5 سنوات مرت على علاقتنا، كان صوت ندائه المتواصل دافعاً للخروج والبحث عنه، خرجت أدقق النظر لأجده كتلة سوداء صغيرة تجلس خلف عجلة سيارة مقابلة للمنزل، شعرت حينها أن الله أرسله لي، كان خائفاً تركته أمه وحيداً في شارعنا، حاولت طمأنته فأبى. تركت له عُلبة صغيرة عله يجد في لبنها بديلا عن أمه. ظل لولو كما أسميته، قط الشارع الصغير صديقي، يلقاني بنظرات ممتنة ومُتطلبة، يستقبلني في الشارع ويدخل خلفي المحال مختباً بين قدمي، عرفت منه كيف أُحب حيواناً وأتعلق به وأحدثه، مُنذ شهر تقريباً لم أعد أره، كلما رأيت شبيها له في الشارع أقف وأسأله “ما شُفتش لولو”؟
بعد اعتياده على الاهتمام والرعاية من أصحابه؛ يُفاجأ الكلب بوجوده على أحد الأسطح بصُحبة بلطجي يعطيه مُخدرات بهدف تشريسه وإطلاقه على المارة في الشوارع، أو للمشاركة في مراهنات مصارعة الكلاب مقابل 100 أو 200 جنيه
أزمة النفقات
لم تعد الشوارع تتسع للحيوانات الأليفة، ولم يقتصر التواجد فيها على الأنواع المُعتادة من القطط والكلاب البلدي، فأينما تطأ قدمك تجد قطة شيرازي وحيدة خائفة تنتظر من يُطعمها كما تعودت. عمرو مُحمد - 48 سنة- أب لثلاثة أولاد، بينهم اثنان في المرحلة الثانوية. قبل عام واحد كان منزله يحوي 13 قط وقطة، فهو مُحب للحيوانات الأليفة وطالما رغب في رعاية واحد منهم، يقول لرصيف22 إن أول قط اشتراه من محل صغير قرب منزله، لم يكن الأمر مُكلفاً حينها فرغم عمله الحر وعدم وجود دخل شهري ثابت، إلا أنه قرر الاحتفاظ به ورعايته خاصة مع تعلق أطفاله به.
تحمل محمد مسؤولية قطه الصغير، وأهداه أحد جيرانه قطة أخرى لم يعد الجار يتحمل تكلفة الاعتناء بها، ليُفاجئ عمرو محمد بعد أشهر قليلة أنه صار مسؤولاً عن 13 قط، أحبهم جميعاً وحاول الاعتناء بهم إلا أن الظروف الاقتصادية منعته من إتمام دوره تجاههم، فأصبح مُخيراً بين توفير نفقات القطط ودروس أبنائه_حسب حديثه لرصيف22_ رفض عمرو الحديث عن واقعة التسريب وتفاصيلها موضحاً أنه لم يعد يحتفظ سوى بقط واحد.
متوسط سعر الطعام الجاف سابق التجهيز "دراي فود" الخاص بالقطط وصل ل50 جنيه للكيلو بدلاً من 40، فيما وصل سعر شيكارة الرمل ل70 جنيه بدلاً من 50 جنيهاً
بيوت الاستضافة... وسيلة التسريب
الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار مستلزمات الحيوانات الأليفة هي الدافع الأول لامتلاء شلتر عبدالرحمن التهامي (مالك بيت استضافة للكلاب) بالحيوانات فجأة، ليضطر لوقف نشاطه بعد عام واحد من العمل.
يقول التهامي لرصيف22، إن موجة ارتفاع الأسعار بدأت مع رمضان 2022، وفوجيء بعدها باستغلال فندقه لتسريب الحيوانات، فيُسدد صاحب الكلب أسبوعاً من تكلفة الاستضافة ويترك الكلب ويختفي، وبعد محاولات التواصل يجيب مالك الحيوان الأليف بعد شهر أنه لم يعد يقدر على نفقات الكلب، مُقترحاً على التهامي أن يبيعه ويحتفظ بثمنه مقابل استضافته الأسابيع الفائتة.
لم يقتصر الأمر على بيت الاستضافة المملوك للتهامي، فبالتواصل مع غيره من مالكي بيوت الاستضافة؛ علم التهامي أن التسريب بات "ترند جديد"، يقول لرصيف22 إن ارتفاع أسعار مُستلزمات الحيوانات الأليفة تزامن مع انخفاض أسعار الحيوانات ذاتها، رغم رفضه اعتبارها سلعة ترفيهية إلا أن المُجتمع يتعامل معها من هذا المُنطلق، فكانت الأكثر تأثراً بالأزمة الاقتصادية، فما لم يكن الكلب مُدرباً على الحراسة "لن يكون له سعر مُجدي"، استمر الأمر حتى امتلأت عنابر فندقه كاملة ليصبح مسؤولاً عن 14 كلب، من دون دخل يمكنه من العناية بهم.
ارتفاع أسعار الدواجن ومُخلفاتها كان دافعاً لتخلي التهامي عن الاستمرار في عمله، موضحاً أنه كان يحصل على سعر رمزي مقابل الاستضافة، ومع الغلاء الهائل الذي طال كل شيء، ومسؤوليته عن عدد كبير من الكلاب: "لم يعد الأمر مُجدياً. سعر كيلو الهياكل (مخلفات الدجاج من رؤوس وأرجل وأجنحة) أصبح ب32 جنيه بدلا من 7 جنيهات، والأجنحة 45 جنيه والأرجل ب10 جنيهات" فلم يجد مفراً من التوقف وعرض الكلاب للتبني ومتابعة حالتهم مع أصحابهم الجدد، حتى لا يتكرر تسريبهم مرة أخرى.
بيوت الاستضافة كانت الوسيلة الأرحم للتسريب، فالبعض قرر ترك حيواناته للشارع في محاولة لتخفيض الأعباء المادية، يقول عبدالرحمن لرصيف22 إن حيوانات المنزل مناعتهم أقل كثيراً من حيوانات الشارع، فالكلاب فور تسريبها تُصاب بكثير من الأمراض، مثل الجرب، والديدان، والفيروسات، فضلاً عن المُضايقات التي يُلاقونها في الشارع من الأطفال خاصة الكلاب التي تتعرض للربط والخنق والضرب والتعذيب على سبيل اللعب.
حكم بالإعدام
يتفق محمد عبدالدايم مالك محل لبيع مستلزمات الحيوانات الأليفة مع سابقيه في أن السبب الرئيسي لتسريب الحيوانات من المنازل هو ارتفاع تكلفة رعايتها في ظل الظروف الحالية، فيقول في حديثه لرصيف22 إن متوسط سعر الطعام الجاف سابق التجهيز "دراي فود" الخاص بالقطط وصل ل50 جنيه للكيلو بدلاً من 40، فيما وصل سعر شيكارة الرمل ل70 جنيه بدلاً من 50 جنيهاً. موضحاً أن أزمة الكلاب أكبر فمخلفات الدجاج تُمثل العنصر الأساسي في التغذية والآن أصبحت غير متوفرة أو ثمنها مرتفع.
يعاني عبد الدايم لتوفير طعام لكلابه، متوقعاً أن تزداد موجة تخلص أصحاب الحيوانات الأليفة من حيواناتهم في حال استمرار الوضع الحالي، ما يُمثل في رأيه" حكم بالإعدام على الحيوانات" لعدم قدرتهم على التكيف مع الشارع، إضافة لتأثرهم بفراق أصحابهم. موضحاً أن الأسر باتت تسعى لتوفير النفقات الأساسية بالكاد في ظل ارتفاع الأسعار الحالي، فلا يتوفر ما يزيد عن ميزانية المنزل.
في حديقة المنزل المليئة بقطط الشارع اختارت نيللي_اسمها الحالي_ مكاناً بعيداً تكورت على نفسها لم تحاول الاقتراب من شبيهاتها، نظافتها وخوفها أفصحاً عن كونها قط منزل مُسرب حديثاً، يقول محمد محمد إن والدته شعرت بالشفقة تجاه القطة فأطعمتها وانتظرت عودته للمنزل لمعرفة رأيه في الاحتفاظ بها، فقرر إنقاذها موضحاً أنها في البداية رفضت تناول أي طعام غير الدراي فود، إلا أنها بعد فترة ونتيجة غلاء الأسعار استسلمت لتناول اللانشون (لحم بارد متواضع الجودة عالي الصوديوم والمعادن الثقيلة) والجبن المثلثات.
مراهنات ومخدرات ضحاياها الحيوانات المُسربة
وفاء الحيوانات الأليفة وارتباطهم بأصحابهم تلخص في مشهد روته غادة نبيل، الناشطة في مجال حقوق الحيوان ومفوضة من جمعيات الرفق بالحيوان في التعامل مع النيابات وأقسام الشرطة واستلام الأحراز، عن كلب قرر البقاء بجوار مدفن صاحبه أسبوعاً كاملاً، وفشلت كافة محاولات إبعاده عن المكان الذي يضم رائحة الجثمان.
أرجعت نبيل الموجة المتصاعدة لتسريب الحيوانات الأليفة في مصر حالياً إلى عدة أسباب، أبرزها "عدم تطبيق مفهوم الرفق بالحيوان بالشكل الحقيقي، وافتقاد البعض لمعنى الالتزام فبمجرد أن يحمله الحيوان نفقات مادية أو مواعيد تطعيم يتخلص منه، فضلاً عن انتشار شائعات حمل الحيوانات الأليفة لفيروس كورونا خلال فترة الجائحة"، موضحة في حديثها لرصيف22 أنها في فترة كورونا جمعت عدداً كبيراً من كلاب الـبيتز من الشوارع، بينما تنتشر حالياً القطط الشيرازي في مناطق كثيرة.
ناشطة في جمعيات الرفق بالحيوان: الأطفال في الشوارع يتعاملون مع الحيوانات دون رحمة. جمعيات الرفق بالحيوان رصدت حالات كثيرة بين فقأ أعين بعض الجِراء، وقتل كلب بيتبول ضرباً على الرأس بالعصا، وربط آخر صغير بحبل في رقبته وغيرها
التعامل مع الحيوانات باعتبارها من دون روح أو مشاعر سمة أساسية في الشارع المصري _حسب غادة_ مضيفة أن الأطفال في الشوارع "يتعاملون مع الحيوانات دون رحمة"، وأن جمعيات الرفق بالحيوان رصدت حالات كثيرة بين فقأ أعين بعض الجِراء، وقتل كلب بيتبول ضرباً على الرأس بالعصا، وربط آخر صغير بحبل في رقبته وغيرها، إلا أن أكثر ما تعجبت منه، فهو استقبال الناس لتعاطف المتطوعين في جمعيات حقوق الحيوانات مع حيوان مُصاب، أو خروجهم في حملات إطعام للحيوانات بتعليقات سلبية، تنالهم بالسخرية، أو مطالبات بإطعامهم وأولادهم بدلا من الحيوانات، معلقة "كأن الحيوان بياخد رزقهم".
في 2020 قرر محافظ الإسكندرية فرض غرامات على المواطنين من حائزي الكلاب للسير بها على الكورنيش وفي الطرقات العامة من دون تثبيت الكمامة الخاصة. تقول نبيل في حديثها لرصيف22 إن قرار المحافظ ينص على بيع الكلب في مزاد عام في حالة عدم دفع صاحبه الغرامة التي تتراوح بين 1300 إلى 1800 جنيه خلال عدة أيام، موضحة أنها تُباع_بثمن بخس_ لـبلطجية وأشخاص يدخلون مُضاربات بالكلاب.
لم تُجر السلطات المختصة في مصر إلى الآن أية تحقيقات جادة في انتشار ظاهرة المراهنات على "مصارعة الكلاب"، التي انتشرت في مناطق كثيرة على أطراف محافظات القاهرة الكبرى الثلاثة (القاهرة – القليوبية – الجيزة) والإسكندرية
بعد اعتياده على الاهتمام والرعاية من أصحابه يُفاجأ الكلب بوجوده على أحد الأسطح بصُحبة بلطجي يعطيه مُخدرات بهدف تشريسه وإطلاقه على المارة في الشوارع، أو للمشاركة في مراهنات مقابل 100 أو 200 جنيه، تقول غادة إنها تتسلم الكلاب من أقسام الشرطة، كأحراز قضايا "يكون الكلب مُشرَّساً، فيستخدمه المجرمون في حوادث السرقة بالإكراه وتوزيع المخدرات أو إطلاقه على قوات الشرطة أثناء القبض عليهم".
ورُصدت ظاهرة مراهنات "مصارعة الكلاب" في مصر من خلال تقارير صحافية نشرت في العام 2020، وهو نشاط غير قانوني يجري في سرية. وتنبه إليها أحد نواب البرلمان المصري مؤخراً في معرض حديثه عن "محاربة ظاهرة الكلاب الضالة".
ولم تجر السلطات المختصة في مصر إلى الآن أية تحقيقات جادة في انتشار ظاهرة المراهنات على "مصارعة الكلاب" التي انتشرت في مناطق كثيرة على أطراف محافظات القاهرة الكبرى الثلاثة (القاهرة – القليوبية – الجيزة) والإسكندرية.
-----------
الصور الفوتوغرافية عدا الصورة الأخيرة، إهداء لرصيف22 من عبدالرحمن التهامي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت