تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، رصيف22.
أغلق المخرج، باب الشقة، ليصوّر المحتجزين، ثم نادى "الكاركتير": "لقد احتجزت أنت وأصدقاءك في عام 1979 الأمريكانَ لـ444 يوماً، والآن أريدك أن تكون رهينتي، فقد تعرف ما مرّ برهائنك حينها".
كان هذا مشهداً من فيلم "444 يوماً" من إخراج الإيراني محمد شِيروَاني، وبحضور إبراهيم أصغر زاده، أحد الطلاب الثوريين المخططين للهجوم على السفارة الأمريكية لدى طهران. ولكن كيف استطاع بضعة جامعيين احتلال السفارة واحتجاز طاقمها؟
هرب الشاه محمد رضا بَهْلَوي في 16 كانون الثاني/يناير 1979، من طهران، وبعد شهر دخل الزعيم الثوري روح الله الخميني إلى إيران بعد سنوات من النفي، فانتصرت الثورة ولفتت أنظار العالم.
رفعت الثورة شعار الموت ضد أمريكا وإسرائيل، وصعدت من لهجة عدائها العلني ضد "الاستكبار العالمي"، وتعني به العالم الغربي، فكان الغضب يسود الثوار، خاصة الإسلاميين منهم، ضد أمريكا، وفي أي لحظة كان يمكن أن يتحول الغضب إلى صراع مباشر أو غير مباشر.
في لحظات الاقتحام، زار وزير الخارجية إبراهيم يزدي، الزعيمَ الثوري الخميني، وطلب منه إيجاد حل للأزمة التي لا تحمد عقباها، فأمر الأخير بإخراج الطلاب من السفارة، ولكن بعد فترة جاء بيان الخميني تأييداً لما قام به الثوار: "يجب أن نتقدم بقوة"
بعد ثمانية أشهر على انتصار الثورة، دخل الشاه الأراضي الأمريكية (ولاية نيويورك)، لعلاج إصابته بسرطان الغدد اللنفاوية. خرج الثوار مطالبين باستعادة الشاه لمحاكمته في طهران، بينما صرحت حكومة الرئيس جيمي كارتر أن معالجة الشاه عمل إنساني وتسديد دين لشريك قديم في الشرق الأوسط.
حركة احتجاجية طلابية
هنا تدخل إبراهيم أصغر زاده وزملاؤه المعروفون باسم "الطلاب المسلمون السائرون على خطى الإمام الخميني"، فشرح في المسلسل الوثائقي الذي أعدته قناة HBO الأمريكية: "كتبتُ الأطروحة الأولية لاقتحام السفارة. كان من المقرر أن ندخل نحن الجامعيين السفارةَ ونسيطر عليها في غضون 48 ساعة. نحتجز الرهائن الأمريكان ثم نأخذ الوثائق. لم نقدّم أطروحتنا هذه إلى قادة الثورة، ولم ننسق معهم حتى، فكنا نعتقد أن الثورة لم تنتهِ بعد!".
في الساعة 10 صباحاً من 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979، تجمع الطلاب أمام السفارة والتحق بهم مواطنون آخرون، وبعد رفع الشعارات وسيطرة المشاعر الثورية على المشاركين وموجة الغضب من الأمريكيين، تم كسر الحاجز الأمني المحيط بالسفارة، ثم دخلت الجماهير الغاضبة إلى المبنى وبحثوا على الموظفين حتى ألقوا القبض عليهم، فأخرجوهم بغطاء الرأس.
بثت الفضائيات ووسائل الإعلام الدولية هذه المشاهد، لينصدم العالم الغربي بما حل بدبلوماسيي أقوى دولة في العالم، فتحول اقتحام السفارة إلى نزاع سياسي مثير جداً بين طهران وواشنطن، وتخللت هذه المشاهد كلمة المتحدث باسم الطلاب أمام الكاميرات: "لسنا إرهابيين، فالإرهابيون هم من يحملون الأسلحة، ولكن شعَرنا بوجود فرصة كي نساعد المجتمع الأمريكي ليفهم عواقب سياسات حكومته في إيران".
وقبل أن يقتحم المبنى بدقائق مصيرية، شعر موظفو السفارة بالتهديد، فوصلتهم الأوامر بتدمير الوثائق. فبدأوا بالميكروفيلم ثم الأوراق. ضغط العمل عطل الجهاز، فقاموا بتمزيق ما تبقى من الملفات السرية، وحين اقتحمت الجماهير مبنى السفارة، انصدمت بوجود أكوام من الوثائق الممزقة. وأطلقوا وقتذاك على السفارة الأمريكية اسم "وكر التجسس".
زادت ثقة الإيرانيين حينما بشرهم آية الله الخميني بالنصر الإلهي: "مَن أسقط مروحيات السيد كارتر؟ الرّمال. فالرمال جُند الله. الرّياح جُند الله!".
"لم تكن سفارة، بل معقلاً لوكالة الاستخبارات الأمريكية. إنها وكر تجسس تحاك فيه مؤامرات ضدّ المجتمع الإيراني"؛ هكذا قال "الطلاب المسلمون السائرون على خطى الإمام الخميني"، والذي وصف الأخير حركتهم بـ"ثورة ثانية".
انشغل الطلاب وبمساعدة أحد الرهائن، بترتيب الأوراق الممزقة لاستعادتها كما كانت. أخذت العملية الكثير من الجهد طيلة أيام، ليتعرف الثوار على ما كان يجري في السفارة ومع من كانت تتواصل وتتعامل في البلاد. حينها كان التلفزيون الإيراني يبث مشاهد من جهود الطلاب ومن الأسرى ومن إشادة الزعيم الديني بما قام به الثوار، فسادت البلاد موجة من الفرح.
كانت الحكومة حينها حكومة ثورية مؤقتة أمر بتشكيلها آية الله الخميني، برئاسة المعارض للنظام الملكي والشخصية الأكاديمية الشهيرة في البلاد المهندس مهدي بازَركان، وهو شخص معتدل كان قد درس في فرنسا، عارض رئيس الوزراء ورجال حكومته، عمليةَ الاستيلاء على السفارة وأخذ طاقمِها رهائنَ.
في لحظات الاقتحام، زار وزير الخارجية إبراهيم يزدي، الزعيمَ الثوري الخميني، وطلب منه إيجاد حل للأزمة التي لا تحمد عقباها، فأمر الأخير بإخراج الطلاب من السفارة، ولكن بعد فترة جاء بيان الخميني تأييداً لما قام به الثوار: "يجب أن نتقدم بقوة". وبعد يومين قدّمت الحكومة المؤقتة استقالتها، احتجاجاً على ما قامت به جماعات ثورية.
وصف أصغر زاده في الفيلم: "منذ تأييد الإمام الخميني لعملنا بتنا أبطال التاريخ. النشاط الطلابي تبدّل إلى نشاط وطني وشعبي، فإن تنازلنا وتركنا الأمر كنا سنصبح خونة مثل جنود يتركون ساحة المعركة. من هنا استمرت عملية 48 ساعة إلى 444 يوماً، وما زالت آثارها تؤثر على العلاقات الأمريكية الإيرانية.
وبينما شعر الثوار بأنهم عوضوا خسارتهم في انقلاب 1953، حينما دعمت واشنطن الشاه الإيراني ضد رئيس الوزراء محمد مصدق، الذي أمم النفط وحدد صلاحيات الملك وقتها، شعر الأمريكان باليأس ووجد الرئيس كارتر نفسه أمام محنة كبيرة: 52 رهينة مع احتلال السفارة التي تعد جزءاً من الأراضي الأمريكية.
لم يقتنع جيمي كارتر بعملية عسكرية تراق بها الدماء، لكنه لم يصل إلى نتيجة للتفاوض. في الحقيقة لم يكن ثمة شخص محدد في إيران لكي يدخل معه في تفاوض بصورة مباشرة، فقد كانت الدولة تعيش أياماً ثورية وانقساماً كبيراً في النظام السياسي والإداري، كما لم ينجح المفاوضون مثل ياسر عرفات بمفاوضاتهم مع الخميني، ولم يستقبل الأخير الملاكم الأمريكي المسلم محمد علي كلاي في طهران للتفاوض.
جمدت الحكومة الأمريكية مليارات الدولارات من الأصول الإيرانية في بنوكها، ونفذت عدة عقوبات على طهران، لكن الزعيم الخميني لم يرضخ.
عملية مخلب النسر
بينما كانت الدبلوماسية تواجه أبواباً مغلقة، وافق كارتر على عملية عسكرية لتحرير الرهائن سميت "مخلب النسر" (Operation Eagle Claw)، عملية شبيهة بأفلام جيمز بوند وقد حيّر خبرها العالم.
أعدت وزارة الدفاع طوال خمسة أشهر، خطةً محكمة، جمعت معلوماتها عبر الأقمار الصناعية، ثم تقرر أن تدخل فرقة كامندو، المعروفة بفرقة دلتا "Delta Force"، في 24 نيسان/أبريل 1980، إلى طهران ليحرروا الرهائن.
فحطت مبدئياً المروحيات في مدينة طبَس شرق إيران، وبعد عاصفة رملية كبيرة، تعطلت بعض المروحيات وسقطت واحدة منها، فتحطمت، ومات إثرها 8 أشخاص من كادر "الكامندو". انفجرت إيران بالفرح وهي تتلقى نصراً تلو نصر: نصر الإطاحة بالنظام الملكي، ثم اقتحام السفارة، والآن تحطيم مروحيات البنتاغون أقوى جيش في العالم.
زادت ثقة الإيرانيين حينما بشرهم آية الله الخميني بالنصر الإلهي: "مَن أسقط مروحيات السيد كارتر؟ الرّمال. فالرمال جُند الله. الرّياح جُند الله!".
لم تسلم أمريكا الشاهَ لإيران، بل اكتفت بإخراجه من الأراضي الأمريكية، ليذهب إلى مصر عهد الرئيس أنور السادات، ومات الشاه المخلوع في القاهرة 30 تموز/يوليو 1980.
قربت الانتخابات الأمريكية، فواجه المرشح رونالد ريغان، الرئيس جيمي كارتر الذي سقطت شعبيته بسرعة، وأثار غضب الأمريكان لعدم تمكنه من إطلاق سراح الرهائن، فكان قرار الخميني سيؤثر مباشرة على قرار الناخب الأمريكي في الانتخابات القادمة، فقيل إن سيدة أمريكية ردت على إحصائية حول اختيار الرئيس: "كارتر اللعين لا يمكنه فعل شيء أمام الآية الله. سأجرب حظي مع راعي البقر (ريغان)."
ريغان المنتصر
انتصر دونالد ريغان، ودخلت الجزائر كوسيط، فقدّمت إيران شرطاً مهماً، وهو رفع الحظر عن 24 مليار دولار من الأموال المجمدة، إضافة إلى أموال يُعتقد أنّ الشاه كان قد سرقها. جرت المفاوضات كمن يدخل خيطاً في إبرة وسط الظلام، لكنها نجحت في النهاية.
"لم تكن سفارة، بل معقلاً لوكالة الاستخبارات الأمريكية. إنها وكر تجسس تحاك فيها مؤامرات ضدّ المجتمع الإيراني"؛ هكذا قال الطلاب المسلمين السائرين على خطى الإمام الخميني، والذي وصف الأخير حركتهم بـ"ثورة ثانية"
أردف أصغر زاده في الفيلم: "في الأشهر الأخيرة من العملية، بات محتجزو الرهائن، هم رهائن بأنفسهم، فقد تأخروا عن صفوفهم الدراسية ودخل كل شيء في حالة إغماء. وانخفضت حساسية المجتمع، فتهيأت أرضية لإنهاء اللعبة".
تحدثنا الوثائق أن جيمي كارتر، انشغل حتى الصباح بمتابعة الإفراج حينما كان ريغان يؤدي اليمين، فكان يأمل أن يعلن هو بنفسه تحرير الدبلوماسيين قبل أن يسلم البيت الأبيض لمنافسه، وحين ركب كلّ الرهائن الحافلةَ متجهين نحو مطار طهران، كان كارتر يقضي لحظاته الأخيرة كرئيس الولايات المتحدة، بيد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تسمح بإقلاع الطائرة إلا بعد أن دخل ريغان البيت الأبيض، فحينها أذل الخميني جيمي كارتر في وطنه.
وما زالت السفارة الأمريكية بيد قوات "البَسيج" التابعة للحرس الثوري الإيراني، فتشهد كل عام اجتماعات في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، تخلد ذكرى اقتحام "وكر التجسس الأمريكي، وإقامة عشرات البرامج سنوياً حول المعاداة لأمريكا والغرب، كما ترفع فيها أعلام إيران وأعلام عاشوراء ومعركة كربلاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...