لم تعُد الأغنية الترفيهية في العالم، كما كان يُظّنُ، مجرّد موجةٍ فنّية عابرة، طالما اعتُبرت من قبل نقاد الموسيقى في العالم، أنّها ستعود إلى الوراء وتختفي تدريجياً من المَشهد الغنائي العَالمي، على خلفية المقولة الشكسبيرية القائلة بأنّ "الموسيقى غذاء للروح" وليس مجرّد خطاب فنّي ترفيهي.
لذلك اصطدم نقاد الموسيقى منذ ستينيات القرن العشرين بواقعٍ مُرّ تمثّل في كون الأغنية الترفيهية الاستهلاكية، لم تستنفذ مادّتها ولم تتقلّص، ولا حتّى اختفى "وهَجُها"؟ لكنْ ما حدث بالضبط، أنّها ظلّت صَامدة في وجه كلّ موسيقى حقيقية مُلتزمة، تُحاول أنْ "تُغذّي" روح الإنسان وتعمل على شحذ وجدانه ونقله إلى عوالم أخرى، تسمو فيها الروح وتخلق دهشة حقيقية في كل ما تلتقطه العَين وترجّ الجسد وسراديبه المُظلمة، رغم ما تعرضت له الأغنية الترفيهية من نقدٍ لاذع على يد بعض الأسماء الفكريّة، سيما مدرسة فرانكفورت مع رائدها المُفكّر الألماني تيودور أدورنو (1969ـ1903) الذي قدّم متناً فكرياً عميقاً فكّك به آليات صناعة الأغنية الاستهلاكية وخطابها الترفيهي، على خلفية مشروعه الفلسفي القائم على نقد الصناعة الثقافيّة وما تُضمره من مفاهيم فكريّة تتّصل ببراديغم الزمن المعاصر.
فقد فتحت مدرسة فرانكفورت النقدية الباب أمام تجارب فكريّة أخرى لإمكانية تأمّل الأغنية الترفيهية وجعلها مدخلاً لمقاربة الأنماط الفنّية والأشكال البصريّة والقوالب الجماليّة وجعلها تطرق مدخل التفكير الفلسفي، دون أنْ تبقَ حكراً على النقد الموسيقي أو الفنّي. لذلك شكّلت هذه الكتابات على تجريدها محطّة بارزة في تاريخ الفكر الفنّي والمُتمثّلة أساساً في نقد الوسائط البصريّة، التي فتحت الباب أمام ذيوع الأغنية الترفيهية وساهمت في ابتذالها وانحطاطها وجعلها تدخل في حلقةٍ دائرية من التنميط والتكرار.
تيودور أدورنو
لذلك فكلّما صدرت مقالة فكريّة جديدة لأدورنو، تنتقد بشكلٍ كلّي المُؤثّرات الفنّية والمنابع الجمالية، التي صاغت خطاب الفنون الترفيهية، كانت الأغنية الترفيهية تشقّ لنفسها مساراً مُغايراً، وتكاد تلتهم عقول الناس ووجدانهم وأذواقهم، عاملة على تكسير صورة بعض الفرق الموسيقيّة المُلتزمة في العالم وجعلها مجرّد "فولكلورٍ" فنّي، أمام فتنة الأغنية المعاصرة وحداثة آلاتها الموسيقيّة.
طريقة تسويغ هذه الأغنية وتكريسها باعتبارها نمطاً غنائياً وحيداً، هو ما أدّى إلى تنميط هذه الأغاني وجعلها تدخل في استهلاك نفسها وتكرار ذاتها وذاكرتها في وجدان الناس ومَشاغلهم اليوميّة
هكذا، لم يعُد العالم، يُناقش جدوى هذه الموسيقى الترفيهية وما يُمكن أنْ تُقدّمه لـ"مفهوم" الذوق الجمالي العام، بقدر ما أضحى يُعترف بمُنجزها الفنّي ويُقيّم جماليّاتها ومدى اختلاف أغنية عن الأخرى، ما يعني أنّها غدت معطى فيزيقياً واقعياً يُؤسّس لذيوع نمط غنائي جديدٍ، بعيداً عن أشكال وأنماط الأغنية المُلتزمة وما قدّمته من خدماتٍ جليلةٍ للإنسان في بقاعٍ شتّى من العالم.
وأحياناً لا يجد المُستمعون أيّ نشازٍ في الأغنية الترفيهية، والدليل على ذلك: كثرة الأغاني البسيطة التي قد نعجب بها ونُحبّها وننسج معها دوماً علاقة مُتخيّلة. لكنّ طريقة تسويغ هذه الأغنية وتكريسها باعتبارها نمطاً غنائياً وحيداً، هو ما أدّى إلى تنميط هذه الأغاني وجعلها تدخل في استهلاك نفسها وتكرار ذاتها وذاكرتها القريبة والبعيدة في وجدان الناس ومَشاغلهم اليوميّة.
من ثمّ، فإنّ ما لم تنتبه إليه مدرسة فرنكفورت في ذلك الإبان أنّ الأغنية الترفيهية، لم تكُن عبارة عن خطابٍ فنّي تم التفكير فيه أوّلاً، ثمّ العمل على صناعته وجعله نموذجاً غنائياً بديلاً، بل كانت ثمرة من ثمرات الحداثة، في الوقت الذي نزع فيه العالم لباس التحديث، ودخل إلى مرحلة الحداثة وزمنها المعاصر المُتقلّب، بين عودة المكبوث الدّيني/التاريخيّ والرغبة الجامحة في الدخول إلى مرحلة الحداثة وما بعدها. ما يعني أنّ الأغنية الترفيهية تُعدّ اليوم شكلاً من أشكال الحياة المعاصرة في سرعتها وبساطتها وعبورها ورغبتها في الانفلات والتلاشي والارتحال أكثر من الإقامة والتمركز والخلود.
وعلى الرغم من اختلاف السياقات التاريخيّة والفكريّة وتباين المُنطلقات الفنّية والجماليّة، التي صاغت وأفرزت أفق الأغنية الترفيهية ـ الاستهلاكية داخل المنطقة العربيّة، إلاّ أنّنا نعثر على تشابه كبير بين الموسيقى الغربيّة ونظيرتها العربيّة، لأنّهما يشتركان معاً في البُعد الترفيهي الذي تنحته الألبومات الغنائية. والسبب يعود أساساً إلى كون الأغنية المعاصرة ترفيهية في طابعها وذات نزعةٍ استهلاكية عابرة تستند على مفاهيم الزوال والتلاشي. إنّها أشبه بأجساد الناس، حيث تتحلّل إلى جزيئات صغيرةٍ غير قابلةٍ لإعادة التركيب والتوظيف من جديد، لأنّ حجم الأغاني والفيديو كليبات التي تُنتج في اليوم الواحد، تجعل مسألة إعادة "الإنتاج" لا تُحقّق أيّ فُسحةٍ جماليّة، مقارنة بإعادة ابتكار أغانٍ جديدة.
لكن، إذا كان ذيوع الأغنية الترفيهية الغربيّة، ناتجٌ بدرجةٍ أولى عن "تقدّم" الموسيقي وسعيها إلى عيش ذاتها وتاريخها وذاكرتها، انطلاقاً من مفاهيم التحديث والحداثة، فإنّ نظيرتها العربيّة، قد تحكّمت فيها عواملٌ سياسيّة محضة جعلت الأنظمة السياسيّة القمعية تُروّج للألبومات الغنائية وتعمل جاهدة على تأسيس مهرجاناتٍ رسميّة، تُحاكي النّمط الغربي وتُكرّس نموذجاً غنائياً هشّاً باسم "الحداثة "والمعاصرة".
وعلى الرغم من هزالة المشهد الغنائي العالمي، ماتزال المُخطّطات السياسيّة والبرامج الثقافيّة ـ الفنّية تُروّج لهذه الأغاني داخل مهرجاناتٍ، وتجعلها تبرز إلى السطح، باعتبارها تُمثّل هويّة غنائية جديدة للزمن المعاصر. مع العلم أنّ هذه الألبومات الغنائية، تتحكّم فيها نوازعٌ تقنية أكثر من كونها إبداعية، حيث يعثر المُستمعون على غلبة الموسيقى الإلكترونية التي تستحوذ على الخطاب والكلمات واللحن والصوت، حيث يغدو صوت المُغنّي بدون معنى، لأنّ وجود الموسيقى الإلكترونية سابقٌ على وجوده.
نعثر على تشابه كبير بين الموسيقى الغربيّة ونظيرتها العربيّة، لأنّهما يشتركان معاً في البُعد الترفيهي الذي تنحته الألبومات الغنائية
في بداية حديثها لنا تقول الموسيقيّة والمغنّية الفلسطينيّة ريم الكيلاني: "دعُونا نبدأ بتعريف (الأغنية الملتزمة)، لأنّ هناك أكثر من تعريف لها. فالكثير منّا يعرفها بأنّها الأغنية التي تُغَنِّي عن الوطن والأرض والمُثُل العُليا، لكن تَغِيب عن ذهننا نقطتان: الأولى، أنّ جُلّ من (يلتزم) بهذا النوع من الغناء مُخلِصٌ في ما يقول، هناك استثناءان: الأوَّل الذي يجعل من هذا النَّمط تجارةً بحد ذاتها، ولا نتطرَّق هنا لأي من الأسماء، لأنّنا لسنا في الموضع الذي من خلاله نستطيع أن نحكُم على الناس".
ريم الكيلاني
أمّا الثاني في نظرها فهو "الذي يُغَنِّي للوطن من أجل إرضاء (المؤسَّسة) ذاتها. ولنا في أغنيات عبد الحليم حافظ في مدح جمال عبد الناصر ـ مثل أغنية (يا جمال يا حبيب الملايين)- أكبر مثال على الغناء الذي يبدو ملتزماً في الظاهِر، لكنه في الواقع موجود لإرضاء السُّلطة".
عبد الحليم حافظ
أما النقطة الثانية "أنّ الالتزام في المقولة السياسية، قد لا يعني الالتزام في نظيرتها الفنية. فهناك من يُغَنِّي للوطن، بمواهب فنية متواضعة، و/أو بتوزيعاتٍ موسيقية ركيكة، أو عبر كلماتٍ مُباشِرة دون أن تُعطي المُتلقين فرصةً للتفكُّر والتحدي الذهني".
لكنْ ما يزعج صاحبة ألبوم "قال المغنّي: طائر السحر": "أنّ التصاق كلمة (ملتزم) بضرب من ضروب الغناء يَعنِي أيضاً أن المُؤَدي في هذه الحالة قد يتعالى على بقية الفنانين، مثله مثل بعض الملتزمين دينيّاً ممّن يَنظُرون بعين الازدراء –أو حتى التكفير– لمن يراهم أقل التزاماً"، غير ملتزمين مثله.
لذلك ترى "كفنَّانة فلسطينية وُلِدَت وتعيش في المَهجَر، بحيث لم يكن لدَي ولمِثلي الخيار بأن نعيش داخل أوطاننا، لطالما عُيِّرنا بأنّنا لسنا فلسطينيين (بما فيه الكفاية)، لأننا لا نُغَني تحت رصاص الاحتلال. لذلك، من وجهة نظري الخاصة، فإنّ الأغنية الملتزمة، هي تلك التي تحمل مقولة مُخلِصة، سواء كانت عن الوطن أو الأرض أو العمل أو التاريخ أو حتى الحبيب".
و"هنا يأتي دور الأنظمة والسُّلطات التي تستغل نفوذ الأغنية الملتزمة الخَفِيّ، إما بتحجيمها، أو الأسوء، بتقمُّصِ صيغتها لتحويل مِيزَة الالتزام تجاه السُّلطة، لا بعيداً عنها". وهذا يعود في نظرها إلى كون "الغناء عن الزراعة والتمسُّك بالأرض والمقاومة السلمية (كجزء من المقاومة ككُل)، هو شيء مَمدُوح. لكن تأتي المصيبة في مقطع "نِحنا ثورة سلميِّة، بيسَمُّونا إرهابيِّة، مُقاومتنا شَرعيِّة، مِن دُون سلاح". بمعنى أنّ أي مقاومة غير سلمية للاحتلال هي مقاومة "إرهابية" و "غير شرعية"، فيُصبح المَمدُوحُ مَذمُوماً والملتزمُ "مُؤَدلَجاً".
"التصاق كلمة (ملتزم) بضرب من ضروب الغناء يَعنِي أيضاً أن المُؤَدي في هذه الحالة قد يتعالى على بقية الفنانين، مثله مثل بعض الملتزمين دينيّاً ممّن يَنظُرون بعين الازدراء –أو حتى التكفير– لمن يراهم أقل التزاماً"، غير ملتزمين مثله"
أمّا في ما يتّصل بتقاطعاتها مع الأغنية الترفيهية، "التي تطغى على كل الفضائيات والمهرجانات، وكأنها الطابَع المقبول الوحيد لدى الجماهير. فترى بأنّه "نظرة بسيطة إلى حفلة واحدة من هذا النوع، وسنرَى أوركسترا كاملة وإمكانياتٍ إنتاجية ضخمة لا يُمكِن لأي فنان ملتزم بنوع متفرد من الغناء غير التجاري أن ينافسه. هنا يَخطُر ببالنا نظرية (الإمداد والطلب) التي تربُط ما بين كمية المَنتُوج المُراد ترويجه مقابل عدد المُستهلِكين الراغبين في شراء المَنتُوج. وفي حالة الإلحاح الرَّسمي في ترويج الأغنية الترفيهية، تُصبِح العملية تَلقِينية أكثر منها مذاقية أو حتى طربية بالنسبة للمُتَلقين".
ويُمثّل ذلك في نظرها "التحدي الأكبر أمام الفنان المستقل و/أو الملتزم بمقولة خارجة عن السِّرب. فالمهرجانات الدولية تدفع مبالغ باهظة من أجل دعوة الفنانين التجاريين ذوي الطابع الترفيهي (والترفيه لا يعني الابتذال بالضرورة)، وفي أغلب الأحوال لا تدعو غيرهم ممن هم أقل (إمداداً) وفقاً للنظرية أعلاه. السخرية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، هي أنّ الفنان المستقل سيكلف هذه المهرجانات مبالغ صغيرة جداً، حتى دون قياسها بالمبالغ الفلكية التي تُدفَع للأسماء الترفيهية اللامعة".
هذا وتختم الفنّانة ريم الكيلاني حديثها الخاصّ لنا قائلة: "بالنسبة لي كفنانة مستقلة موسيقياً وسياسياً، الفنّ هو الالتزام بحد ذاته. وكل شيء لا يُطابِق هذا ـ وقد أكون قاسيةً على نفسي أكثر من غيري ـ فهو ليس فنّاً من أصله، "ملتزماً" كان أم لم يكُن؛ إذ أنّ أخطر الأغاني بنظر المؤسَّسة أو السُّلطة هي تلك التي تبدو بسيطةً في تركيبتها الموسيقية وقريبةً من آلام الشعب في آن. هذه الأغنيات هي التي يُمكِن ـ دون تردُّد ـ أن نَصِفَها بالالتزام المُطلَق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...