هنا.. في ليبيا يتحول كوب الشاي إلى "طاسة شاهي" في نقلةٍ شاسعة من مجرد مشروب ساخن إلى حالة خاصة لا يعرف أسرارها إلا الليبي الذي استشعر في الـ"طاسة" مذاقا بصيغة المؤنث، فالطاسة ليست الكوب وما يسكب فيها ليس شاياً أخضر أوأسود، هي مستودع لألفة اللقاء وحميمية اللمة التي تعرف أسرارها المرأة الليبية.
ملك الجلسات ووقود الضحكات
"الشاهي" في ليبيا هو الشاي بأوراقه الجافة مختلفة الحجم واللون، رشفة الحياة التي يقدمها الصباح لمرتاديه في كوب أو فنجان يكون مع إبريق الماء المغلي، ملك جلسات الأهل والأصدقاء ووقود الضحكات وسيل الحكايات الذي لا ينقطع، ويقدم في أواني وأكواب خاصة لا تبرح مكانها في المطبخ إلا للتنظيف أو للتقديم.
هذه الباقة من الأواني والأكواب نسميها في ليبيا "العالة" وتتكون من طاولة صغيرة قد تكون خشبية أو معدنية توضع عليها سفرة بنفس حجمها فترتفع قليلا لتكون في متناول يد صانع الشاي أو صانعته.
تحتوي هذه الصينية أو السفرة الدائرية على إبريقَين للشاي نسميها "البرّاد" وعدد من الأكواب الزجاجية الصغيرة "الطواسي" ومفردتها طاسة، مع كوب معدني أكبر حجما وله مقبض نسميه "اللقّامة" بتخفيف القاف، ومصفاة صغيرة وقطعة من الإسفنج، يوضع بجانب هذه الطاولة الصغيرة.
هنا.. في ليبيا يتحول كوب الشاي إلى "طاسة شاهي" في نقلةٍ شاسعة من مجرد مشروب ساخن إلى حالة خاصة لا يعرف أسرارها إلا الليبي الذي استشعر في الـ"طاسة" مذاقا بصيغة المؤنث
محتوياتها موقد الغاز الصغير الذي حل محل كانون الفحم المصنوع من الفخار وفي الجانب الآخر توضع سفرة صغيرة بها عدد من الحافظات؛ الكبيرة للسكر والأصغر لأوراق الشاي أما الصغيرة فقد يوضع فيها النعناع المجفف أو الزعتر أو الإكليل وهذه الجزئية تختلف من منطقة إلى أخرى في ليبيا.
توضع كل هذه الأشياء على مفرش أنيق مستطيل الشكل تكون حوافه مطرزة بخيوط زاهية الألوان أو بعض العقيق الملون، يكون ضمن مجموعة من خمس أو ست قطع منها غطاء الطاولة الرئيسية للعالة ومفرشا آخر لسفرة حافظات الشاي والسكر ومفرشا آخر يحيط بالجزء السفلي للموقد، وقد تبالغ بعض النساء في تزيين "العالة" باكسسوارات ومفارش تنسجم مع لون الأثاث في صالة الضيوف التي عادة ما تكون الغرفة الأجمل والأكثر أناقة في البيت.
كلمة للضيف... لسنا على عجلة من أمرنا
لا يكاد ضيف البيت الليبي ينتهي من السلام على أهل البيت ويهم بالجلوس حتى تحضر سيدة البيت أو بناته مفرش "العالة" وتضعه في مكان مختار بعناية، وتبدأ من فورها بترتيب مكونات "العالة" ووضع الإبريق على الموقد في حركات متتالية تقول للضيف مرحبا بك بيننا ونحن سعداء بتقديم وقتنا وشاهينا وحكاياتنا وضحكاتنا، كلها في هذه العالة وطاسة الشاهي التي سنتشاركها ثلاث مرات في الجلسة، أهم ما يقوله هذا الطقس "نحن لسنا على عجلة من أمرنا، نحن ووقتنا وشاهينا ملك لك".
قد تكون بعض البيوت اختارت تقديم الشاي بالطريقة المعروفة في كوب أو فنجان زجاجي على صحن بنفس اللون لمرة واحدة للضيف تماما مثل القهوة لكن هناك من يعتبر هذه الطريقة تعبير عن النفور من وجود الضيف ورغبة في مغادرته بأسرع وقت ممكن، هذا النوع من الشاي السريع قد تعتاد عليه الأسرة الواحدة في الصباح، لكن الضيف لا يشرب إلا شاهي العالة، فالشاي في ليبيا ليس فقط ذلك السائل خفيف اللون أو شديد القتامة بل هو الشراب وكل الطقوس التي ترافقه فتكسبه مكانته في المجتمع الليبي مترامي الأطراف، وسيفقد هذا السائل ليبيّته إذا فقد الغيمة العاجية البيضاء من الرغوة التي تتوج طاسة الشاهي، فالرغوة الكثيفة دليل على جودة الشاهي ونظافة "العالة".
سيفقد هذا السائل ليبيّته إذا فقد الغيمة العاجية البيضاء من الرغوة التي تتوج طاسة الشاهي، فالرغوة الكثيفة دليل على جودة الشاهي ونظافة "العالة"
يفسر الكاتب فرج غيث قصة الرغوة في مقالته على موقع بلد الطيوب: "تاريخياً عرفت الرغوة التي توضع فوق الشاهي لدى أهلنا الطوارق سكان الصحراء الليبية الكبرى، وقد أخذ باقي الليبيين منهم هذا العرف المتوارث في تحضير الشاي، لقد كان أهلنا من الطوارق يقومون بوضع الرغوة في الكوب فوق سائل الشاهي، لأن الصحراء بها أتربة متطايرة، حتى إذا ما هبّت عاصفة ترابية "عجاج" أو تطايرت الأتربة من الرياح، تبقى الأتربة عالقة فوق الرغوة ولا تسقط في كوب الشاي، على الفور يقوم من يشرب الشاي بنفخ الرغوة فيتطاير معها التراب ويبقى سائل الشاهي نظيفاً، يحتسيه باستمتاع".
في العالم يأتي الشاي عادة بعد القهوة أو قريباً منها وفي ليبيا أيضا لا تتنازل القهوة عن عرشها لكن للشاهي حكاية أخرى مغلفة بالحنين تحفها الضحكات أو حتى الدموع فهذا المشروب رفيق وقت مهما كان هذا الوقت مفعما بالسعادة أو غارقا في الحزن، فطاسة الشاهي حاضرة دائماً رغم اختلاف هذا الحضور وما يرافقه في المناسبات المختلفة، فالعالة التي تنصب في أماكن الفرح ترافقها أصناف الحلويات التقليدية والحديثة، وتقدّم مع الدورين الأول والثاني من الشاهي ليحل محلها اللوز أو "الكاكاوية" أي الفول السوداني في الدور الثالث والأخير، بينما ترافقها في مناسبات الحزن أنواع من الخبز مثل خبز التنور و"السفنز" وهو نوع من الخبز اللذيذ الذي يقلى في الزيت إضافة إلى بعض الأنواع الأخرى من المعجنات المالحة.
تقول الأسطورة إن أول وجود للشاي على سطح الكوكب جاء من الصين، فيما يشبه حكاية تفاحة نيوتن لتسقط أوراق الشاي اليابسة في قدر الماء المغلي أمام الإمبراطور "شين نونغ" الذي أعجبه طعم منقوع الأوراق، ولتنتشر عدوى هذه النبتة في كل أنحاء البلاد وصولا إلى بريطانيا عن طريق الهند في الرحلة التي قطعها هذا المشروب الساحر ليصل إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط مع فترات الاستعمار المختلفة للمنطقة، لتصبح طاسة الشاهي في ليبيا تحديداً ومنذ وصول الشاي إلى هنا في القرن التاسع عشر مثل الماء والهواء فلا سبيل للاستغناء عنها عندما نفرح وعندما نحزن وعندما تمتلئ الصدور وحشة فنحتاج حديثا هامسا مع صديق أو رفقة صاخبة مع صديقات وجارات.
الشاهي... رفيق الحقول والصحارى الليبية
عندما يحين موعد جني ثمار الزيتون في مناطق يفرن وغريان وكاباو تكون العالة الصغيرة أول الحاضرات في ظل الزيتونة، وعندما تتحول سنابل القمح والشعير إلى لون الذهب في حقول المرج والبيضاء ودرنة تكون طاسة الشاهي رفيقة السواعد التي زرعت لتحصد، وعندما يرسم رجال الطوارق خطواتهم على الرمال البكر سيكون الشاهي رفيقهم وشريكهم على أسنمة المهاري.
لا يكاد ضيف البيت الليبي ينتهي من السلام حتى تحضر سيدة البيت أو بناته مفرش "العالة" وتضعه في مكان مختار بعناية، وتبدأ من فورها بترتيب مكوناته ووضع الإبريق على الموقد في حركات متتالية تقول للضيف مرحبا بك بيننا
كتبت الباحثة سعاد أحمد بوبرنوسة في مدونة جولات في التاريخ الليبي نقلا عن المؤرخ محمد الأسطى: "في العهد الإيطالي بالرغم من انعدام وسائل الإعلام ولم تكن ثمة مجلات أو جرائد تستحق القراءة، ومع هذا كانت أخبار المعارك تتسرب عبر العائدين من الجبهة، وبالتالي فإن السهرات حول أكواب الشاهي الصغيرة كانت تنقل أخبار الجهاد وما يدور في جلسات الشاي يمتد حتى منتصف الليل من بعد صلاة العشاء وما يتناقله المواطنون فيها من أخبار المعارك".
وحتى وإن قل ظهور "العالة" في الأيام العادية إلا أنها تكون حاضرة بكامل زينتها وألقها أيام الجمعة من كل أسبوع لأنها مثل أخت شقيقة لطبق البازين أو الكسكسي اللذان يُحَضَّرا في معظم البيوت الليبية يوم الجمعة، وفي شهر رمضان أيضاً يُسمَع صوت غليان الشاهي في البرّاد فيسبق مدفع الإفطار إلى أذن الصائم، ولن تجد سيدة ليبية لازالت تتمسك بردائها الملون إلا وعالتها تتأنق في المطبخ بانتظار ضيف عابر أو جارة ثرثارة أو لمة يلتقي فيها الأولاد والأحفاد وترتفع فيها الضحكات وصراخ الأطفال وشتائمهم الصغيرة.
كبار السن لا يحبذون أن يأتيهم الشاي جاهزاً من داخل البيت.. حتى حين تجلس بينهم وبين عالة الشاهي يقولون لك: حيّد بينّا وبين الشاهي
كتب القاص والباحث في التراث أحمد يوسف عقيلة في حسابه على فيسبوك: "أمهاتنا لازلن يحافظن على طقوس الشاي، يتحدّين إيقاع الزمن السريع بجلسة مريحة، السُّكريات.. السُّفرة.. فراش السفرة.. الموقد.. محبس صغير لغسل الطاسات.. بالإضافة إلى ثراء الألوان في لباسهن التقليدي.. يستمتعن بهذه الطقوس.. كبار السن لا يحبذون أن يأتيهم الشاي جاهزاً من داخل البيت.. حتى حين تجلس بينهم وبين عالة الشاهي يقولون لك: حيّد بينّا وبين الشاهي. يريدون رؤية وسماع خيط الشاي ولابد أن يكون من دورين.. الثاني هو دور النعناع.. الشاي الذي لا رغوة له لا يعول عليه.. يستمتعون بالعين والأذن واللسان.. لا حكاية في غياب الشاي.. الشاي يجمعنا".
شعر وأغنيات في مديح الطقس المتأني
تخصص الأمم المتحدة يوماً عالمياً للشاي هو 21 مايو اعترافاً بدوره في تحقيق الأمن الغذائي والحد من الفقر في عدد من البلدان النامية الذي يعمد دخل الملايين من سكانها عليه، وبين كينيا التي تعتبر من أهم الدول في إنتاج وتصدير الشاي في العالم وبين مصر والمغرب كأكثر شعوب القارة استهلاكاً له تقف ليبيا على ضفة أخرى بعيدة تصنيفات الإنتاج والاستهلاك، ضفة تخص الليبيين وحدهم، يتفننون بها في صنع الطاسة المثالية المكللة بالرغوة والحب، طاسة الشاهي التي انسكبت في أشعارنا وأغنياتنا فكانت تستقبل معنا الأقدار بحلوها ومرها وقد تساهم في توجيه هذا القدر كما يتهيأ لنا، من أشهر أغنيات الراحلة ذكرى التي كتبها الشاعر علي الكيلاني:
في هدرزة شاهي أوقات عشيّة
تلاقوا عليك وغيّروك عليّا
أول ما بدا الشوهاي
جبد سيرتي وتقول كان معاي
علي حدّ قوله كيف منّي جاي
عارف اسراري وما عليه خفيّة
حطّوا حذاك الشاهي
لقيوك طارب يا عزيز وزاهي
ومن قبل عادتهم خراب الباهي
سبايل علي جيب الكلام عليّا
"العشيّة" هي الساعات التي تأتي بين وقت العصر والمغرب من أجمل أوقات النهار وأكثرها مناسبة لجلسات الشاهي والعالة ولمّات الأهل والأصدقاء وثرثرة الجارات، في أبيات الكيلاني تتهم الحبيبة حبيبها بمشاركته في جلسة شاهي جمعته بمن يكيدون لها فيسقونه الشاهي مع "الهدرزة" أو الحديث الذي يجعل قلبه بعيداً عنها، و"الشوهاي" هو صانع الشاهي نقول "سلمك شوهاي" ونقول "شهّيك وزهّيك وصُبّ الخير عليك"، أما الحبيب هنا فقد أطربه الشاهي وجعله يتماهى مع حديث السوء الذي غيّر قلبه على محبوبته.
وفي مقطع من الشعر الشعبي الليبي بنى عليه شعراء كثيرون عدة أبيات في وصف نوع من اللجوء إلى الشاهي ومرارته ليحول بين شاربه وضيق الخاطر الذي قد يعتريه، كم هو شاسع هذا الفراغ الجغرافي المترع على امتداد الخريطة الليبية في الصحراء وفي الجبال وفي الواحات:
مرة مرة
نخش الخلا وندير طاسة مرة
من ضيق خاطري
- نخش الخلا بظلامه
نبكي بعبرة والرتم يتوامى
يصخف عليّا الهوش غير كلامه
ممنوع من مولاه يطلع برّا
يقول الشاعر عندما يضيق صدري ألوذ بالأرض الفارغة الخالية من البشر لأصنع رفيقا أشربه فيواسيني، في الظلام أبكي بشدة وأخرج العبرات من صدري فيتماهى معي الرتم، وهي شجيرة برية فقيرة و"الهوش" مفردة يُقصد بها الأفاعي والعقارب والزواحف السامة التي تهيم في الأرض وحتى تلك ترأف بحال الشاعر حد الكلام معه لولا أن خالقها جعلها صماء وكلامها معصية.
في كتابه "الشاي. ثقافات. طقوس. حكايات" الصادر عام 2018 اعتبر الروائي الألماني ذائع الصيت في البلاد العربية كريستوف بيترز الشاي بمثابة النبيذ الجديد والمشروب الملهم الذي يصنع السعادة، حتى أنه في مراهقته كان يجمع أواني الشاي الخاصة أكثر من جمعه للاسطوانات على عادة أبناء جيله وقتها، في ليبيا الشاهي فعلياً هو النبيذ المباح والحلال، وهو حتماً صانع سعادة من نوع خاص لا يتذوقه إلا من يجيد مراقبة الخيط الرفيع المسكوب من البراد إلى اللقّامة والعكس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع