شهر من التوتر قضته أميرة محمد تبحث بين متاجر مستلزمات الحيوانات الأليفة في الشوارع وعلى شبكة الإنترنت عن الطعام الجاف الذي تأكله قططها الرومية الخمسة.
اعتادت أميرة ان تطعم قططها منتجات ماركة ألمانية معقولة السعر ومرتفعة الجودة، كانت تشكل لها خياراً مثالياً. لكن القيود التي فرضها البنك المصري على الاستيراد منذ نهاية شباط/ فبراير الماضي جعلت خيارات أميرة، التي تعاني قططها من ردات فعل مرضية عند أكل البدائل المصرية، محدودة.
وُفِّقت مربية القطط الشابة في إيجاد ماركة مستوردة أخرى أقل جودة وأعلى سعراً، لكنها تعرف أنها ستضطر قريباً بعد نفاد مخزونها، إلى التضحية بصحة قططها والاعتماد على البدائل المحلية، بعد أن صار طعام الحيوانات الأليفة المستورد "سلعة استفزازية"، في وقت تغيب الرقابة عن المنتجين المحليين القلائل في مجال إنتاج أطعمة الحيوانات.
قد تبدو مشكلة أميرة وغيرها من مربي الحيوانات الأليفة على قدر قليل من الأهمية، في وقت يعاني مواطنون من تبعات الأزمة الاقتصادية التي تشهدها مصر منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي تعاظمت آثارها مع موجة التضخم والركود التي ضربت الاقتصاد العالمي مع الغزو الروسي لاوكرانيا في نهاية فبراير/ شباط الماضي. إلا أن مربّيي ومنقذي الحيوانات في مصر باتوا يستشعرون أزمة كبيرة تؤثر في رؤوس أموالهم وتضاعف شعورهم بالمسؤولية عن تلك الأرواح.
وُفِّقت مربية القطط الشابة في إيجاد ماركة مستوردة أخرى أقل جودة وأعلى سعراً، لكنها تعرف أنها ستضطر قريباً بعد نفاد مخزونها إلى التضحية بصحة قططها والاعتماد على البدائل المحلية، في وقت تغيب الرقابة عن مجال إنتاج أطعمة الحيوانات
طعام ودواء
اتخذ البنك المركزي منذ نهاية فبراير/ شباط الماضي عدة إجراءات تستهدف الحفاظ على ما تبقى من مخزون الدولارات في البلاد، في وقت تتراجع موارد مصر من العملة الصعبة، مع هروب مستثمري السندات والأذون من الأسواق الناشئة. وباتت مهمة الحفاظ على المخرون الدولاري المتبقي وزيادته هي المحرك الرئيس للسياسات المالية التي يقدم عليها البنك المركزي.
من الإجراءات التي اتخذها المركزي عملية تقييد غير مسبوقة للاستيراد طالت مستلزمات الإنتاج من مواد خام وآلات انعكست على تصنيع كثير من المواد، من بينها الأدوية البيطرية.
رجل الأعمال أحمد عادل، تخصصت شركته في استيراد الأدوية البيطرية والخامات اللازمة لتصنيعها، يقول لرصيف22 إن المستوردين تعرضوا لخسائر كبيرة منذ بدأ المركزي في تطبيق سياسة الاعتمادات المستندية، وهو نظام يُخضع عملية الاستيراد لموافقة البنوك أولاً. وبحسب عادل، فإن القرار الذي جرى تطبيقه إجبارياً وبشكل مفاجئ منذ مطلع مارس/ آذار الماضي، لم يعط المستوردين وأصحاب مصانع الأدوية البيطرية فرصة لتدبير احتياجات المصانع أو البحث عن بدائل أرخص قبل إغلاق باب استيراد المواد الخام، ما انعكس على قدرة تلك المصانع على العمل وتوفير الأدوية والمستلزمات التي تحتاجها الحيوانات الأليفة، سواء كانت حيوانات التربية المنزلية أو حيوانات الحقل.
القرار الذي جرى تطبيقه إجبارياً وبشكل مفاجئ منذ مطلع مارس/ آذار الماضي، لم يعط المستوردين وأصحاب مصانع الأدوية البيطرية فرصة لتدبير احتياجات المصانع أو البحث عن بدائل أرخص قبل إغلاق باب استيراد المواد الخام، ما انعكس على قدرة تلك المصانع على العمل وتوفير الأدوية
أثرُ القرارات امتد إلى توفُّر الأعلاف وأطعمة ومستلزمات تربية الحيوانات الأليفة، لا سيما طعام الحيوانات المجفف "دراي فود". وهو ما تشرحه دعاء محمد، التي تدير متجراً لبيع الحيوانات الأليفة ومستلزماتها في إحدى ضواحي القاهرة الكبرى. تقول لرصيف22: "هناك نقص كبير في الكثير من أنواع الدراي فود المستورد للقطط والكلاب، وهناك نقص في أطعمة الحيوانات الأليفة بشكل عام. وحتى رمل الكربون للقطط لم يعد متوفراً ونجده بصعوبة كبيرة جداً".
وتضيف: "تواصلنا مع المستوردين لطلب المنتجات، ولكنها غير متوفرة حتى عند المستورد نفسه، الذي يؤكد أنه يحاول استيراد بضاعة لكن ثمة أموراً تعطل الاستيراد. وباتت الاحتياجات المتوفرة لدى قلة من تجار الجملة بالمخازن تواجه ارتفاعاً كبيراً جداً في الأسعار لأن حجم الطلب يبلغ أضعاف الكميات المتوفرة، إضافة إلى الغموض المحيط بموقف الاستيراد. بتنا ندرك أن الكميات الموجودة في المخازن ربما تكون آخر كميات في السوق".
وعن البدائل المحلية، تقول دعاء: "هي متوفرة في السوق، لكن من قال إنها لن تتأثر في المستقبل القريب. فالمصانع المحلية تعتمد على خامات وآلات وقطع غيار مستوردة، لن تتمكن من العمل من دونها في المستقبل القريب، وحينذاك لن يكون هناك إنتاج محلي ولا مستورد".
"البدائل المحلية تتسبب في احتباس البول والفشل الكلوى لدى الحيوانات وترتفع درجة السمية فيها. لا يوجد وعي لدى المصنعين المحليين لمعرفة أن الحيوانات الأليفة أرواح يحتاج طعامها إلى أن يكون نظيفاً وجيداً وغير مضر لأنها أرواح بريئة"
إضافة إلى ذلك، لا تنصح دعاء باستخدام أطعمة الحيوانات الأليفة المصنعة محلياً: "البدائل المحلية تتسبب في احتباس البول والفشل الكلوى لدى الحيوانات وترتفع درجة السمية فيها. لا يوجد وعي لدى المصنعين المحليين لمعرفة أن الحيوانات الأليفة أرواح يحتاج طعامها إلى أن يكون نظيفاً وجيداً وغير مضر لأنها أرواح بريئة. الموقف الآن هو أن البدائل المتوفرة محلياً زاد سعرها جداً، على الرغم من كونها عالية السمية وتهدد حياة الحيوانات".
وتضيف: "تداعيات الأزمة أصابت تجار التجزئة وأصحاب المتاجر، الذين يحاولون عدم رفع الأسعار بالنسبة لعملائهم ويتحملون أحياناً جزءاً من الخسارة ويقللون هامش الربح"، مشيرة إلى حالة الركود في البيع وقلة الزبائن بسبب الأسعار المرتفعة والمنتجات غير المتوفرة، حتى أصبح التجار يعيشون في أزمة.
ملاجئ لا تقدم دعماً
تعاني ميرا جمال، التي تعمل في مجال إنقاذ الحيوانات ولديها ملجأ للكلاب يضم أكثر من 250 كلباً جرى إنقاذها من الشوارع، من أزمة ارتفاع أسعار الدراي فود وطعام الحيوانات الأليفة، والنقص في كثير من المستلزمات الصحية المتصلة بغداء الكلاب. تقول: "للمرة الأولى يخلو الملجأ من الطعام والأدوية البيطرية بسبب ارتفاع تكلفتها بنسبة تراوح بين 40 و60 بالمئة عقب الحرب الأوكرانية، وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري".
وفي حديثها لرصيف22، أرجعت ميرا الأزمة إلى "جشع التجار"، الذين "ينظرون إلى مُربيي الكلاب والحيوانات الأليفة على أنهم أثرياء"، مؤكدة ارتفاع أسعار الدراي فود إلى الضعفَيْن، لافتةً إلى وجود نقص في الكثير من مستلزمات الحيوانات الأليفة والدراي فود، "مما اضطر كثيرون إلى رمي كلابهم في الشارع، لعدم قدرتهم على الإنفاق على طعامهم".
فيما يقوم محمد غنيم بتربية عشرين قطة في حوش بيت العائلة، وعقب زيادة أسعار الدراي فود، أصبح إطعامهم يتطلب تكلفة ضخمة لا تتناسب مع ظروفه الاقتصادية كشاب لا يزال يعيش في بيت أبويه، ويعمل بالقطاع الخاص بشكل متقطع، وبعد أن بات راتبه الهزيل يكفي بصعوبة أجرة المواصلات ووجبة الإفطار وتدخين السجائر المحلية.
ويوضح غنيم أنه يضطر لشراء هياكل وأرجل ورؤوس الدجاج، ولكن ﻻ بد من قص الأظافر والمناقير كي لا يمزق أمعاء القطط، وهي عملية مرهقة تحتاج إلى وقت، كما أن لديه قططاً شيرازي لا تأكل سوى الدراي فود. علماً أن الجيران يتشاجرون معه بسبب نوعية طعام القطط، لا سيما إذا وجدوا العظام والبقايا.
أما منى محمد، فتعاني منذ مرض قطها الأليف، بعدما أنفقت كل ما لديها من مال لعلاجه وإطعامه، وما زاد من صعوبة الأمر أن الطبيب أوصى بإطعام القط المريض دراي فود مستورداً من نوع فريسكز، لمدة سبعة أشهر. هذه الماركة بات سعر العبوة زنة 85 غراماً منها يصل إلى 240 جنيهاً (12.99 دولار) بعد الارتفاع الأخير في الأسعار، "ولا يمكن إطعامه شيئاً آخر وإلا فستكون حياته في خطر"، وتحت وطأة ذلك اضطرت لطلب المساعدة من بعض المتبرعين والمتطوعين لإنقاذ الحيوانات، كي لا تضطر للتخلي عنه.
بينما يعتني عبدالعزيز علي بحوالي أربعين كلباً وجرواً، وفر لهم مأوى في أرض فضاء تمتلكها عائلته، ويتكفل وحده إطعامهم، وهو الأمر الذي بات يشكل عبئاً مادياً كبيراً عليه بعد ارتفاع الأسعار، مما أضطره لطلب المساعدة من أصحاب القلوب الرحيمة.
ويوضح عبدالعزيز أن تكلفة إطعام الكلاب خلال العام الماضي بلغت ثلاثمئة وثلاثين جنيهاً في الأسبوع، أي نحو ألف وثلاثمئة جنيه شهرياً، أما الآن فأصبحت تكلفة الدراي فود وحدها نحو 550 جنيهاً في الأسبوع أي نحو 2200 جنيه شهرياً، إضافة إلى وجبات هياكل وأجنحة الدجاج والخبز والأرز التي يقدمها لها، وما قد تحتاجه من أدوية بيطرية.
الأبقار والدجاج أيضاً في خطر
أزمة الدولار والاستيراد طالت كذلك قطاعات مستوردي الأدوية البيطرية وتجارها ومصانع الأدوية البيطرية، وانعكست على مُربّيي الحيوانات الأليفة وأصحاب المزارع.
الدكتور هيثم رجائي، الذي تختص شركته باستيراد الأدوية البيطرية، يؤكد لرصيف22 أن الأزمة العالمية الناجمة عن الحرب الأوكرانية والقيود المفروضة على الاستيراد، نجمت عنهما أزمة في الأدوية والمستلزمات البيطرية المستوردة وخامات الانتاج اللازمة لمصانع الأدوية البيطرية في مصر، متوقعاً زيادة الأزمة بسبب الظروف العالمية.
ويوضح رجائي أن مصر تنتج نحو 70% من احتياجاتها من الأدوية البيطرية، لكنها تستود معظم الخامات من الخارج، إلا أن 30% من الأدوية والأمصال البيطرية يجري استيرادها بشكل كامل من الخارج، وهي أدوية حيوية خاصة لدى مزارع الماشية والطيور، ولا يمكن الاستغناء عنها، مشيراً إلى أن "الأزمة الحقيقية تكمن في نقص الخامات التي تعرقل عملية الانتاج في مصانع الأدوية المصرية، وهي ناجمة عن قرار الاعتمادات المستندية وصعوبة توفير العملة الأجنبية".
وبحسب الطبيب البيطري ورجل الأعمال، فإن السوق بات يواجه نقصاً حاداً في الأدوية منذ حوالى الشهر، وأن الأزمة ستتفاقم مع استنفاد المخزون الموجود من الخامات والأدوية، "لكن الأسعار زادت بنسبة تراوح بين 25% و 35% في ظل استغلال التجار للأزمة التي يُتوقع تفاقمها خلال الأيام المقبلة".
أولويات لا تعترف بالحيوانات
يؤكد وائل شهبون، المستشار الإعلامي للاتحاد العام للغرف التجارية، أن ممثلي شركات الأدوية البيطرية في مصر ليس لديهم حتى الآن شعبة خاصة بهم في الغرف التجارية، ولكن تتم مناقشة قضاياهم في الشعبة العامة للأدوية والمكملات الغذائية. مشيراً إلى أن آخر اجتماع عُقد مع ممثلي تلك الشركات كان قبل نحو شهر بحضور ممثلين لوزارة الزراعة، ولم ترد أي شكوى خلاله بخصوص تسجيل الأدوية أو نقص فيها أو في خامات التصنيع، موضحاً أن مصر "طالما كان لديها فائض في الأدوية البيطرية، ومعظم شركات الأدوية بمصرتعمل لصالح شركات كبرى بالخارج".
وبخصوص مستلزمات تصنيع الأدوية البيطرية، يعتقد شهبون أن العقبة ربما تتعلق بنظام الاستيراد والتكيف مع الاشتراطات الاستيرادية الجديدة، والتي سببت حالة من البطء. يقول: "عملية التسجيل المُسبّق وقرار تسجيل المنشأ والمنتجات لدى وزارة التجارة والصناعة، تسبب في إيقاف استيراد ألف سلعة، بجانب قرار البنك المركزي بالعودة إلى نظام الاعتمادات المستندية الذي كان معمولاً به قبل جائحة كورونا وتداعياتها على التجارة العالمية، والذي يلزم المستورد بوجود قيمة الشُحنة كاملة في حسابه البنكي".
في ما يتعلق بأعلاف الحيوانات والطيور وطعام الحيوانات الأليفة "الدراي فود"، يرى شهبون أن مصر تمتلك عدة مصانع كبيرة لإنتاجها، بينها مصنعان دوليان يتم تصدير إنتاجهما إلى الخارج، وأن هناك اكتفاء من الانتاج المحلي للدراي فود.
ويوضح شهبون أن نقص السيولة في الدولارات ووجود اشتراطات جديدة للاستيراد جعل هناك أولويات للاستيراد، كما أن الدولة تشارك كمستوردة لبعض السلع الأساسية ممثلة في وزارة التموين مثلاً، بينما تترك بعض السلعة للسوق الحرة التي تتحكم في ظهور واختفاء بعض المنتجات وأسعارها.
أين الدولار؟
يرى الدكتور يوسف سلّام، أستاذ الاقتصاد الدولي والعلاقات الدولية وخبير الأمن القومي، أن سبب النقص في الأدوية البيطرية والأمصال وطعام الحيوانات الأليفة، يرجع إلى خيارات البنك المركزي في التعامل مع أزمة الدولار، إذ إن أولوية توفير الدولار تذهب إلى السلع الإستراتيجية كالقمح والنفط والمستلزمات الغذائية الضرورية للمواطنين، وهي سلع إلى جانب صعوبة توفير الدولار لشرائها، تواجه ارتفاعاً كبيراً في أسعارها نتيجة للحرب الروسية الاوكرانية ومشكلة سلاسل الإمداد.
ويضيف سلّام أن خروج الأموال الساخنة من مصر والمقدرة بنحو 135 مليار دولار، وبعد أن وصل صافي الأصول الأجنبية بالقطاع المصرفي إلى سالب لأول مرة منذ عام 2017، هو ما اضطر المركزي إلى تقييد الاستيراد والتعامل بالاعتمادات المستندية إلى حين انتهاء هذه الأزمة، لافتاً إلى أن ارتفاع أسعار السلع الإستراتيجية وغير المرنة بالنسبة لواردات مصر وقلة المصادر الدولارية منذ جائحة كورونا التي تبعتها أزمة الحرب الأوكرانية، تزامناً مع ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصاد المصري بشكل كبير جداً، هذه العناصر كلها دفعت البنك المركزي لاتخاذ إجراءات عدة تستهدف الاحتفاظ بالدولار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...