الخوف غريزة أساسية لاستمرار الحياة، وهو المدخل الذي استعان به الباحث جمال أبو الحسن في كتابه "300000 عام من الخوف. قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد"، ليروي قصة البشرية مع الخوف الذي دفعها للتقدم نحو المستقبل، منطلقاً من رؤيته أن الخوف هو واحد من أشد المشاعر والانفعالات البشرية قوة وتأثيراً. وعلى الرغم من اعتباره "شعوراً قبيحاً" لعب دوراً هائلاً في مسار تطور الإنسان، كونه "البرنامج الذي زودتنا به الطبيعة لمواجهة المخاطر".
عشر رسائل متخيلة، تبادلها الكاتب مع ابنته ليلى المعزولة في غرفتها بسبب إصابتها بفيروس كورونا المستجد، بينما هو في عزلته في بلد أخرى بسبب نفس الفيروس، إذ أعادنا كوفيد إلى التاريخ بدوراته المعتادة عبر القرون، بعد أن تصور البعض أننا نعيش "ما بعد التاريخ" أو "نهاية التاريخ".
تسأل ليلى أباها: هل لديك علاج جديد للقلق؟ فيجيبها الأب بسرد القصة من أول بذرة قلق وجدت مع الإنفجار العظيم الذي انبثق عنه وجود كوكب الأرض حتى بداية الديانات التوحيدية، من بناء الخلية إلى بناء المجتمعات. بحيلة سردية جاذبة يروي عن الطاقة كمنبع للحياة ذاتها وتحدٍ للفناء، عن الشفرات المختلفة كوسيلة للتعبير عن المعلومات، ومنها الشفرة البيولوجية DNA، وشفرة اللغة والوعي والتواصل، وشفرة التركيبة الاجتماعية ونظم الحكم، عن الأصل البعيد لفكرة الأخلاق، وفكرة الحرب والنظام المالي، وصناعة الحضارة وتكوين الإمبراطوريات، وغيرها من الأفكار التي ترتبط بالعديد من العلوم والفلسفات.
الكتاب يقوم على هذه الروابط، وهو ما يشير الكاتب إلى أنها قد تكون غير متوقعة بين الظواهر والأشياء وأيضاً العلوم المختلفة، والهدف منها أن يصل القارئ إلى رؤية متعددة الزوايا للظاهرة الإنسانية، فكما يرى الكاتب: التاريخ لم تصنعه الأفكار والفلسفات والحروب فقط، ولكن هناك محددات رئيسية صنعت القصة على نحو ما جرت، مثل العلاقة بين حجم السكان ومعدل الابتكار الذي يولد التكنولوجيا.
تسأل ليلى أباها: هل لديك علاج جديد للقلق؟ فيجيبها الأب بسرد القصة من أول بذرة قلق وجدت مع الإنفجار العظيم الذي انبثق عنه وجود كوكب الأرض حتى بداية الديانات التوحيدية، من بناء الخلية إلى بناء المجتمعات
في الماضي كان معدل الابتكار بطيئاً للغاية، وكل تطور تكنولوجي كان يؤدي إلى نمو السكان على نحو يؤدي إلى إضعاف أثره، وبالتالي كان هناك المزيد من البشر، ولكن لا توجد وفرة. لذلك يرى جمال أن القصة الرئيسية هي قصة الموارد والبحث عن الطاقة، والقدرة على الابتكار والتقدم التكنولوجي. فيما يسمى "التاريخ الكبير".
مثل ليلى، وحتى نفهم قصة الأرض ومخاوفها، نقرأ ما بين سطور الكتاب، مع كاتبه.
"التاريخ الكبير" بالعربية
درس جمال أبو الحسن العلوم السياسية، ويعمل حاليا متحدثاً رسمياً باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، وتولدتُ لديه الفكرة قبل سنوات عندما قرأ عن حماس الملياردير الأمريكي الشهير "بيل غيتس" لمشروع كتابة التاريخ الإنساني بمنهج يعرف بالـBig History، وهو التاريخ الكبير أو الجامع.
استهوته الفكرة وبحث عن كتب ووثائقيات في هذا المجال، وعثر على المحاضرات المُسجلة التي ألقاها أستاذ التاريخ الأسترالي "ديفيد كريستيان"، الذي تعاون مع غيتس في تحويل منهج التاريخ الكبير إلى منهج تعليمي لطلبة المدارس الأمريكية، إذ يرى أن هذا المنهج هو الأفضل في تجهيز الطالب بأساليب التفكير العلمي والربط بين الظواهر، إلى جانب استعانته بمراجع عديدة منها كتاب كريستيان "قصة الأصل"، وكتاب "التاريخ الكبير: بين اللا شيء وكل شيء"، وكتاب "الانسان العاقل" للمؤرخ يوفال نوح هراري. ويضيف أبو الحسن في حديثه إلى رصيف22: "أميل منذ الشباب للكتب التي تروي التاريخ العالمي في مساحة قصيرة، وأعتبر أنها تُقدم للقارئ نظرة طائر ضرورية على الاتجاه الكبير للأحداث، والقوى الأكثر تأثيراً في مسار التاريخ. ومن هذه الكتب مؤلفات هربرت جورج ويلز H.G.Wells، ومؤلفات إرنست جومبريتش وغيرها.
غير أن ما يُميز منهج "التاريخ الكبير" عن هذه النوعية من الكتب هو ذلك التداخل بين العلوم المختلفة، من فيزياء وجيولوجيا وبيولوجيا وجغرافيا وأنثروبولوجي وعلم النفس التطوري وغيرها، من أجل تقديم "قصة متكاملة" أو أقرب ما تكون إلى الاكتمال عن رحلة البشر على الأرض، باعتبارها جزءاً من قصة أكبر هي قصة الأرض نفسها. وربما ترجع أهمية كتاب جمال أبو الحسن إلى كونه فريداً من نوعه في المكتبة العربية، التي لا تعنى كثيراً بالكتابات والترجمات العلمية القائمة على العلوم التطبيقية، إلا في محاولات فردية متفرقة.
تساؤلات ليلى وصوفي
ما يميز الكتاب أيضًا هو بساطة السرد وجاذبيته بالنسبة لغير المختصين سواء أكانوا من الكبار أو البالغين، أو في المرحلة العمرية التي تمثلها الابنة ليلى وهي مرحلة المراهقة.
طوال القراءة تبادرني ليلى بالأسئلة التي تخرج من بين سطور الفصول، كأنها تتولى إجراء حوار مع الكاتب نيابة عن القارىء، وهو ما يعلق عليه الكاتب لرصيف22 قائلاً: "الحقيقة أن الحوار مع الفتاة هو حيلة أدبية لكي أورط القارئ معي في الأسئلة، وبحيث يكون جزءاً من الحكاية وليس مجرد متلقٍ لنوع من التلقين. أريد أن أترك للقارئ بالطبع تقييم مدى نجاح هذا المسعى من عدمه. ولكن ما سعيتُ إليه في واقع الأمر هو أن تكون هناك أصوات مختلفة، وبالتالي أفكار مختلفة في تفسير رحلة التطور الإنساني، وليس صوتاً واحداً".
يواصل أبو الحسن: "الأفكار التي وضعتها على لسان ابنتي هي أفكاري الأخرى، ويُمكنك القول إن الكثير منها تعكس رؤية الشباب والمراهقة لمسار الإنسانية".
منذ بداية الكتاب ورواية "عالم صوفي" الشهيرة لجوستاين غاردار، تلح على ذهني، والتي تقدم تلخيصاً لتاريخ الفلسفة من خلال رسائل تصل لفتاة مراهقة. حظيت الرواية بترجمة واسعة الانتشار، وقرأها الكثيرون في شبابهم الأول وهو ما يعلق عليه جمال قائلاً: "هو كتاب رائع بالفعل، ولا أنسى دوره في إثارة فضولي للفلسفة. الشيء العظيم في هذا الكتاب أنه نجح في أن يشعرنا أن الفلسفة ليست موضوعات ميتة، وكان لدي طموح قديم إلى أن أقدم للعربية شيئاً شبيهاً، لأني أعتبر أن الكتب التي تُبسط الأشياء، أو تثير الفضول، تلعب دوراً مهماً في الإيقاع بالقارئ في سن مبكرة، وإثارة فضوله إلى الأسئلة المهمة، وفتح الأفق أمامه لكي ينطلق في رحلة المعرفة. وأرى أن الصنعة المطلوبة في هذه الكتب ربما تحتاج إلى مهارة أكبر من الكتب الأكاديمية أو المكتوبة للقراء المتخصصين".
من نجيب محفوظ إلى الشيرازي
يبدأ كل فصل من الفصول العشرة بمقولة لشخصية مؤثرة أو قصيدة أو جملة أدبية، وهو ما يرى الكاتب أن هدفه من الاقتباسات ما أسماه "تعريب المحتوى"، ويمكن أن نلاحظ أن هذه الاقتباسات شديدة الصلة بالمحتوى، وتنوع مجالات أصحاب الاقتباسات ورؤيتهم للحياة مرتبط بطبيعة الكتاب، إذ يمكن أن تعيد قراءة الاقتباس بعد انتهائك من قراءة الفصل وتدرك الصلة. بدأت الرسالة الأولى بمجتزأ لنجيب محفوظ "الحاضر نور يخفق بين ظلمتين"، في إشارة إلى بذرة القلق الذي ولدت في الماضي قبل وجود الانسان على الأرض، وتناقلها البشر عبر ملايين السنين، وكذلك المخاوف من المستقبل ومن النهاية المحتومة التي لم تأتِ بعد، ويستعين الكاتب بنجيب محفوظ في أكثر من رسالة، فهو ليس فقط أديبه المفضل ولكنه كاتب مؤثر في وعيه بالفلسفات. كما استعان باقتباسات من أشعار صلاح جاهين، ومحمود درويش، ومقولات لعلي بن أبي طالب والفيلسوف الانجليزي إدموند بيرك، والجنرال الأمريكي روبرت لي، والمؤرخ اليوناني ثيو سيديديس، انتهاءً بشعر لحافظ الشيرازي دالا على النهاية: "يقول العقل: لا يوجد شيء خارج العالم الحسي. يقول القلب: لا، بل يوجد شيء، وقد ذهبت كثيراً إلى هناك".
الكتاب يروي قصتنا مع الخوف وانعدام اليقين، الدين -وبخاصة الأديان التوحيدية- تُعالج هذه الحالة المزمنة، فتمنح المرء قدرة أكبر على التعايش مع هذا الدماغ المشغول دوماً بالسفر إلى المستقبل، مع كل ما ينطوي عليه ذلك السفر من مخاوف ومصادر للقلق
من العلم إلى الدين
بدأت الكتاب بالعلم وانتهى مع الدين، فيما قد يفسره البعض بأنه انحياز لإجابات الأديان السماوية، أو محاولة للتوفيق إن جاز التعبير. وهو ما يتداخل معه الكاتب قائلاً: "لا توجد ولا يمكن أن توجد زاوية واحدة تُفسر مسار الرحلة البشرية، لأن رحلتنا كانت مركبة. لا أنظر لحركة التاريخ كقطاع يتحرك من محطة إلى أخرى، وإنما كشبكة هائلة الحجم، متداخلة العقد والوصلات. العلم هو أداة رئيسية لفهم مسار القصة، وهو أيضاً لاعب أساسي فيها. الدين له دور كبير في عيشنا المشترك كبشر في مجتمعات كبيرة الحجم.
الكتاب يروي قصتنا مع الخوف وانعدام اليقين، الدين -وبخاصة الأديان التوحيدية- تُعالج هذه الحالة المزمنة، فتمنح المرء قدرة أكبر على التعايش مع هذا الدماغ المشغول دوماً بالسفر إلى المستقبل، مع كل ما ينطوي عليه ذلك السفر من مخاوف ومصادر للقلق. أما الأهم فهو أن الأديان بشّرت بمساواة بين البشر في الجوهر الإنساني، مع إقرار هذه الأديان بأن البشر متفاوتون في قدراتهم وحظوظهم في الحياة وصدف الميلاد، بدليل أن الأديان التوحيدية لم تلغِ العبودية مثلاً. ولكن هذه المساواة التي بشرت بها الأديان السماوية كانت لبنة مهمة في بناء مجتمع بشري على أساس مختلف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه