إذا أردنا وصف الملابس التقليدية الليبية فإننا نستطيع اختصار كل شيء في التالي، هي حزمة من الألوان سكبها الذوق المحلي على امتداد التراب الليبي فشربتها حبات رمل الصحراء وانعكست على صفحة ماء المتوسط وتدلّت مثل قرطين من على قمم جبل نفوسة والجبل الأخضر.
ليبيا... عرص أزياء كبير
ليبيا بكل مكوناتها العرقية مسرح لعرض كبير من الأزياء المختلفة منها ما فرضته البيئة الصحراوية، ومنها ما عكس الوضع الاجتماعي، ومنها ما كان تعبيراً عن حالة وجدانية من فرح أو حزن، لذلك فإن التنوع الذي يزخر به التراث الليبي في الملابس والأزياء يعتبر نتيجة حتمية لنمط حياة وجغرافيا ومناخ صنعت كلها هذا الثراء.
في فترات مختلفة من التاريخ الليبي تعرضت فيها البلاد للمد الفكري المتشدد كانت الملابس الليبية التقليدية تختفي من الشوارع والأزقة لتحل محلها عباءات وملابس قاتمة لا يستسيغها ذوق الجدات الناصع، لكن روح المقاومة التي تبثها الألوان فيمن يرتديها لا تلبث أن تفرض سطوتها من جديد، لتعود أكثر فخامة وتوهجا من ذي قبل. ليبيا لم تكن يوماً بمنأى عن الفكر المتشدد الذي اقتحم أهم مدنها يوماً وحاول أن يسود، قبل أن تلفظه البلاد وتضيق به وبأفعاله صدور العباد.
هذه الفترات المعتمة من تاريخ ليبيا لا تلبث أن تنتهي حتى يعود الزي الليبي بألوانه وأشكاله المختلفة أكثر قوة من ذي قبل، إن أربعة أمتار أو تزيد قليلاً من القماش ترتديها المرأة لن تفتقر للحشمة، وهي قادرة على تغطية كل شيء تقريباً، لكن الآخر يكره أي انتماء للأرض أو للتاريخ ويفضل أن يمد جذوره خارج الحدود في أي اتجاه.
"الرداء"... الشاهد الأول على جمال الليبيات
يعتبر "الرداء" أهم قطعة في ملابس النساء وتقريباً تشترك فيه كل المناطق مع اختلاف ألوانه وطرق ارتدائه، الرداء قطعة من القماش طولها يزيد قليلاً عن أربعة أمتار وعرضها عن متر ونصف تقريباً، ومنه الرداء اليومي البسيط، وذاك الذي ترتديه النساء في بعض المناسبات الاجتماعية، وكلاهما يضج بالألوان فالأول يكون حديقة صغيرة للورد الملون والزخارف المتنوعة، أما رداء الحرير فيكون عادة مخططاً بالعرض بألوان فخمة وأنيقة من الذهبي أو الفضي وبقية الألوان، وهو من الفخامة والتفرد ما يجعله قطعة فنية ترتديها المرأة في مناسبات مهمة.
كانت هذه القطع الفنية تصنع يدوياً على "النُّول" من حرفيين يعتبرونها مصدراً لدخلهم لكن هذه الصناعة اليدوية انتقلت بشكل كبير إلى الآلات التي يبدو أنها تغلبت على النول -على الأقل في الكم دون النوع-.
في فترات مختلفة من التاريخ تعرضت البلاد للمد المتشدد فكانت الملابس الليبية التقليدية تختفي من الشوارع والأزقة لتحل محلها عباءات وملابس قاتمة لا يستسيغها ذوق الجدات، لكن روح المقاومة التي تبثها الألوان فيمن يرتديها لا تلبث أن تفرض سطوتها من جديد، لتعود أكثر فخامة وتوهجا من ذي قبل
الرداء لحاف يلتف حول الجسم لكنه لن يصنع صورته المثالية إلا بمساعدة قطع أخرى من الملابس والحلي الفضية والذهبية، والتي تختفي في حال الرداء العادي الذي تلبسه النساء يومياً على فستان عادي أو قميص وتنورة، لأن ما سيظهر مع الرداء هو فقط الجزء العلوي من الصدر والذراعين.
لكن رداء الحرير يختلف كليا فتلبس معه "القمجّة" وهي قميص مطرز الكُمَّين والجزء الأمامي الصغير الذي سيظهر حتى مع ارتداء بقية القطع من "فرملة" مطرزة أيضاً وسروال واسع يكون مقدار شبر من أسفله مطرزاً، وعادة ما يكون بلون الـ"فرملة".
رداء العروس وألوان الفرح
تلبس العروس ليلة حنّتها تلبس الرداء الوردي "البودري" المخطط بالفضي وتلبس زيّاً آخر فضي أو ذهبي اللون يسمى البدلة الكبيرة، في اليوم التالي ويوم الخميس تعود إلى فستان الفرح الأبيض الذي تذهب به إلى بيت الزوجية، وفي صباح اليوم التالي ترتدي لباساً آخر بدون رداء هذه المرة يسمى بدلة "الجّلوة" تتكون من سترة طويلة "كبوط" وسروال أحمر أو عنابي اللون مع كل الحلي التي تلبسها العروس مع الرداء من "شنبير" وهو اكسسوار للرأس يشبه التاج والعقد الكبير و"الخرص" و"اللبّة" و"الشناقيل" وكل هذه الحلي التي قد تكون ذهبية وقد تصنع من الفضة المطلية بالذهب، بالإضافة إلى الحنة التي تطورت نقوشها ورسوماتها فأصبحت فنا قائما بذاته يجعل الصورة أكثر مثالية.
تلبس العروس ليلة حنّتها تلبس الرداء الوردي "البودري" المخطط بالفضي وتلبس زيّاً آخر فضي أو ذهبي اللون يسمى البدلة الكبيرة، في اليوم التالي ويوم الخميس تعود إلى فستان الفرح الأبيض الذي تذهب به إلى بيت الزوجية
هذا في غرب ليبيا ولا يختلف الحال كثيراً في شرقها فالرداء أساس كل الإطلالات الجميلة غير أن طريقة لبسه تختلف حيث يلف على الخصر تماماً أو أعلى بقليل في غرب ليبيا، بينما يكون الحزام "الشّملة" أسفل الخصر بقليل، في الغرب يكون الرداء طويلاً نسبياً ولا يظهر معه إلا التطريز القصير للسروال، أما في الشرق فيكون الرداء أقصر حتى الركبة تقريباً من الأمام، ومن الخلف يكون أطول ويسمّى "جرجار" في أغنية للفنان الراحل محمد حسن يقول:
مليح العرب جرجار طرف حرامه
لا هان لا هوّن عليّ غرامه
ولأن الرداء بهذه الطريقة يصل الركبة أو أطول قليلاً فإن الخلخال يعتبر ضرورياً لزينة الأرجل واكتمال الصورة مع اختلافات أخرى صغيرة مثل التاج الذي يحل محل "الشنبير" في طريقة أهل غرب ليبيا.
الطوارق أو "الشعب الأزرق"
هناك أيضا "العبروق" وأصله من الجنوب ولونه عادة أحمر أو أسود لكن مؤخراً ظهرت منه ألوان جديدة مثل الأخضر والأزرق، ولأننا في الجنوب فإن لطوارق ليبيا ملابسهم الخاصة التي تميزهم.
تقول الكاتبة الجزائرية أحلام معمري في مقالها في موقع الجسرة الثقافي عن قبائل الطوارق "إيموهاغ": "يتميز الرجل بلباس فضفاض، وغالباً ما يكون أزرق اللون مطرز الجيب، ويتمنطق بخنجر أو سيف يتفنن في تزيين قوائمه وجرابه، وللّثام مكانة مميزة عند أهل المنطقة، ذلك أن الطارقي يحتفل بارتداء الصبي للّثام بعد تثبيت قطعة مربعة من الفضة فيه".
وعن نساء الطوارق تقول: "الفتاة تجدل شعرها بالظفائر وتوشح بالخرز وحلَقان على شكل النجمة أو الهلال تتدلى على الآذان، وتلبس فستاناً فضفاضاً أسود اللون أو أزرق مزركشاً بألوان يغلب عليها الأزرق، وإذا ما تزوجت يحق لها أن تلبس الخلاخل وبقية الزينة المعروفة للمرأة بشكل عام".
يتميز الرجل في الطوارق بلباس فضفاض، وغالباً ما يكون أزرق اللون مطرز الجيب، ويتمنطق بخنجر أو سيف يتفنن في تزيين قوائمه وجرابه، وللّثام مكانة مميزة عند أهل المنطقة، ذلك أن الطارقي يحتفل بارتداء الصبي للّثام بعد تثبيت قطعة مربعة من الفضة فيه".
ما قالته الكاتبة عن طوارق الجزائر ينطبق تقريباً في مجمله على طوارق ليبيا، فقبائل "إيموهاغ" واحدة على امتداد الصحراء الكبرى، لا أتخيل أبداً امرأة تلبس "الجلوة" أو رداء "الحصيرة" الثقيل وتتجول به في الصحراء أو على ظهور المهاري، الطبيعة الجغرافية كانت لها كلمتها هنا بعيداً عن التقسيمات العرقية، فسكان الجبل والساحل من الأمازيغ يلبسون الرداء والفراشية وهي ملابسهم الأصيلة التي يشترك فيها الليبيون من كل الخلفيات العرقية، لكن سكان الصحراء أرغمتهم طبيعة المكان على ارتداء اللثام وعلى اعتناق الأزرق رمز الحرية والانطلاق عندهم كلون مميز لملابسهم حتى عرفوا بـ"الشعب الأزرق" أو الـ"رجال الزُّرق" بالإضافة للوجود المهم للون الأبيض في ملابسهم وثقافتهم يقول شاعر من الطوارق:
اليوم الذي أموت فيه
لابد أن تدفنوني في قطعة بيضاء
ناصعة من الكتّان
مثل أوراق الكاغط
وتصدّقوا عني
بثلاث أغنيات من غناء إمزاد
والفاتحة
والكاغط هو الورق بلهجة ليبية والإمزاد هو آلة تشبه الربابة بوتر واحد وتعزف عليها نساء الطوارق مع أهازيج خاصة وأصوات تمتد لترافق نغماتها.
لسنا بنات العباءات السوداء
بمغادرة الصحراء الليبية والاتجاه شمالاً نعود إلى قطعة أخرى مهمة من ملابس النساء تلبسها المرأة فوق ملابسها عندما تهم بالخروج من بيتها، أو الخروج الشوارع التي امتلأت اليوم بالعباءات السوداء القادمة إلينا من وراء الحدود كانت يوما امتدادا لبياض الفراشية التي لا تفتقر للحشمة والستر الذي ينشده فارضو الأسود على ثقافة تشربت البياض والألوان النابضة بالحياة.
عقدة "توكا ميَا" وشبهها باللباس الروماني والإغريقي
ملابس الرجال في ليبيا أيضا لا تفتقر للألوان ولا لجمال التطريز ودقة التصميم وتتكون من "البدلة العربية" والتي تشبه نوعاً ما تلك التي يرتديها الهنود أو بعض الملابس التقليدية لباكستان وماليزيا وإندونيسيا، وهي سروال واسع من أعلى وقميص يصل إلى ما فوق الركبة بقليل وقد يلبسه الرجل كملابس يومية لبساطتها وعمليّتها، وتكون بيضاء عادة، لكن مؤخراً تعددت ألوانها.
"الزّبون" أيضاً من القطع الجميلة في ملابس الرجال ويلبس فوق البدلة العربية ويتكون من "الفرملة" والسروال المطرزان بنفس الألوان والنقشات، وقد يأتي معهما الـ"كاط" وهو يشبه الجاكيت بكُمَّين طويلين لهما نفس تطريز السروال والفرملة.
من القطع المهمة أيضاً في ملابس الرجال في ليبيا "الجرد" أو "الحولي" ويسمى أيضاً "ابرقان" أو "تلابا" وغيرها باللغات الليبية القديمة، ويكون عادة باللون العاجي أو الأبيض ويصنع من الصوف بأيدي النساء على "المسداة"، والتي تشبه النول الذي تحاك بين ألواحه أردية الحرير.
ظهر الليبيون في اللوحات المصرية القديمة وهم يرتدون ثياباً عبارة عن قطعة صوفية مزخرفة متعددة الألوان بشكل غاية في الروعة والجمال والإتقان، وكل قطعة لها زخرفة وألوان تختلف عن الأخرى
يقول الباحث في تاريخ ليبيا القديم إيهاب أزطاف في مقالته في مدونة مدونة "تاريخ وأصول الليبيين الأصليين": "لقد ظهر الليبيون في اللوحات المصرية القديمة وهم يرتدون ثياباً عبارة عن قطعة صوفية مزخرفة متعددة الألوان بشكل غاية في الروعة والجمال والإتقان، وكل قطعة لها زخرفة وألوان تختلف عن الأخرى".
ويضيف: "يرتدي الليبيون هذه القطعة بجعلها معلقة على الكتف الأيسر حيث يربط طرفي الرداء بعقدة، وتمر أسفل الذراع الأيمن وهذا الزي شبيه بعض الشيء بلباس شعب "أتروسكان" وهم السكان الأوائل لشبه الجزيرة الإيطالية، وهذا ربما يشير إلى وجود علاقات وهجرات ليبية قديمة إلى إيطاليا".
هذه القطعة من الملابس ظهر بها شيخ المجاهدين عمر المختار في الصورة التي التقطها له الإيطاليون قبل إعدامه، وتسمى حسب سمكها أو ثقلها فالنوع الثقيل هو الـ"عباءة" أو الـ"عباة" أو الـ"وزرة"، أما النوع الأخف أو متوسط الثقل والسُّمك فهو الـ"جرد" أما الخفيف فهو الـ"حولي" ويعتبر المؤرخون أن هذا الزي من أكثر الأزياء عراقة في العالم.
يقول ازطاف: "هذا اللباس لم تعرفه ساكنة بلاد القبط وعراق العجم أو الشام أو بلاد العرب أو الترك، إلا أننا نجد ما يشبهه عند الإغريق والرومان والليبيين، وهذا ما لاحظه عدد من الرحّالة في مختلف مراحل التاريخ الليبي، ونلاحظ التطابق بين عقدة "توكا ميّا" التي تعقد على أعلى يسار الرداء الليبي وتلك الموجودة في التماثيل الرومانية، وقد أشار المؤرخون إلى أن اللباس الروماني منقول عن اللباس اليوناني القديم، وأن اليونان قد نقلوا العباءة عن الليبيين".
ويؤكد ازطاف أن الجرد لباس محلي ليبي شمال أفريقي بامتياز ولا يوجد إلا لدى سكان شمال أفريقيا الأصليين دون غيرهم من المناطق التي استوطنها الرومان قديماً وعمره 2500 سنة تقريباً، إذ يعتبر من أقدم الأزياء في العالم.
أزياء الرجولة بألوان زاهية
وكما يلبس رجال الطوارق اللثام ويحيطونه بقدسية تتعدى حمايته لوجوههم من رمال الصحراء ورياح القبلي الساخنة، فإن لباس الرجال في ليبيا من "زبون" و"جرد" وبدل عربية يكمله غطاء الرأس "الكبّوس" وقد يسمى أيضاً "شاشية" و"شنّة" و"معرقة" وغيرها من الأسماء المحلية، وقد تكون بيضاء من قماش خفيف أو من الصوف الأسود أو الأحمر الثقيل.
تنتشر أيضاً لدى بعض القبائل وسط ليبيا عادة ارتداء "الزمالة" أو اللفافة وهي قطعة من القماش الأبيض قريبة من تلك التي يرتديها الطوارق، لكن الزمالة تُلف على الرأس فقط بطرق متعددة ويتدلى طرفها على الرقبة نزولا حتى الصدر والبطن أحيانا.
من ملابس الرجال التقليدية الـ"عباءة" أو الـ"عباة" أو الـ"وزرة، وهذه هي القطعة هي التي ظهر بها عمر المختار في الصورة التي التقطها له الإيطاليون قبل إعدامه
اليوم امتداد للأمس، وأردية الجدات التي كانت يوماً مُرقّعة وباهتة تلتف اليوم برشاقة على أجساد البنات والحفيدات زاهية الألوان بديعة التفاصيل، والجرد رمز الانتماء لهذه الأرض مع الأصدقاء وفي مواجهة الغزاة لا زال حتى اليوم أهم قطعة يرتديها الفارس على صهوة جواده مع سرج لا يقل فخامة وجمالاُ عن "زبون" طرزته أنامل جعّدها الزمن وجعلها أكثر خبرة وإتقاناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...