتجي أفلام السينما، ويتربّع لاحقاً على عرش الأغنية والكاسيت في مصر لعقد كامل، حتى إن بعض المصادر تذكر أن أغنيته التالية "سلامتها أم حسن" باعت أكثر من مليون نسخة، وهي أرقام لا يمكن أن نتحقّق منها، كشأن أغلب الحكايات حول أحمد عدوية.
لكن أيضاً يمكن أن نقول إن تاريخ الأغنية الشعبية نفسه تغيّر، حتى إننا يمكن أن نقسمه إلى ما قبل ظهور عدوية وما بعده.
هناك قصص مختلفة لميلاد تلك الأغنية لرواة متعدّدين، لا يمكن الاتفاق فيها على من أوّل من تحمّس لإنتاج الأغنية، بل يمتد الخلاف إلى من الذي ألّفها ولحنها.
في حوار بمجلة "نصف الدنيا" في 21 كانون الأول/ ديسمبر عام 2000، يقول عدوية: "إنه لم يكن يتوقع أن يصل إلى ما وصل إليه، كان لديه أمل في الله، لكنه لم يتوقع أن يصير بهذه النجومية، وأن يحقق مجداً كبيراً في سنوات قليلة، والبداية كانت في موال (يا دنيا عيب اختشي طبعك ردي كده ليه) الذي كان همزة الوصل بينه وبين الناس، ومن خلاله عرفت مأمون الشناوي وكانت الانطلاقة".
كان عدوية حينها يغني في كازينو الأندلس، الذي يغنّي فيه ملوك الأغنية الشعبية في ذلك الوقت، كشفيق جلال، وكان عدوية محبوباً من مرتادي الكازينو، لكنه لم يكن معروفاً خارج ملاهي شوارع الهرم بعد. لم يكن قد أصبح ملكاً بعد.
كان مأمون قد أتى إلى الكازينو بالصدفة بصحبة عاطف منتصر، مؤسّس شركة "صوت الحب" التي أنتجت في ذلك الوقت، للوجه الجديد حينها، هاني شاكر، الذي سيصير لاحقاً، عندما تأتيه الفرصة، رقيباً على الغناء، وكذلك عدد من كبار المطربين والمطربات، كشادية وفايزة أحمد.
كانت الشركة التي أُسّست برأس مال ضئيل اقترضه منتصر من أسرته، على وشك الإفلاس. كانت ذائقة الناس قد تغيّرت، لكن لا يبدو أن أحداً من القائمين على الإنتاج الفني قد انتبه إلى ضرورة تغيير العقلية، إلا أن اقتراح الشناوي ينمّ على إدراكه المبكر لضرورة التغيير.
بعد أن انتهى عدوية من غناء الموال بمشاركة المطربة بدرية السيد، أعطاه الشناوي الكارت الخاص به، وطلب منه أن يأتي إلى مكتبه بشركة "صوت الحب"، وعندما ذهب إليه، طلب منه أن يسمعه شيئاً، فغنى عدوية: "عمي يا صاحب الجمال/ ارحمني دنا ليلي طال/ شوف لي جمال على قد الحال/ يعوض صبري اللي طال... السحّ الدحّ امبو/ إدي الواد لابوه/ ياعيني الواد بيعيط/ صعبان علي الواد/ ماتشيل الواد من الأرض/ الواد عطشان اسقوه/ شيل الواد من الأرض...".
فقرّر مأمون الشناوي أن يقترح على عاطف منتصر إنتاج تلك الأغنية، بدلاً من المواويل. لم يتحمّس عاطف في البداية وقال لعدوية إنها قد تكون مغامرة غير محسوبة تماماً، ثم إن الشركة "خسرانة"، لكن أمام حماس الشناوي، أنتج عاطف الأغنية.
ظهرت أغنية "السحّ دحّ إمبو" لأحمد عدوية، ليتغيّر كل شيء، أولها حياة عدوية نفسه، من مجرّد مطرب صغير إلى النجم الأول الذي تتهافت عليه العقود والطلبات، ويتربّع لاحقاً على عرش الأغنية والكاسيت في مصر لعقد كامل
ينقل محمد الباز، في كتابه "كشك وعدوية: أيام الوعظ والسلطنة"، تلك الرواية، عن حوار لمأمون الشناوي في مجلة "الكواكب" عام 1982 مع الصحفي محمد الدسوقي.
وفي رواية الكاتب مؤمن المحمدي، اسم المطربة التي كان يشاركها عدوية الغناء "نوال"، لا المطربة الشعبية الشهيرة بدرية السيد.
كتابات محمد الباز في الأغلب غير موثوق فيها، وهي مليئة بالتلميحات المغرضة واجتزاء الحقائق، فهو كاتب لا تهمّه الحقيقة بل الإثارة، ويهدف الكتاب، كشأن كل ما يكتبه الباز، لانتهاز كل فرصة ممكنة لتشويه صورته وتقديمه كانتهازي ومستغل.
إلا أن الكتاب، بما يحويه من معلومات بعضها موثّق بأرشيف الصحف، هو الكتاب الوحيد الذي جمع سردية متماسكة عن عدوية، وهو أمر مؤسف للثقافة العربية التي طالما أحبت عدوية في الخفاء وشتمته في العلن، وعندما تغير الوضع قليلاً في العقدين القليلين، لم تنتج عنه كتباً تليق بحجم تأثيره، أو تسعى على الأقل لتبيان الأسطورة من الحقيقة التي يمرق كاتب مثل الباز بين ثناياها كعادته.
لذا دعنا نقارن تلك الرواية برواية عاطف منتصر نفسه، التي حكاها لعمر طاهر في كتاب "صنايعية مصر":
"عمي يا صاحب الجمال/ ارحمني دنا ليلي طال/ شوف لي جمال/ على قد الحال/ يعوّض صبري اللي طال... السحّ الدحّ إمبو"
"عندما وصل إلى القاهرة ضيف يعمل مع شقيق منتصر فى ليبيا، مع توصية من الشقيق بأن يعد منتصر للضيف (خروجة) لطيفة، اصطحبه منتصر والشناوي إلى أحد المطاعم التى يغنى فيها كبار المطربين، وكان هناك مطرب صغير موجود على سبيل الاحتياط، يعني إذا تأخر نجم ما عن الوصول. غنى يومها هذا المطرب، ولفت نظر منتصر وقال إنه يصلح لغناء الموال، كان اسمه أحمد عدوية. اتفقا على أن يتقابلا فى اليوم التالي فى المكتب للاتفاق واختيار الموال، استقبله منتصر وخرج ثم عاد إلى المكتب فوجد عدوية يطبل على المنضدة و يغنى (السحّ الدحّ إمبو)، قال له منتصر: سيبك من موضوع الموال، إحنا هنسجل الأغنية دي.
حصل عدوية على خمسة عشر جنيهاً، و طلب مثلها للمؤلف (الريس بيرة) والملحن (الشيخ طه)، وأحضر عدوية فرقة مكونة من تسعة عازفين، واتجهوا إلى استوديو 46 في الإذاعة لتسجيل الأغنية".
ليس فقط التناقض بين من هو المتحمّس الأصلي لأغنية السحّ دحّ إمبو، الشناوي أو منتصر، هو التناقض الوحيد، هناك خلاف على من هو مؤلف الأغنية الأصلي، هل هو الريس بيرة، أو وفق اسمه الحقيقي، خليل محمد خليل، أم عدوية نفسه هو صاحب الكلمات.
كانت أغنية السحّ الدحّ إمبو في الأساس موجودة في الأفراح منذ عام 1951، قبل أن يغنيها عدوية، وغناها شكوكو سابقاً، لكنها لم تنجح إلا بصوت عدوية، ووفقاً للريس بيرة نفسه، غناها أيضاً مطربون شعبيون، مثل أحمد التبت وأحمد لميع، ما جعله يصف عدوية بأنه "مرزق".
أغلب الظن أن الريس بيرة عدّل كلمات قليلة في الأغنية الأصلية، يقول الكاتب مؤمن المحمدي إن مؤلف موال "عم يا صاحب الجمال" الذي أضيف لمونولوج السحّ دحّ إمبوه، هو حسين السيد، والملحن هو الشيخ طه، الذي كتب اسمه أيضاً كملحن للأغنية.
لكن اللحن نفسه قد يكون شارك في إعادة صياغته ليصل إلى شكله النهائي عدد من الموسيقيين البارعين، كفاروق سلامة وعبده داغر.
في تصريحاته للمواقع الصحفية يؤكد الموسيقي فاروق سلامة أنه مكتشف عدوية، وأنه ملحن السحّ الدحّ إمبو ويا عم صاحب الجمال"، بينما عبده داغر في مقابلة أجراها مع الباحثة الموسيقية فيروز كرواية، يأتي برواية أخرى:
"بعد خلاف بينه وبين المطرب الشعبي محمد رشدي، كان عدوية وقتها بيلعب مزهر مع الرقاصات وبيشتغل شيّال مع الفرقة الموسيقية وكده. قلتله: أنا مش عايز منك فلوس، بس أنا ممكن اطلعلك الشيّال ده ينيّمك من المغرب، وأنا عارف إن عدوية عايز يغني وبيتحايل عليا".
يتابع داغر: "رحت لواحد اسمه حسيب غباشي كان بيقعد معانا ع القهوة، قلتله كملي الغنوة دي واديته مطلع السحّ الدحّ إمبو، كان في واحد في كلوت بك بيقلي عصافير، يقعد يقولها ويعمل كدا وبتاع، واديته خمسين قرش وطلعته عندي حششته وهيّصته، وكملها. بعدين قلت لعدوية في واحد اسمه أنور العسكري امشي وراه واحفظ منه شوية مواويل.
الفشل يتيم والنجاح له ألف أب، وبالطبع عدوية لم ينجح من فراغ، لكن تظل المسألة أن موهبته كانت أصيلة، قوية، وأن تلك الموهبة الفطرية التي صاحبها استيعاب لما تعلّمه على أيدي الأسطوات المهرة
وكان في شركة صوت الحب، صاحبها عاطف منتصر من عندنا من طنطا. وأخوه كان بيلعب معانا بلي. جالي قالي: إنت مش عارفني؟ مين كان بيخطف البلي منكم زمان ويطلع يجري؟ قلتله: منتصر... ياه... قالي: أنا عملت هنا شركة، ومعايا مأمون الشناوي وسجلت لوردة ونجاة وبتاع. قلتله: ما دام شركة يبقى لازم تكون بيّاع، لازم تاخد نمرة من هنا ونمرة من هنا، دي تسقط دي تنجح. قالي: عندك إيه؟ قلتله: عندي نمرة شعبية. قالي: شعبية إيه يا عم لأ، أنا كذا وكذا. قلتله: مش أنت عايز تكسب ولا عايز تقفل؟ ممكن نمرة تضرب تشقلب الدنيا. قالي: تتكلف كام؟ قلتله: هات 15 جنيه واحجزلنا استوديو".
لا أميل لتصديق رواية عبده داغر، لكني أصدق أنه كان وراء تطور صوت عدوية موسيقياً.
روايات عاطف منتصر منتج اسطوانة السحّ دحّ إمبو وصاحب شركة "صوت الحب"، ومأمون الشناوي، الشاعر الغنائي الكبير ومستشار الشركة الفني، الريس بيرة، والملحن فاروق سلامة، وعازف الكمان عبد داغره، تتفق كلها على شيئين، أن ينسب اكتشاف ونجاح، بل وصناعة ظاهرة عدوية لأنفسهم (وهم بالتأكيد ساهموا في ذلك)، الشيء الثاني الذي تشترك فيه هذه القصص، هو ذكر عدوية كشيء مصنوع، والتقليل من شأنه وأحياناً من شأن موهبته الساطعة، بل ونجاح كل هؤلاء الشركاء في صناعة نجاحه، كأنه لا أحد.
طبعا الفشل يتيم والنجاح له ألف أب، وبالطبع عدوية لم ينجح من فراغ، لكن تظل المسألة أن موهبته كانت أصيلة، قوية، وأن تلك الموهبة الفطرية التي صاحبها استيعاب لما تعلمه على أيدي الأسطوات المهرة من فرقته الموسيقية التي حملت أساطير، بحجم عبده داغر وحسن أبو السعود ومحمد عصفور، هي كشأن أي موهبة، تحتاج إلى دعم من موهوبين وأذكياء وأصحاب رؤى بالضرورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...