شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما أخبرت أمي أنني مصابة باضطراب ثنائي القطب

عندما أخبرت أمي أنني مصابة باضطراب ثنائي القطب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 31 يناير 202301:09 م

باستمرار، ولمدة ستة أعوام كاملة، أتساءل بشكل يومي في كل صباح أرى به وجه أمي: كيف لم تلاحظ هذه السيدة التي تصفني دوماً بنور عينها، أن هذا النور انفطر من البكاء أمس، كاد قلبه أن يقف إثر نوبة فزع امتدت تقريباً ساعة متواصلة، أنه، بأعجوبة شديدة، نجا من أفكار انتحارية كانت على وشك أن تفتك به بحلول الفجر.

الحقيقة أنه، وبالرغم من الحب الصادق الشديد الذي تكنّه لي أمي، إلا أنها لم تلاحظ ولو مرة واحدة إلى أي مدى يتمكن مني كلب الاكتئاب الأسود في أغلب أوقات العام، بل والأسوأ أنني لم أسلم من نقدها المستمر لي. أمي العزيزة: صدقيني أنا أرغب في مغادرة سريري أكثر منك بكثير، ولكن ما باليد حيلة!

وأخيراً استجمعت شجاعتي

في صباح مشمس من الصيف اللعين الذي يقترن لدي دوماً بالاكتئاب والرغبة المستمرة في شنق نفسي بأقرب حبل لأتخلص من عبء الحياة المستفزّ، قرّرت مصارحة أمي بمرضي؛ قررت إخبارها أني أعاني من الاكتئاب منذ ستة أعوام، مشخصة باضطراب ثنائي القطب منذ أربعة أعوام. مصارحتها أن كل ما أفعله في تلك الأعوام الأخيرة المنصرمة هو انتظار موعد النوبة الجديدة، الهوس لينتشلني من هذا البئر العميق الذي سقطت به، والاكتئاب ليمارس عقلي طقوس القلق المفضلة لديه ويبدأ في توقع الألم ومعايشته قبل حدوثه من الأساس.

قرّرت مصارحة أمي أن التصاقي في سريري لم يكن كسلاً، شعري المبعثر وشكلي الرث أحياناً لم يكن قلة نظافة متعمدة، غرفتي المقلوبة رأساً على عقب لم تكن إهمالاً، لم يكن بيدي ما أفعله يا أمي حقاً.

في هذا الصباح، وبعد أن استجمعت شجاعتي وقوتي، اصطحبت أمي للخارج. فطور شهي ومنظر بديع كانا كفيلين لأن يقلبوا حالة أمي المزاجية لقمة السعادة. وددت لو كان الأمر بنفس السهولة في مخي. وددت لو، في هذه اللحظة بالتحديد، ورثت منها هذا الاستمتاع الطفولي بأبسط الأشياء، وهو الأمر الذي شجعني أكثر على الحديث.

لمدة ثلاث ساعات تقريباً تحدثت بلا انقطاع، حكيت كل شيء، شرحت لها الاكتئاب، ماذا أشعر، كيف تبدو الحياة مع الهوس، وكيف تنقلب تماماً معه. وصفت أدق تفاصيل الألم الذي أعانيه من سنين بمرارة شديدة، شاركتها تجربة العلاج البسيطة التي مررت بها، شاركتها خوفي من الأدوية النفسية.

التصاقي في سريري لم يكن كسلاً، شعري المبعثر وشكلي الرث أحياناً لم يكن قلة نظافة متعمدة، غرفتي المقلوبة رأساً على عقب لم تكن إهمالاً، لم يكن بيدي ما أفعله يا أمي حقاً

ومع تشعّب الكلام، بدأت أمي تدرك، بدأت تستنير، بدأت تستوعب كمّ الألم، أو على الأقل بدا لي أنها تحاول. ولكن، لماذا يبدو لي كذلك أنها تأخذ الموضوع بشكل شخصي أكثر من اللزوم؟!

لماذا تأخذين اكتئابي بشكل شخصي؟

سلاح ذو حدين أن تكن لي أمي كل هذا الحب، أن تحبني أكثر من نفسها، لأنها ببساطة سترى نفسها بي دائماً. كل ما لم تستطع تحقيقه ستراني أحققه، كل مخاوفها ستضعها بي لتكون مخاوفي أنا، وأي فشل لي هو بالتأكيد فشل شخصي لها، وهيهات أن تفشل على يدي.

بناء عليه، اعتبرت أمي إخباري لها بمرضي هو تصريح واضح مني أنها فشلت، فشلت في إسعادي، في دعمي، في تحقيق هدفها الأول؛ وهو ألا يعرف الحزن والاحتياج طريقاً لباب قلبي، ألا أحزن كما حزنت هي أبداً. ولأن بداية أي غضب هو الإنكار، أنكرت أمي مرضي، شككت به، سألتني مراراً إن كنت أتوهّم، ما مدى كفاءة الطبيب الذي شخصني؟ وكلما دحضت أسئلتها، كلما زاد غضبها.

غضبت أمي بشكل غير مبرر لي لحظتها، ثم صمتت صمتاً تاماً. شعور بالذنب يتسلل لقلبي لأنني أفسدت عليها متعتها: هل استكثرت عليها استمتاعها المرح بأبسط الأشياء؟! وعليه صمتت أنا الأخرى وتركتها تحاول الاستيعاب.

وبعد فترة قصيرة أحسستها دهراً، سألتني: "أعملك ايه؟". سألتها بكل الاهتمام والألم وتحمل المسؤولية، تريد هذه السيدة البسيطة التي لا تستطيع أن تدرك في محادثة عابرة أن تفهم معاناة الاكتئاب أن "تعمل" أي شيء وهي لا تدري أصلاً ما هو الشيء. والحقيقة يا أمي أنني أيضاً لا أدري ماهية هذا الشيء، كما لا أدري من أين دبّ كل هذا الغضب في قلبي من سؤالك البريء؟

تقبّلت من العالم قسوة وسوء معاملة لم أستحقها أبداً وزاد ذلك في روحي طبقات الاكتئاب، حتى أصبح كحت تلك الطبقات حلماً يصعب تحقيقه

لماذا كل هذا الغضب؟

لعلها نوبة الاكتئاب، لعلّه الصيف اللعين، وقد يكون إحباطي من ردة الفعل، لومي لنفسي أنني لم أشاركها من قبل، أو، وهو في الأغلب السبب الأقرب للصواب، الشفقة على النفس هي ما جعلتني بكل هذا الغضب. حقاً يا أمي! تحتاجين لكل هذا الوقت والحديث لتدركي أني أعاني؟ ألم يكن ذلك جلياً لأي أحد؟ ألم يلفت نظرك يا أمي كل تلك السنوات الحزن الساكن دوما ًفي عيني؟ كيف يا أمي لم تلاحظي انهياراتي الفجرية المتكرّرة؟ تلك التي كانت تحدثني نفسي بها دوماً أني أبشع ما خلق الرب؟ ألم تعلمي يا أمي أنني هنا بسببك؟ مع شديد الأسف يا أمي أنت لم تعلميني كيف يحب المرء نفسه، كيف يتقبلها ويدعمها، كيف يحب جسمه وروحه وقبول هذا المزيج.

أذاني ذلك كثيراً يا أمي وأذى قلبي، تقبلت من العالم قسوة وسوء معاملة لم أستحقها أبداً وزاد ذلك في روحي طبقات الاكتئاب حتى أصبح كحت تلك الطبقات حلماً يصعب تحقيقه. وفي النهاية تسألينني "أعملك ايه؟". عودي بالزمن يا حبيبة، أعيدي تربيتي من البداية وعلميني كل ما لم تعلميني إياه في طفولتي حتى أستطيع محاربة هذا الوحش عندما أقابله في مراهقتي.
وددت لو قلت لها كل هذا، وأشكر الله أنني لم أقله، واكتفيت برد مقتضب: "ولا حاجة"، وأخبرتها أنني فقط أردت المشاركة، وأنني في حال أفضل من قبل وأحاول دوماً المحاربة. الآن رحلت أمي وبقيت أنا والكلب الأسود معاً في طريق طويل، مرهق، مظلم، لا أعرف بالتحديد كيف هي ثناياه، لا أعلم متى سأتعثر ومتى سأسير واثقة الخطى. لكن بالتأكيد ستنير لي أمي الطريق دائماً، ومثلما سرت دوماً في حياتي بنور احتراقه، سأسير بنور حبها في طريقي المحفوف بالاكتئاب، حتى ألقاها في مكان أفضل، حيث لا يوجد حزن و دموع واكتئاب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard