كل الحضارات القديمة والحديثة عرفت الرقص ومارسَته. تشهد على ذلك النقوش التي حفرها الناس على الجدران، مثل تلك التي تمتلئ بها المعابد الفرعونية، وتُظهر أجساداً ممشوقة تتمايل بنعومة، وآلات موسيقية عرفها الإنسان في تلك الفترة.
الرقص، في أبسط أشكاله وأعقدها، هو تحريك الجسد وفق إيقاع ما للتعبير عن حالات مختلفة، سواء بمصاحبة الإيقاع أو بدونه. هو رسم بالجسد، هو لغة مدهشة تحاول إيصال رسالتها دون كلام. فحين تشاهد عرضاً راقصاً، سواء قام به فرد أو مجموعة، امرأة أو رجل، تتوصل إلى معنى ما يحيلك إلى الفرح أو الحزن أو الحيرة أو الغضب أو الانتشاء أو الحب. الرقص هو قصيدة يكتبها الراقص/ الراقصة بالجسد، فلو اتفقنا على أن الشعر هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للغة، فإن الرقص هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للجسد وحركته الهادئة أو الصاخبة.
ثقافة وفطرة
الرقص فطرة، مثله مثل الكلام والغناء. فالإنسان، على مرّ التاريخ، احتاج ويحتاج إلى "تنغيم" الكلام ليصبح شعراً وغناءً، وتنغيم الحركة/ المشي لتصبح رقصاً.
المشي ليس شكلاً واحداً لأنه يرتبط بشكل الجسد: طوله وعرضه ووزنه وتقسيماته، لذلك فمشي الرجال ليس كمشي النساء. ليس في الأمر تصنّع، لكنه، ببساطة، يرتبط بشكل الجسد وتموّجاته وانفعالاته، والنظر إلى شارع مزدحم من نقطة مرتفعة ستضعك أمام لوحة عظيمة تموج بأشكال حركات وأنواع مختلفة، يمكنك أن تقسِّمَها إلى نماذج متشابهة.
هذا الغِنى، والتشابه ربما، هو ما جعل الفراعنة يصممون رقصات جماعية، تقوم على حركات متشابهة للأجساد ووضعياتها، وحركات الأذرع والأكف والأصابع، على النحو الذي نراه في الجداريات، وهو نفسه الذي يجعل مصممي الرقصات يستخدمون أعداداً كبيرة من الراقصين والراقصات الذين يتحركون حركات متشابهة ليصنعوا لوحات تثير انفعالات الناس.
في الأول والأخير، الرقص ثقافة، لأنه يرتبط بالبيئات المحلية وعادات الناس وتقاليدهم وقناعاتهم وتديّنهم أيضاً. فالرقص في اليابان مثلاً غيره في منطقة الخليج العربي، على الرغم من أن المكانين يقعان في القارة نفسها، قارة آسيا، وهما معاً غير الرقص في مصر ووادي النيل، وفي إفريقيا. ويختلف كل هذا عن الرقص في أوروبا وأمريكا.
في كل منطقة وكل بيئة وحضارة، يحرِّك الناس أجسادهم بطرق تلائم طبيعتهم، وتلائم الرسالة التي يريدون إيصالها بالحركات، فلكل حركة دلالتها حسب ذائقة المتلقي هنا وهناك. الفلسلفة واحدة وهي الرسم بحركة الجسد، لكن طبيعة هذه الحركة وتأويلاتها ومداها هو الذي يختلف حسب المكان والزمان.
وتختلف حركات الأجساد داخل البيئة الواحدة، حسب طبيعة الجمهور. ففي الباليه مثلاً، ثمة حركة منتظمة جدّاً، وخفيفة جدّاً تقترب من التحليق في الهواء، وثمة تناغم بين جسد الأنثى وجسد الرجل، يرسمان معاً لوحات صاخبة بالحركة، فيها صعود وهبوط، ارتفاع حتى ملامسه السماء، وانخفاض حتى الاستماع إلى أصوات التربة. بينما في الرقص البلدي (الفطري)، ثمة صخب عشوائي غير منظم، يقوم على محاولة إخراج حركة الجسد من نمطيتها واعتيادها في الحركة الوقورة أو، بالكثير، حركة العمل، في الزراعة أو الصناعة، إلخ. الجسد في الحالة الأخيرة يخلخل الغلاف الذي يحيط به كي يتحرر لبعض الوقت تعبيراً عن لحظة غير عادية.
وبين هذين النوعين هناك الرقص الشعبي المنظَّم، ومنه الرقص الشرقي الذي نعرفه في مصر، سواء صُمّم بواسطة مصمم رقصات يدرب الراقصين والراقصات على ثيمات معيّنة يكررونها، أو كان حسيّاً يستجيب لنداء داخلي ويتبعه برهافه، سواء تمثل في نموذج سامية جمال وتحية كاريوكا ونجوى فؤاد، أو تمثل في نموذج سهير زكي.
الرقص والجنس والمجتمع
قد تكون حركة الجسد لوحة جمالية تجلب المتعة البصرية وتوصل رسائل عميقة، وقد تثير الغرائز الجنسية في آن. فالجسد مادة الجنس في النهاية، وحركته بطريقة معيّنة قد تشعل الغريزة وتخرج الأجساد عن طبيعتها وتجعلها تواقة للملامسة!
الفارق بين الصورتين ضئيل جدّاً، مسافة سمك شعرة، بالضبط كاستخدم اللغة ذاتها، بمفرداتها ذاتها، لصنع مقطوعة أدبية رصينة أو مقطوعة إباحية تثير الغرائز إنْ بدّلنا مواقع الكلمات. هذا وذاك موجودان ومتجاوران طوال التاريخ، ووجود القبيح ليس مبرراً لمنع الجميل الراقي، فحتى التعاليم الدينية يُساء استخدامها من قبل جماعات تعتقد أنها مخلصة أكثر للفكرة الدينية، فتقتل وتعذّب وتحرق وتفجر وتمثل بالجثث وهي تحسب أنها تنفذ أوامر الإله. أي إله لأي دين!
"الرقص هو قصيدة يكتبها الراقص/ الراقصة بالجسد، فلو اتفقنا على أن الشِعر هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للغة، فإن الرقص هو توصيل المعنى بالتشكيل الجمالي للجسد وحركته الهادئة أو الصاخبة"
ووظيفة الرقص في المجتمعات أنه تعبير عن الفرح في الأغلب، فالناس جميعاً يرقصون في الأفراح، رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً، بمصاحبة الموسيقى وبدونها، الجميع يهزون أجسادهم حسب إيقاعهم الداخلي وعلى قدر طاقاتهم. وهو رسالة أيضاً، فقد رأينا طقوس الرقص الجماعي أمام المقار الانتخابية، والتي يريد الناس من خلالها إيصال معنى التأييد الشديد، المبالغ فيه، ولذلك يحرصون على تسجيل رقصهم بالفيديو وإذاعته وهم يقرّبون وجوههم من الكاميرات ليتعرف عليهم مَن يريدونه أن يتعرف عليهم.
لكن حركات الجسد قد تعبّر عن الحزن أيضاً، وتختلف في هذه الحالة حسب درجة الحزن من ناحية، وحسب الطبقة الاجتماعية والتعليم والثقافة والبيئة التي يعبّر فيها الحزين عن ألمه. وأظهر مثال يمكن سوقه هو ما يحدث في حالات فقد الأحبة المقرّبين بالموت، ففي حين يكتفي المتعلمون والمثقفون عادةً بإشارات خفيفة للتعبير عمّا يشعرون به، وهي غالباً تعبيرات بالوجه واليدين، سنجد أن الريفيين، خصوصاً من النساء غير المتعلمات قبل نصف قرن تقريباً، يأتون بحركات جسدية عنيفة، يتمرغون في الأرض ويهيلون التراب على رؤوسهنّ، ويقومون بحركات تعبّر عن انفعالات مرتبطة بعلاقته المتوفى بهنّ، وبعضهنّ يلطم الخدود ويشق الثياب، وكلها حركات تريد إرسال رسالة للمشاهد مفادها أن الفقد كبير، وأن المفقود كان عظيماً، وأن الحياة ستكون صعبة بدونه نظراً إلى دوره المهم في حياة مَن حوله... وذروة ذلك رأيناه في جنازة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر الطبيعية، والجنازات الاعتبارية التي أقامها محبوه في كل مدن وقرى ونجوع مصر.
حركة الأجساد لغة من أهم لغات التواصل في العالم. تستطيع أن تعرف ذلك من لغة الصُّمِّ مثلاً، فهم يمثلون كل كلمة بحركة معيّنة تعارفوا عليها، باليد أو بالوجه أو بالقدم، أو بكامل الجسد. وتستطيع أن تشاهدها وأنت تراقب محاولات التواصل بين المختلفين لغويّاً بشكل كبير، مثل العرب والصينيين مثلاً، أو النيجيريين واليابانيين: إذا لم يجدوا لغة وسيطة يتفاهمون بها يلجأون إلى التخاطب بالجسد... هذا الخطاب هو نفسه الرقص بعد أن تطور ليصبح مجموعة من الحركات المنتظمة المتعاقبة، كأنه السجع مثلاً، حركات متنوعة، تكون في المكان الضيق الذي يتعامد عليه الجسد أحياناً، ويكون بالتحرك أفقيّاً أو رأسيّاً في أحيان أخرى.
الرقص والسياسة
فيلم "الراقصة والسياسي" الذي عرض عام 1990، وهو من إخراج سمير سيف، وسيناريو وحوار وحيد حامد عن قصة لإحسان عبد القدوس، وبطولة نبيلة عبيد وصلاح قابيل، حاول صانعوه أن يكشفوا حجم فساد السلطة واستغلال الراقصات واستعبادهن في السر، سواء لمتعة السياسيين أنفسهم، أو للحصول على معلومات من خصومهم.
هناك قصص وأساطير كثيرة عن علاقة الرقص بالسياسة، واشتهر أنور السادات بأنه أحضر راقصات لتقديم عروض أمام رؤساء وسياسيين أمريكيين، فرقصت لهم نجوى فؤاد وسهير زكي، وكان هدفه استثمار إعجاب هؤلاء السياسيين بالراقصات سياسيّاً
والفكرة ليست بعيدة عن الواقع، إذ كان الرقص، والراقصات، حاضراً في المشهد دائماً، وهناك قصص تصل حد الأساطير عن "جهاد" الراقصة والممثلة تحية كاريوكا من خلال عضويتها في التنظيمات اليسارية السرية، ما عرّضها للسجن في عهد عبد الناصر، وعن علاقتها قبل ذلك بالملك فاروق وبعض أفراد الأسرة المالكة، وبعض الأتراك المنتسبين إلى "الباب العالي". كما أن قصص استغلال المخابرات في زمن صلاح نصر للفنانات والراقصات معروفة، وكُتبت عنها كتب وصُنعت أفلام.
لكن الرئيس الأسبق أنور السادات سار خطوتين إلى الأمام في هذا المقام بأن أحضر راقصات لتقديم عروض أمام رؤساء وسياسيين أمريكيين، مثل ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر وهنري كيسنجر، فرقصت لهم نجوى فؤاد وسهير زكي، وهو بالطبع كان يريد استثمار إعجاب هؤلاء السياسيين بالراقصات استثماراً سياسيّاً، حين كان معروفاً أن السادات تخلَّى عن السوفيات الذين كانوا ظهيراً لعبد الناصر، واتّجه إلى الأمريكيين يخطب ودهم، آملاً أن يكون رجلهم في المنطقة، وهو صاحب المقولة الشهيرة بأن 99% من أوراق اللعبة في يد الأمريكيين، وكان يقصد قضية فلسطين وقضايا المنطقة عموماً.
الرقص، إذن، يتخلل الحياة ويعيش مع الناس خطوة بخطوة، حتى أن الصوفيين يرقصون في أشد حالات تعبُّدهم وتقرُّبهم إلى الله، يتركون أجسادهم تتطوح بحرية كأنها تريد أن تطير لتصل إلى خالقها، لأنهم يتصورون أنه يتخذ مكاناً عالياً في السماء وما فوقها، يفردون أذرعهم ويموجونها صعوداً وهبوطاً بشكل دائري كأنها أجنحة الطيور! حتى الصلوات تعتمد على الحركات المنتظمة للجسد، حركات ترسل رسالة عبودية للخالق ضمن رسائل لامتناهية يرسلها الجسد باستمرار في كل الاتجاهات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...