تعيش إيران في شهرها الحادي عشر من سنة 1401 حسب التقويم الشمسي الذي تعتمده رسمياً في البلاد. وشتان ما بين بداية هذه السنة وما بين نهايتها بالنسبة للإيرانيين، فبعدما مارست الحكومة المحافظة وأنصارها المتشددون مضايقات عدة في الشؤون الثقافية والحريات الفردية على المواطنين بغية تطبيق أحكام الشريعة في المجتمع، عادت السلطات تتوسل بالفنانين كي يعودوا لمزاولة نشاطهم الفني.
وصعّدت الجهات المعنية كثيراً في تضييق الخناق على الحفلات الموسيقية خلال موسم الصيف الماضي، ففي طهران تم إلغاء حفلة موسيقية مرخصة خلال أدائها وتم إنزال المطرب من المنصة، وفي حدث آخر تم رفع مكبرات الصوت التي تصدح بأناشيد إسلامية أمام اجتماع هواة الموسيقى قبل الدخول لقاعة الحفلة، لينتهي المطاف بإلغاء جميع الحفلات المقررة في تلك الفترة الزمنية في مدينة الأهواز جنوب غرب البلاد.
الحكومة التي تبحث عن طمأنة مواليها والمجتمع الدولي حول فرض سيطرتها على الجو العام، أخذت تتوسل بالفنانين ليباشروا في إقامة حفلاتهم الغنائية
وفي تقرير خاص رصدنا الأحداث والمضايقات التي جرت في صيف عام 2022 الذي اعتُبر صيفاً ساخناً واستثنائياً للإيرانيين لما جربوا من أجواء بوليسية خلال تدخل النظام بالشؤون الفردية.
وبعد ما آلت إليه الأمور في إيران منذ ذلك الصيف، حيث شهدت قضية الحجاب التي انتهت بوفاة مأساوية للشابة مهسا أميني في مخفر شرطة الحجاب والاحتجاجات التي تلتها والتي استمرت حتى نهاية العام الماضي، امتنع جميع نجوم الغناء عن ممارسة نشاطهم الفني تضامناً مع عشرات الضحايا الذين سقطوا في تلك الاحتجاجات.
أما الحكومة التي تبحث عن طمأنة مواليها والمجتمع الدولي حول فرض سيطرتها على الجو العام لتؤكد أن الأمور على ما يرام، وكذلك تسعى من أجل تهدئة الأوضاع، أخذت تتوسل بالفنانين ليباشروا في إقامة حفلاتهم الغنائية.
"أرجو من الفنانين..."
"المؤسسات الأمنية تتابع من خلال وزارة الثقافة عودةَ النشاطات الفنية على شكلها الطبيعي بجدية. أرجو من الفنانين خاصة المطربين، أن يشرعوا بفعالياتهم"؛ هكذا صرح وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران محمد مهدي إسماعيلي قبل شهر تقريباً. ووعد الوزير بأن لا تحدث أي مشاكل في إصدار الرّخص ومساعي قوات الأمن لإقامة الحفلات، ليغازل الوسط الفني كي ينسى أحداث الصيف الماضي والمضايقات التي حصلت له.
وحتى الآن كان الردّ رافضاً جادّاً من الشريحة الفنية على ما طلبته الحكومة، ومنذ 6 أشهر أي من شهر آب/أغسطس الماضي حتى كانون الثاني/يناير الحالي، لم يرتقِ فنان إيراني المنصة للغناء سوى أفراد لا يتخطى عددهم أصابع اليد الواحدة.
كان الأول المطرب التقليدي الشهير بَروَاز هُماي، حيث أسدل الستار عن ألبومه الغنائي مقدماً إياه للجنرال قاسم سليماني الذي قتلته غارة أمريكية، في ذكرى سنويته الثالثة عند مطلع العام الحالي، ولم تكن الحفلة عامة بل اختصرت على المسؤولين والمعنيين دون بيع التذاكر والترويج لها. وطالت الفنان انتقادات واسعة على منصات التواصل الاجتماعي لما قام به وسط مقاطعة قل نظيرها في الوسط الفني على مدى تاريخ البلاد.
المغني الآخر هو زانكو، الذي قدم حفلتين في يوم واحد حضرها نحو 4 آلاف نسمة في العاصمة طهران، لينهال الإعلام الرسمي والمحافظ على تغطية واسعة لزانكو، كي يؤكد أن الأوضاع طبيعية والمواطنين منشغلون بأفراحهم.
سمحت حكومة المتشددين أن ترتقي امرأة المنصةَ ككورال في فرقة زانكو الموسيقية، بعد أن كانت تمنع حضور النساء في السنوات الأخيرة
المفارقة الغريبة أن زانكو كان يعتبر فناناً "خفيفاً" في مخيلة وزارة الثقافة قبل ذلك، إذ لم تمنحه الرخص لإقامة أي حفلة غنائية منذ أن باشر بنشاطه الفني، فبقي ينشط على المنصات الإلكترونية وحساباته الشخصية في السوشال ميديا، ولكن الظرف الاستثنائي الذي يمر به نظام الجمهورية الإسلامية وحاجته الماسة لتطبيع الأجواء في ظل عزوف قامات الفن الموسيقي الإيراني عن الصعود على المنصة، جعلت من زانكو فناناً كبيراً وبطلاً وطنياً لتنفيذ سياسات الحكومة.
وأكثر من ذلك فقد سمحت حكومة المتشددين أن ترتقي امرأة المنصة ككورال في فرقة زانكو الموسيقية، بعد أن كانت تمانع حضور النساء في السنوات الأخيرة.
حفلة زانكو نقطة تحول في تاريخ الموسيقي
ليس بعيداً أن تكون هذه الفرصة هي الوحيدة للفنان زانكو بأن يجرب متعة الحضور على المنصة، حتى وإن تزامن ذلك مع حاجة الحكومة إلى مساندته ومساهمته في مهمتها التي بحثت عنها خلال أشهر ولم تنلها لا بالتهديد ولا بالتطميع.
وصفت وكالة تسنيم للأنباء التابعة للحرس الثوري حفلةَ زانكو بأنها "منعطف في تاريخ إيران الموسيقي"، لأنه استطاع أن يكسر حاجز عدم إقامة الحفلات الغنائية. وأشادت وكالة إرنا للأنباء الحكومية بالحفلة، وأكدت أن المواطنين "متعطشون للحفلات الغنائية".
سخر البعض من عبارات الإعلام الحكومي، وتحدث عن المفارقات بين أمس إذ كانت تدعم هذه الوكالات الجهات المتشددة وتمارس ضغوطات إعلامية ضد الفنانين، وبين اليوم التي تحتفل بإطلاق حفلة غنائية وتدعو للمزيد منها.
ما أغضب الشارع هو تلاعب حكومة المتشددين بقوانين البلاد، وإرادتهم في استغلال الوسط الفني لصالح سياساتهم البعيدة كل البعد عن المواطنين؛ ففي بداية عامهم الإيراني وقفوا سداً منيعاً أمام أي نشاط فني مستقل لا يشبه أيدولوجيتهم ليعلنوا في النهاية أنه حراك غير إسلامي، حتى وصلت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وفي نفس العام ولحفظ مكانتهم على هرم السلطة فقط، كسروا كل القيود وأعلنوا عن منح الرخص لكل الفنانين وسمحوا للنساء بالحضور على المنصة ضمن كورال الفرق الغنائية.
علق أحد رواد منصات التواصل: "ما زال الرابر توماج صالحي في السجن لأنه يقدم أغاني لتوعية الشباب، أما زانكو فيسمح لها بإقامة الحفلات لأنه يقدم محتوى سخيفاً في أغانيه".
ضغوط مستمرة ومقاطعات كبيرة
مارست السلطات الأمنية ضغوطات كبيرة على المغنين الذين أعلنوا دعمهم للاحتجاجات التي عمت البلاد سواء عبر إطلاقهم أغاني ثورية أو حزينة، أم تضامن بعض منهم مع سقوط الضحايا عبر حساباتهم الشخصية، فمنهم من اعتقل ومنهم من تحمل قيوداً كبيرة.
وفي حملة منع مغادرة البلاد التي طبقتها القوات الأمنية بكثافة على جميع المؤثرين والنجوم، خضع الكثير من المطربين إلى سياسة المنع من السفر إلى خارج البلاد.
وأعلنت فرقة "ماكان" الغنائية عن ضغوطات تمارسها وزارة الثقافة لإقامة حفلات غنائية، ليعلن أمير مقاره، أحد أعضاء الفرقة: "فرقة ماكان لن تقيمَ أي حفلة غنائية إلى أن تتحسن أحوال الناس".
في الشهر الحادي عشر من السنة الشمسية والذي يسمى "بهمَن"، يقيم النظام الإيراني مهرجان "فجر" بمناسبة ذكرى أيام انتصار الثورة الإسلامية (1979)، وتتنوع أقسام المهرجان بين فئة السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية. وقد شهد المهرجان بجميع فروعه مقاطعة كبيرة من الوسط الفني.
ما حدث عام 2022 في إيران من ممارسة سياسات تنال من حقوق الإنسان والحريات الفردية، وسط أزمة معيشية واسعة النطاق، يبقى نقطة مفصلية لن يعود الشعب بعدها إلى ما قبل
ونشر الفنانون بیاناً للمقاطعة على السوشال ميديا جاء فيه: "مهرجان فجر، إحدى أدوات النظام لجعل أجواء البلاد تبدو طبيعية. نحن نطالب بقوة جميع الفنانين والزملاء وأصحاب الفن وكذلك جمهور الثقافة والفن الإيراني أن يقولوا (لا) لمهرجان فجر في جميع أصنافه".
وشاركت أفلام سينمائية ضئيلة ومعظمهما من إنتاج وزارة الثقافة والحرس الثوري في مهرجان فجر، كما قررت أمانة المهرجان السينمائي، إلغاء السجادة الحمراء للمهرجان الشهير كي لا تتشبه مهرجانات الجمهورية الإسلامية بالمهرجانات الغربية حسب قولهم، بيد أن السبب الحقيقي يعود إلى المقاطعة الواسعة لنجوم الفن.
ما حدث في عام 2022 في إيران من ممارسة سياسات تنال من حقوق الإنسان والحريات الفردية، وسط أزمة معيشية واسعة النطاق، يعاني منها الشعب نتيجة لسياسات النظام التي تتمحور حول معاداة الولايات المتحدة، يبقى نقطة محورية لن يعود الشعب بعدها إلى ما قبل، فوفاة الشابة مهسا أميني كان بمثابة انطلاقة للإعلان عن التمرد على قرارات النظام الإسلامي دون خوف. حسب وصف المراقبين للشأن الإيراني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...