أفضّل ألا أفصح عن تجارب جسدي، بل أخاف أن أفصح عنها. المشاكل الصحية والجنسية التي تلاحق جيلي بأكمله، وربما الأجيال السابقة أيضاً، يخيم عليها الخوف والتهديد بالفضيحة. أحاول أن أفكّك الأسباب وراء الخوف ذاك، وأن أفهم لماذا تشعر معظم النساء بالخوف نفسه؟ لماذا تحولت المواضيع التي نجهلها إلى تهديد مباشر لأجسادنا واستقلاليتها؟ أرجع بالذاكرة الى محطات عدة ترافقني من الطفولة حتى اليوم.
في البيت
ظننت أن المسافة بيني وبين كل أفراد عائلتي نفسها. في الخامسة من عمري، ظننت أن ما يسعني أن أتصرفه مع أبي يمكنني تكراره مع غيره: أجلس في حضن الرجال المقرّبين من العائلة، أو قد أجلس على أكتافهم ليحملوني ويمشوا بي. أليسوا مقرّبين منا؟ أليسوا "مثل أب ثان لي"؟ لكن هذه الحادثة لم تتكرّر، إذ جاءني تأنيب مباشر من النساء في عائلتي، لم أفهمه حينها. لم أفهم وجوب التغطية والحفاظ على بعض أعضاء جسدي، لم أفهم القدسية المتعلقة بالفم والنهدين اللذين لم يكونا موجودين حينها، والعضو التناسلي الذي لم أعرف عنه شيئاً، والمفارقة أن لا شرح يرافق المنع التام للمس أو إظهار أي من هذه الأعضاء. مهّدت هذه التجربة لحياة كاملة من تقديس الجسد.
في المدرسة
أتذكر دخول المعلمة قبل يوم من الرحلة المدرسية لتذكّرنا: "اللبس الفاضح ممنوع. أولئك الذين لا يرتدون ثياباً محتشمة سيرجعون الى البيت. كما أن التبرّج ممنوع. لستم هنا للإغراء". بيد أنها تحدثت مع التلاميذ جميعاً، الا أننا ضمناً فهمنا أن الحديث موجه للفتيات. تغطية الجسد لم تشمل تغطية الذراع مثلاً، لكنه شمل تغطية أجزاء أخرى أكثر حميمية لمنع الصبية من التلصص عليها، ما يطرح في ذهني، وذهن أخريات، أسئلة أخرى متعلقة بوجوب الإخفاء الدائم لهذه الأعضاء المقدسة.
لا تقابل الأسئلة المتعلقة بالجسد بأجوبة، بل بدهشة ممهّدة لحياة من انتهاك أجسادنا، لأننا لا نفهمها، ولأننا نحاول اكتشافها سرّاً، متسائلين بلا أجوبة ومدهوشين بصمت، لأن المقدس لا يناقش على الملأ
في العمل
ظننت أن الجسد مقدس خارج هاتين المؤسستين، لكن تبين العكس في مكان العمل، بعد إلغاء الحجر الصحي والانتقال من مكان العمل الافتراضي إلى المكتب. كانت هذه أول وظيفة لي من دوام كامل، وسط وضع اقتصادي خانق لم يسمح لي بالرفض.
أتذكر ارتياحي للغالبية النسائية التي حذرتني من اليوم الأول من "رب العمل"، ولا أعتقد أن هذه التسمية جاءت من فراغ، بل لأنه متحكم بكل جزء بالشركة، ويقرّر الممنوع والمسموح والذكوري وغير الذكوري، مستغلاً احتياجنا لرواتب مثيرة للشفقة، وامتلاكه لهذه الرواتب وللقرار بأن يعطينا إياها أم لا.
أتذكر أنه لم يفوّت فرصة للمس الموظفات أو قول نكات ذكورية أو جنسية، كما أنه صمّم سياسة مكافحة تحرّش صارمة شرحها لي عندما سألته عنها، فاختزلها بجملة: "لا تقلقي".
حالة الإبهام
تكرار التجارب التي تضع الجسد الأنثوي في حالة من الإبهام، وتطرح علامات استفهام عدة حوله لا تجيب عن أي منها، يخلق هالة مفبركة من الذعر تجاه أجسادنا ويمنعنا من التعامل معها على أنها جزء منا. من حقنا أن نتعلم في المدارس ومن الإعلام عن أجسادنا، وأن ننقل هذه التجارب والمعرفة الى الأجيال القادمة كيلا تتكرّر تجاربنا السيئة ونتوارثها من جيل لآخر. من واجبنا كنساء ورجال ألا نكرّر الخوف، ألا نعيد صنع التابوهات، ألا نعزز قدسية يجب أن تزال، وأهمها، ألا نتوانى عن الإجابة على أسئلة متعلقة بالجسد.
الجسد مقدس فعلاً، لكن ذلك لا يعني أنه لا يجب أن يُطرح كقضية نقاش. قدسية الجسد يجب أن تعني عدم انتهاكه. اليوم، أصبح الجسد مقدساً بمعنى أنه لا يجب أن يتناول، ولا أن تطرح أسئلة حوله، حتى تلك التي ترمي لحمايته. لا تطرح أسئلة إلا تلك التي تصب في مصلحة تعزيز قدسية الجسد.
من واجبنا كنساء ورجال ألا نكرّر الخوف، ألا نعيد صنع التابوهات، ألا نعزز قدسية يجب أن تزال، وأهمها، ألا نتوانى عن الإجابة على أسئلة متعلقة بالجسد
عادة، لا تقابل الأسئلة المتعلقة بالجسد بأجوبة، بل بدهشة ممهّدة لحياة من انتهاك أجسادنا، لأننا لا نفهمها، ولأننا نحاول اكتشافها سرّاً، متسائلين بلا أجوبة ومدهوشين بصمت لأن المقدس لا يناقش على الملأ.
المفارقة أن هذه القدسية تترافق عادة مع ارتفاع في أعداد التحرّش والاغتصاب. عادة ما ينجو الجاني بفعلته ولا يغير سلوكه، بينما يُنظر إلى الناجيات كمجنونات أو مخترعات قصص كطريق سهل للشهرة، أو ينظر إليهن كطالبات للاهتمام تحت حجّة ذكورية قذرة مفادها "يتمنعن وهن راغبات"، كأن اللذة عار.
قالت إحدى صديقاتي في لحظة غضب وتعدٍّ جسدي: " كل الرجال مش مناح"، ليأتي الرد صاعقا من صديق مشترك: "ما حدا قلك تجربيهن كلن".
تعليقات مثل هذه وأسئلة أخرى تطرح علينا، نحن النساء، من قبيل: "كيف ترون أن أجسادكن منتهكة؟" (عادة ما يطرح هذا السؤال بنوع من الازدراء). أجد نفسي عاجزة عن الإجابة عنه، ليس لأنني أتمتع بامتيازات تحجب عني عبء "الأنوثة"، بل لأن الشرح بحد ذاته مهين ومتعب، ويمكن أن يحوّر باتجاهات لست جاهزة لها، وتطلب جهداً نفسياً إضافياً، قد لا يؤثر على الطرف الآخر لأنه ليس شخصياً بالنسبة له بقدر ما هو شخصي بالنسبة لي.
كيف أقول، وسط جمع من الناس أو لأحد بالكاد أعرفه أو لا أثق به كثيراً، عن حياتي برمتها؟ عن الجار والمدرسة ورجال الأمن والسياسة والدين ورب العمل وكثيرين آخرين غربوا أجسادنا عنا؟
هذا المقال هو الجواب الوحيد والأدق الذي أحاول به إيجاد مساحة آمنة للتعبير. مساحة لطالما افتقدتها في المؤسسات التي انتميت لها والتي قدّست الجسد داخل إطار الممنوع. كما أنني أحاول أن أخفض سقف توقعاتي لأنني أعرف أن جوابي لن يكون بتأثير السيرورة الاجتماعية، المتمثلة بالعائلة والمدرسة ومكان العمل، التي لم تعامل الذكور كما عاملتنا والتي لم توضح لهم قط هذا الفرق فترعرعوا غير واعيين له. لذلك، تبقى التوعية وخلق مساحات آمنة للبوح عن أجسادنا وتجاربها مسؤولية شخصية وجماعية، لنتمكن على الأقل من المشي بالشارع دون أن تتهدّد أجسادنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم