كيف مرّ هؤلاء الموارنة من الثكنات العسكرية متسللين إلى سدة الرئاسة في لبنان؟ 23 سنة متتالية وساكن قصر بعبدا ضابط شبّ على البزّة العسكرية وردد عبارة "أمرك سيدي" مراراً وتكراراً قبل أن يصير قائداً للجيش ثم يجد نفسه مؤتمناً على صون الجمهورية العرجاء.
آمال كثيرة يعقدها مواطنون كثيرون على القائد، وخيبات أمل كثيرة تُسجِّل دفاتر التاريخ أنهم عاشوها بسببه... لماذا لا يكتفي الضابط الماروني بتسليم الراية والاكتفاء بلقبه "مون جنرال" Mon Général حتى آخر أيام حياته؟ وهل كل تلميذ ضابط ماروني تطأ قدميه أرض الكلية الحربية في الفياضية يراوده حلم لقب "فخامة الرئيس"؟
انقلاب بالانتخاب... صنع في لبنان
يروي الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964)، وهو أوّل قائد جيش لبناني يتبوّأ منصب رئاسة الجمهورية أنه "عام 1958، أجريت استفتاءً في صفوف الجيش حول موضوع تجديد ولاية الرئيس (كميل) شمعون، وهذا سِرّ أكشفه للمرة الأولى، فكانت النتيجة أن الجيش منقسم طائفياً حول مسألة التجديد، فأخذت موقفاً حيادياً عند ذلك من شمعون وأخصامه".
ويضيف: "أنا كنت قادراً على أن ‘أطيّر’ (أُسقِط) كميل شمعون سنة الـ58 لكنني رفضت ‘طيّرو’ حتى ما كل ‘ليتنان’ )ضابط برتبة ملازم) هوي وفايت عالمدرسة الحربية يحلم بإنّو يطيّر رئيس الجمهورية. وهكذا، أكمل شمعون ولايته الرئاسية حتى آخر دقيقة وأنا صرت رئيساً رغماً عنّي. هذه مسألة ضد طبيعتي بالإضافة إلى أنني لا أؤمن بالسياسة اللبنانية ولكن كان عليّ واجب إعادة البلاد إلى وضعها الطبيعي بعد المشاكل التي تعرَّضَت لها".
ووصل شهاب الذي كان قائداً للجيش إلى الرئاسة، عام 1958، بعد فترة شهدت انقساماً في لبنان، في أواخر عهد شمعون، على خلفية جمعت ما بين الانقسام بين مؤيدين لجمال عبد الناصر ومؤيدين للولايات المتحدة والغرب وما بين حسابات طائفية، وسرعان ما تحوّل هذا الانقسام إلى حرب أهلية "صغيرة" كانت "بروفا" للحرب الكبيرة التي ستأتي بعدها بـ17 سنة.
في حديثه المذكور، يعتبر شهاب أن عدم قبوله بخلع رئيس الجمهورية قبل إكمال ولايته هدفه قطع الطريق على أي تدخّل عسكري في الشأن السياسي، وكأنه بذلك يحاول إرساء قاعدة ضد أي انقلاب عسكري على السلطات المدنية.
قيل الكثير عن زهد فؤاد شهاب برئاسة الجمهورية، وعن أهمية فترة حكمه في بناء المؤسسات الإدارية اللبنانية، كما قيل الكثير في المقابل عن إطلاقه يد "المكتب الثاني" (مخابرات الجيش) في التدخل بالشأن السياسي لتأمين استقرار فترة حكمه بالترهيب... وأياً تكن الكفّة المائلة في ميزانه يبقى أنه الرجل الذي فتح بازار إقحام قائد الجيش في السياسة المدنية كمرشح للرئاسة، ويبقى أن وصوله إلى سدة الرئاسة بُني على العنف السياسي الذي كان يعصف بالبلاد حينذاك.
لماذا تمكن "اللواء شهاب" من حصد شعبية ما زال كثيرون من اللبنانيين يحتفظون بها له؟ وكيف لبلد يدّعي ديمقراطية فريدة في بيئته العربية أن يعجز لأكثر من عقدين عن إيصال شخص مدني إلى الموقع الأول في سلطته، وأن يعجر لأكثر من ثلاثة عقود عن أن يفرز قيادات من خارج تلك المتربّعة فوق طوائفها بذكرى البزّة العسكرية التي كانوا يرتدونها أيام قيادتهم للميليشيات أيام الحرب الأهلية؟
الأمر لنا ولنا وحدنا
منذ عام 1998، عجزت المنظومة اللبنانية عن الإتيان برئيس للجمهورية من خارج قادة الجيش. حجة الفرقاء السياسيين أن ابن المؤسسة العسكرية لا يفرّط في انتظام المؤسسات ووحدة البلاد ويحافظ على ما تبقى من الجمهورية المترهلة.
ولكن هذه الحجّة ترتكز على مغالطة. فانتخاب أول قائدين للجيش رؤساء (إميل لحود وميشال سليمان) خَرَقَ المادة 49 من الدستور المعدّل عام 1990، والتي تنص على عدم جواز انتخاب موظفي الفئة الأولى وما يعادلها قبل مرور سنتين على استقالتهم من منصبهم أو إحالتهم على التقاعد.
من الغريب اعتبار أن انتهاك الدستور يساهم في انتظام عمل المؤسسات. لكن يبدو أن الديمقراطية اللبنانية تفصَّل وتخيَّط على مقاس الأشخاص، فمرة يُنتخب قائد الجيش رئيساً في خرق لمادة دستورية، ومرة أخرى تعدَّل المادة بسخرية العبارة المشهورة "لمرة واحدة استثنائياً"، ومرّة ثالثة تعدّل، وأيضاً "لمرة واحدة واستثنائياً"، كي تمدد ولاية الرئيس كما جرى مع إميل لحود عام 2004.
"23 سنة متتالية وساكن قصر بعبدا ضابط شبّ على البزّة العسكرية وردد عبارة ‘أمرك سيدي’ مراراً وتكراراً قبل أن يصير قائداً للجيش ثم يجد نفسه مؤتمناً على صون الجمهورية العرجاء"
هذا هو حال الديمقراطية الاستثنائية النسبية التي تُسمّى "ديمقراطية توافقية": اتفاق أغلبية زعماء الطوائف على أمر ما يعلو فوق الدستور والقوانين، على الرغم من أنف المعترضين، وهذا شكل من أشكال العنف السياسي الذي يُمارس على المواطنين، أو على شرائح منهم ترفض انتهاك دستور بلدها.
وإنْ كان ميشال عون قد تبوّأ سدة الرئاسة بطريقة دستورية عام 2016، هو الذي خرق الدستور بتشبّثه بالسلطة أثناء ترؤسه حكومة كان ينبغي أن تكون انتقالية ومؤقتة بين عامي 1988 و1989، إلا أنه ختم عهده بتعقيد تشكيل حكومة تدير شؤون البلاد والعباد إلى حين انتخاب خلف له، وها هو الآن يعرقل انتخاب رئيس جديد للجمهورية بسبب إصراره على قطع الطريق على أي مرشح غير صهره جبران باسيل.
في ظل هذا المسار، ليس من الغريب أن يكون اسم قائد الجيش الحالي العماد جوزيف عون على قائمة ما يُعرف بـ"المرشحين الجديين".
وإذا كان قائد الجيش الأسبق ميشال سليمان قد وصل إلى سدة الرئاسة على إيقاع انفجار الوضع الأمني والحرب على الإرهاب التي دارت في مخيم البداوي، شمال لبنان، فماذا يَنتظر أو يُنتظر من قائد الجيش الحالي كي يدخل السباق الرئاسي ويتم التوافق عليه؟ هل آن أوان الانفجار الأمني؟
بعيداً عن التساؤلات والاحتمالات، يبقى الواقع أن تجربة قادة الجيش في الرئاسة بعد انتهاء الحرب الأهلية، أكان مستقيلاً قبل ترشحه أم لا، لم تكن على مستوى التطلعات. 23 سنة متتالية أثبتت ذلك. فما الجدوى إذاً من انتخاب رجل "المناقبية العسكرية"، بحال افترضنا صحة تمتعه بهذه الصفة، وتبديل بزّته العسكرية بربطة عنق إذا كان عهده يبدأ بخرق الدستور وسرعان ما يصير جزءاً من المنظومة الحاكمة الفاسدة والمجرمة؟
"هذا هو حال الديمقراطية الاستثنائية النسبية التي تُسمّى ‘ديمقراطية توافقية’: اتفاق أغلبية زعماء الطوائف على أمر ما يعلو فوق الدستور والقوانين، على الرغم من أنف المعترضين، وهذا شكل من أشكال العنف السياسي الذي يُمارس على المواطنين"
لطالما كانت الحياة قهرية وخاضعة لبزّة عسكرية ما في ظل "الديمقراطية التوافقية". عَبَر الشعب اللبناني من تحت سطوة الوالي العثماني إلى تحت سطوة المندوب السامي الفرنسي. ولم تمرّ سنوات قليلة على الاستقلال إلا وأتى رئيس من خلفية عسكرية أطلق "المكتب الثاني" على الحياة السياسية، ثم ما لبثت أن اندلعت الحرب الأهلية ليقع الناس تحت سطوة زعماء الميليشيات، وبعدها استمرت لعقد ونصف العقد هيمنة النظام السوري وجيشه ومخابراته على لبنان واللبنانيين، مع وقوع أجزاء من جنوب لبنان وبقاعه الغربي حتى عام 2000 تحت هيمنة إسرائيل وميليشيا لحد.
تعداد عسكري
إذا أجرينا تعداداً، على الطريقة العسكرية، لتحديد زعماء لبنان الأقوى على الساحة السياسية اليوم نجد أنفسنا أمام: قائد حزب الله حسن نصر الله، وقائد حركة أمل نبيه برّي، وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع، والقائد السابق للجيش وقائد التيار الوطني الحر ميشال عون، وقائد الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط. والمشترك بينهم هو البزّة العسكرية التي يرتدونها حالياً أو ارتدوها سابقاً.
برهن المجتمع اللبناني بجميع تشكيلاته الطائفية والمذهبية والفكرية أنه يقدّم ولاءه الصرف لكل زعيم لبس البزّة العسكرية وحمل السلاح ضد اللبناني الآخر. ومن هنا، ليس من المستغرب أن تكون الحصرية السياسية لهؤلاء القادة الذين أوهموا الموطن بضرورة وجودهم لتأمين الحماية للطائفة من الآخر.
وهل السلاح والرصاص والبزّة العسكرية والرنجر والنظارات الشمسية الداكنة أعلى أولويةً من المال السياسي بالنسبة إلى المواطن اللبناني كي ينتهي الأمر بإقصاء آل الحريري عن المشهد السياسي اللبناني؟
يعتقد كثيرون من الخبراء في معالجة آثار الماضي العنيف أنه من الطبيعي أن تُجرى المصالحات بعد الحروب بين الذين شنّوها، أي بين أمراء الحرب، فهم القادرون على إنهاء العنف المسلح وإبرام اتفاقيات سلام. ولكن تجارب عدة من حول العالم برهنت أنهم غير قادرين على بناء سلام مستدام. وفي لبنان، نراهم اليوم يحكمون أو يعطلون آليات الحكم بعنفهم السياسي وتصفية حساباتهم القديمة. ولسخرية القدر، ما زالوا يمتلكون شعبية كبيرة. هم قادرون على انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية عندما يختلفون في ما بينهم وقادرون على تطويعه لمصالحهم الخاصة ليقولوا له: كلا! الأمر ليس لك... الأمر لنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع