شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نحن، مرضى الاكتئاب في مصر

نحن، مرضى الاكتئاب في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 3 مارس 201807:56 ص

نحن، مرضى الاكتئاب في مصر، نتمتع بحلقات شبه سرية. نشبه اليهود المارانوس الذين اعتنقوا المسيحية خوفاً من بطش الأسبان، لكنهم محتفظون بيهوديتهم سرًا. إلا أننا نختلف عنهم، فنحن لا نعيش في تكتلات سكنية خاصة، بل من أحاديثنا يكتشف أحدنا الآخر، وعمله أو هوايته التي كان يعشقها ثم هجرها، يكفي أن تجده غير عابىء بالحياة لأن تعرف ذلك، حينها تدخل معه مرحلة أخرى من الصداقة والتعارف، محورها تبادل المعلومات حول الأطباء النفسيين ومهارتهم، والحيل اللازمة للتغلب على الفشل الحياتي الناجم عن الإصابة بهذا المرض. عندما يبدأ وعيك بتلك اللعنة المسماة الاكتئاب، ستجد دائرة من محاربي المرض من أصدقائك ومعارفك وزملائك قد تشكلت تدريجياً، وهم أيضًا لديهم دوائرهم في أماكن أخرى. هكذا، تجد نفسك تتلقى دعماً من شخص لا تعرفه، وربما لن تقابله في حياتك، أو تساعد شخصاً لا تعرف حتى أسمه. ذات مرة، حدثتني فتاة كنت أواعدها عن صديقتها المصابة بمرض نفسي حاولت الانتحار عدة مرات بسببه. وبحثنا –صديقتي وأنا – عن سبل لإقناعها بالذهاب إلى الطبيب. وكنت أتحدث إلى الطبيب الذي أزوره وأطباء آخرين تجمعني بهم صداقة حول السبل الممكنة لإنقاذها، ولكن من دون نتيجة.

حتى جاء يوم هاتفتني فيه صديقتي لتبلغني أن صديقتها حاولت الانتحار مرة أخرى، وكادت تبلغ هدفها لولا أنهم أنقذوها في آخر لحظة. بعد ذلك، قررت هي أن تزور طبيباً نفسيًا، فأرسلت لها عبر صديقتي عناوين الأطباء الذين قد يستطيعون مساعدتها.

نحن في مصر -ولا أعلم ما الذي يواجهه الآخرون في سائر دول المنطقة- نخشى أن نقول -على سبيل المثال-  لزملائنا في العمل أننا نواجه هذا المرض المقيت، كي لا يجعلنا ذلك عرضة للكثير من السخرية، وفقدان العمل أيضاً. لكن في الوقت نفسه يجب أن نسوق مبررًا واهيًا –لكنه منطقي في نفس الوقت-  للنوم 14 ساعة يوميًا، وبالتالي التأخر عن العمل أو عدم الذهاب إليه، كما يجب أن نسوق مبررًا لعدم التركيز الواضح في العمل وفشلنا في ما كنا نؤديه ببراعة من قبل. يجب أن نبرر لأصدقائنا وأسرنا رفضنا الحياة. الكثير منا خسر العديد من الأصدقاء بسبب مرضه، فهم اعتقدوا أننا نرفضهم.
نخشى أن نقول لزملائنا في العمل أننا نواجه هذا المرض المقيت، كي لا يجعلنا ذلك عرضة للسخرية وفقدان العمل
مرضى الاكتئاب في مصر يخشون الحديث عن مرضهم حتى لا يواجهوا نصائح مثل "فقط أخرج من المنزل وستشفى" أو "يجب أن تجد لك زوجة" أو أسئلة من نوع "هل تواظب على الصلاة؟". إذا كان الخروج والزواج والصلاة كافية للشفاء من مرض عضال كالاكتئاب، فلمَ لا نسجله في منظمة الصحة العالمية؟ ولمَ لا يصلح مع بقية الأمراض، نعالج به السرطان وأمراض الكبد والسكري؟ علمًا أن  مرضى الاكتئاب في مصر يعرفون أن المعلومات العامة عن المرض النفسي تشبه المعلومات التي يعرفها إنسان العصر الحجري عن الحاسوب.

لذا يحاول بعض منا المغامرة بالتلميح إلى شخص مصاب بالاكتئاب، وهو على غير دراية به، في محاولة منا لزيادة وعيه ومن ثم القدرة على إنقاذه. في حالات المرض النفسي، يُعدّ الوعي بالمرض نصف العلاج. لذا يرى بعضنا أن ذلك كافٍ للمغامرة بأي شيء لتوعية مصاب على حالته حتى يستطيع إنقاذ نفسه والآخرين. في أفضل الأحوال، ينظر إلينا المصاب غير الواعي، عند محاولة توعيته، بتعالٍ، فهو يشفق علينا، فنحن -كما يرى هو-  "مجانين" و"جنوننا" يوهمنا بأن الجميع مصابون بالمرض نفسه. وهو يحمد ربه ويشفق علينا لأن الله عفاه مما ابتلينا به لأننا غير متدينين بما فيه الكفاية. لكن الأمر أحياناً يستحق المغامرة، فأن تجد نفسك أمام شخص يموت تدريجياً ويقتل كل من حوله، فهو أمر من الصعوبة بمكان، إذ كيف يمكنك أن تقف مكتوف اليدين من دون أن تحاول تنبيهه بأن هناك ثعبانًا ضخمًا يبتلعه ويؤذي الآخرين. عندما تكون على وعي بمرضك فأنت قادر على معرفة ما يسببه من دمار لك وللآخرين، أما إذا كنت غير واعٍ فستستطيع الوصول إلى العديد من المبررات الفاشلة، ولكنها مقنعة لك. فقد استقلتِ من العمل ليس لأنكِ كارهة لكل شيء ناجح في حياتك بل لأنك "عاوزة تتستتي"، وأنت صفعت زوجتك لا لأنك غاضب ولا تستطيع السيطرة على غضبك، لكن لأنها "زنانة"، وأنتما ضربتما أولادكما ليس لأنكما مصابان بمرض يجعلكما تكرهان كل شيء، بل لأنهم "لا يسمعون الكلام".

بالرغم من أن الأطباء يساوون الاكتئاب بالأمراض العضوية، وهم في ذلك يرمون إلى أن المريض النفسي ليس مجنوناً، إلا أن هذا المرض ليس كسائر الأمراض العضوية، فأنتم مع الاكتئاب لا تتصارعون مع فيروسات أو بكتيريا حمقاء، بل تحاربون شخصًا ناضجًا وواعيًا يتملك العديد من الحيل لمنعكم من العلاج. ولمَ لا، فبعلاجكم سيموت، وهو أيضًا مثلكم يحب الحياة، فكيف يستسلم لكم بكل بساطة ليترككم تقتلونه؟ ليست تلك الأزمة الوحيدة مع مرض الاكتئاب، فهذا الشخص ليس كياناً فيزيائيًا على بعد خطوتين مني كما اعتدت في مواجهات الفنون القتالية، بل هو شخص على الرغم من استقلاله عنكم وكراهيته لكل ما تحبون، يسكنكم بل يمتلك نفس درجة ذكائكم وجميع أدواتكم، ويعرف الكثير عنكم، بينما أنتم بالكاد تحاولون فهمه وفهم كيف تسلل إلى قلوبكم.

أتخيل نفسي أواجه شخصًا غير مرئي يستطيع فعل كل ما أفعله ويعرف كل نقاط ضعفي، لكني لا أعرف عنه شيئًا، أهذه مبارة عادلة؟ مع مرض الاكتئاب يتعلم الشخص الانعزال والانفصال. ذات مرة كنت مرهقًا ولم أستطع الذهاب إلى درس الأيكيدو، لينتهي بي الأمر بعيدًا عن صالة التدريب لشهور متصلة. وفشل المدرب الذي أتمتع بصداقة معه، وسائر أصدقائي –القليلين بالمناسبة- في دفعي للعودة ثانية. ومع هذا المرض اللعين، تجد نفسك كارهًا كل ما كنت تحب من قبل. أتذكر أني كنت أشترك عدة مرات في ورش للرقص، لكني لم أذهب إليها. صديقتي التي تعاني من نفس المرض كانت تحب التانجو، شجعتها على الذهاب لأن التانجو يستخدم أحياناً كعلاج للاكتئاب. وبالفعل ذهبنا معًا، وحضرنا عدة دروس، لكن بعد وقت قالت إنها كانت قامعة نفسها وهي تمارس فنًا أحبته لزمن طويل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard