كان "جيب" بعجلات مرتفعة يصعد بين مدينة نابلس، وبلدة الباذان المعروفة بجداولها الصغيرة الوفيرة بالماء، وطيور نقار الخشب، وأشجار الحور والصفصاف والغاب. يعفّر التراب في الطرق الترابية في الجبال الواصلة بين المكانين. تهتز أجساد الركاب، ونصل معفرين إلى الجامعة منتصف النهار، أو مبلولين، ومملوئين برشقات الطين.
كنتُ قد التحقت ببرنامج الماجستير في الأدب، وكانت الانتفاضة الثانية قد اندلعت في 28 أيلول/ سبتمبر من عام 2000، فزادت كلفة التنقل. تزيد أجرة نقل الأجساد في الوجود غير الشرعي والمتسلل، في الزوراق التي تغرق في البحار، وبين الغابات القاتلة، وفي الحروب، حتى في الأوطان، وليس مهما أن ينجو المسافر بجسده، المهم أن يدفع مقابل هذا.
نحتفي بالتباعد بأن نذمّه أو نستغلّ ظروفه، فيصبح لفعلِ إخلاء المساحة للجسد مقابل، وفارقه بعد الكورونا عشرة شواقل بين مدينتي رام الله وجنين! حملتُ جسدي من مطار الملكة علياء، عين فلسطين الشرقية، التي تفتح وتغلق بحسب الاحتلال الإسرائيلي، إلى مطارات مختلفة من العالم، كان يثقل جسدي أحياناً، وكنتُ أخاف أن يطلب مني الموظّفُ مبلغاً إضافياً. كنتُ أخاف أن يزن المشاعر التي تستقرّ بي، أو ذكرياتي، أو الناس الذين عرفتهم، فيخاطبني بعد أن يحدّق في الشاشة أمامه: عشرون دولاراً إضافياً، يا آنسة، مقابل غياب المستلم في الجانب الآخر!
لم يودّع أحدٌ هذا الجسد، وهو ينطلق في أسفاره، ولم ينتظره أحدٌ وهو يحلّ، وكان هذا يجعله أثقل على الدوام!
ولم تكن النقود هي العائق فقط مقابل تنقيل جسدي. كنت أعرف أني أحمله مرّة في صورة ذئبة وفي فمها جراؤها، تقطع بهم النهرَ، فأرى أعضائي تعبر فوق المياه، وأحسّ بخطواتي تختار لها حجارة بارزة، وتقفز فوقها. ومرّة أتذكرني في صورتي وأنا أحمل صندوقَ خضار في الغور العميق، وأرفعه نحو الشاحنة، فينكشف صدري عن ثمرتي بندورة خضراوين، عندما يعلق ثوبي بطرف الصندوق، فيتلقّفه مني السائق، أو واحد يتولّى المهمة في الأعلى، كانت وظيفته ترتيب الصناديق فوق بعضها البعض، دون أن يلاحظ أنه يضع بين صندوق وآخر عضواً من جسد أو كلّ الجسد. وكنت أدفع جسدي في خطّ متواصل، بقدميّ، في تقدّم بطيء خلف حواجز الاحتلال، وحول رأسي يحوم طائر الروح، كان يحرسنا معاً ليطمئنّ أننا نتقدّم، وأننا لن نتوقف أبداً، مهما كانت صعاب الحركة!
عندما أفكر بفضائل أن تسلّ المرأة جسدَها من حُزمة العائلة، أول ما يطالعني ليس امتلاكها غرفة فرجينيا وولف الواحدة، بل مجرّد امتلاكها باباً منفرداً، ونافذة منفردة، تخرج من الأول جسدها، ومن الثانية رأسَها
لم ترهقني تكاليف نقل جسدي بقدر ما أرهقتني تأشيرات الدخول والخروج. على باب البيت تقول أمي بحسم ولوم: "لا تتأخري!" وأرى وجه أبي متجهماً في خلفية المشهد، متدارياً في مكان ما، كأنه يختبئ ليتجهّم أكثر دون أن يحاسبه أحد، ولأردّ وجهي على كتفي، وأخرج كأنّني أرميه في وجه عاصفة ثائرة خارج باب البيت.
لقد خرجت البنتُ تحمل جسدها، وما الذي يقلق؟!
لم تتضح تلك الأسئلة حتى الآن، ولم تطرح مشروعية إجابتها. إنها أسئلة مثل الزيت، وإجاباتها معتمة، ستظل تُلمس ولن تُرى إلى أجل، وأنا أدقق في حالنا كأمة، بعيداً جدّاً. لم أتأخر بجسدي في الخارج سوى بمبرّر، وكنت قبل أن أركن جسدي بجانب حذائي، كلما عدت، أضع على الطاولة أحد المبرّرات، ولم تكن مقنعة أبداً، ولن تكون مقنعة أبداً، فكيف يفسّر العاديّ بغير العادي، وكيف يقنع العاديّ إن كان المتخيّل وحشياً؟
كنت أركض بجسدي في المدينة ركضاً، أهمس في أذن من يقف أمامي في صف البنك لتسلّم راتبي: "اعطني دورك! عليّ أن أعيد جسدي إلى البيت بأسرع وقت ممكن."
خرجت بجسدي مغطّى، وعدت به مغطّى. ظهر مني وجهي وكفّاي فقط. لسنوات طويلة تتربى نساء الشرق على الاستعداد حتى يأتي ذلك اليوم الذي تقول فيه المرأة، مثلما يريد الجميع: "هذه البضاعة لم تُكشف لغيرك!" فيتفحصان بعضهم البعض، كبضاعة!
جلستُ ذات يوم أمام رجل ضخم، علمتُ أنه طبيب، وهذه صفة سعد يتّصف بها الشاري. فنظر إلى جسدي، وحدّقت بطريقة نطقِه للكلمات. كنت في الخامسة والعشرين وجاء يتفحص البضاعة، فأعجبته. لكن لغتَه لم تعجبني، فظلّ جسدي معي وظلّ جسده له، ومازلت أعيّر إلى الآن، لو أنني ذهبت بجسدي معه!
قالت لي صديقة قبل شهر إنها عرفتني في الماضي؛ كتفاي كانتا متهدلتين كغصنين لشجرة ذابلة. أخبرتُها أن شكل أنفي كان مختلفاً، وأن عينيّ كانتا تعيستين، وزاوِيَتا فمي مطويتين نحو عنقي كقوسين. قلت لها: "نعم، لطالما اختبأت في الداخل!"
كانت أخواتي يلمنني: "تظلين حتى آخر لحظة لتخبري أبي أنك ستخرجين؟" كنّ يعرفن، أنني، مثلهن، أخاف، ولكنهن كنّ يردن الدليل على أننا كلنا خائفات، فلم أكن أطمئنهن. ذلك اليوم، هرّبتُ جسدي، دون كلمة دعاء واحدة تتبعني كلّما خرجت به سوى دعوة من أمي بـ"السّتر".
كم عددنا نحن النساء اللواتي أجسادنا، رغم كلّ ما نضعه فوقها، تظلّ بلا ستر؟ هل تختلف أجسادنا عن أجساد غيرنا من نساء العالم لنسترها؟ هل هي أجمل؟ أقبح؟ أكثر هشاشة أمام الشّمس؟ جلدها أرق؟ علبة الطلاء في جلدها أقلّ جودة؟ أكثر حساسية لورودِ الربيع؟ هل هي أجساد أثقلُ في الحافلات، وأجرتُها أعلى؟
كم عددنا نحن النساء اللواتي أجسادنا، رغم كلّ ما نضعه فوقها، تظلّ بلا ستر؟ هل تختلف أجسادنا عن أجساد غيرنا من نساء العالم لنسترها؟ هل هي أجمل؟ أقبح؟ أكثر هشاشة أمام الشّمس؟ جلدها أرقّ؟ علبة الطلاء في جلدها أقلّ جودة؟
في الصفّ العاشر لاحظتُ انحنائي وتواطأتُ معه. لم أكن أريد أن أرتفع. كانت روح المراهقة فيّ يائسة تريد أن تهبط إلى الأرض وتتساوى معها. اختفت رعونة الطفولة فجأة. كنتُ أخرج بلا دعوات وأعود بلا فرح. كنت أقيم منكسرةً بعيداً عن عائلتي التي تزرع الحقول في الغور. أتذكر خطوات متعثرة فوق طريق التراب إلى المدرسة؛ طريق يغرق في الشتاء عندما يمتلئ "الروض" بالماء، فيحوّل الماءُ الترابَ إلى طين لا تردّه الحجارة ولا الحصى، فيتبرّع كلُّ من لديه جرار زراعي من أهل القرية بنقل أجساد الطفلات.
في تلك السنوات حملتُ جسدي فوق ظهري، فغاصت قدماي في الطين. عدتُ مبللة ولم أجد أحداً يشعل لي النارَ لأدفئه، ولم يستلّ أحدٌ من "مطوى" الفراش الغطاءَ ويلفّه.
عام 1991 تكلّم جسدي فبكى. تفتحت به عيون صغيرة حمراء، سبَّبها الخوف من أن أكسر توقعات العائلة التي تعمل في الأرض، حتى أحظى برفاهية حمل جسدي والذهاب به إلى المدرسة كلّ صباح. خشيت أن أخيّب أمل الآخرين! قالت أمي إن اللغة التي تكلّم بها جسدي معبراً عن ألمه تُسمّى في العامية "شَرْيِه".
في عام 1998 أحرقتُ الجهات من حول جسدي وتركتُ له جهة واحدة. دفعت به، في الجامعة، أمامي، كأني أدفع شاحنة معطلة، ولم أسمح له أن ينظر يميناً أو شمالاً. فانطوى على نفسه. قسا، كان حزيناً مثل أرملة تعيل أطفالاً؛ لا أمل لها بالموت ولا رغبة لها بالحياة، وعليها أن تظل واقفة كعمود كهرباء، في رأسه ضوء يحيط به زجاج لا يتّسخ ولا ينكسر. جسد يشبه جسد دجاجة بلدية، تأكل الحشراتِ والعشب، ولون أفخاذها أحمر يميل إلى الزرقة، وعندما يعضّ الطاعمُ على فخذها لا تصيح.
في طفولتي تكفّلت العائلة بنقل جسدي، نقلته في شاحنة، بين الغور والقرية، في رحلة بدأت من أيلول واستمرّت حتى حزيران. كان سرعان ما يأخذ مكانه بجانب الحيوانات، والأغطية، والأثاث الفقير، في مؤخرة الشاحنة. يجلس بجانبي يراقب معي طريقه التي سيقطعها ويظلّ يقطعها. كنت أدرّبه كيف سنتحمل مع بعضنا البعض طريق الحياة، وكانت الطريق مزيجاً من جبال وبيارات وحيوانات وناس ومناظر تسقط عن حوافه، هي نفسها مع تغير لون المشهد مازلت أجذف به بينها. أحفها عن أطرافه كشعر زائد، أقشرها عنه كما تقشّر امرأة حراشفَ السمك عن جسد السمكة.
عندما أفكر بفضائل أن تسلّ المرأة جسدَها من حُزمة العائلة، أول ما يطالعني ليس امتلاكها غرفة فرجينيا وولف الواحدة، بل مجرّد امتلاكها باباً منفرداً، ونافذة منفردة، تخرج من الأول جسدها، ومن الثانية رأسَها. وعندما تريد أن تفعل ذلك تفعله ببساطة؛ تتنفّس الهواء دون أن يسألها أحدٌ: "ما الذي تفعلينه؟" فتضطرّ أن تجيب إجابة غير مقنعة: "إنني أتنفس."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين