كسر إبراهيم نصر الله في روايته الجديدة "طفولتي حتى الآن" صمته الخاص. تدور أحداث الرواية في عمان بأسلوب يجمع بين الخيال والسيرة الذاتية لإنشاء سرد آسر ومتقن، مبدع وواقعي. وهي تتقاطع مع حياة نصر الله نفسه، الذي ولد وتربى في المخيمات الفلسطينية بعمان.
الخيال وعي
تبدو "طفولتي حتى الآن" جزءاً أو تتمة لأعمال "الملهاة الفلسطينية"، لكنّها تتمة من الزاوية الشخصية، يقول نصر الله في حواره مع رصيف22: "ككاتب أنت حاضر في كل عمل تكتبه، فالرواية مهما ابتعدت أحداثها عن كاتبها، إلا أنها بصورة من الصور سيرة فكرية له، سيرة لوعيه الفني، ولوعيه الإنساني، الاجتماعي، والسياسي، والخيالي أيضاً. فالخيال وعي أيضاً، وله أجنحته، كي لا أقول قواعده. كما أن الرواية سيرة ذاتية لإحساس كاتبها بألم وأفراح ومصائر الآخرين ومصيره. إنها عمل يتقن ارتداء القناع وتأدية الدور بحنكة، لتوحي لقارئها أن هذا العالم ولد نفسه بنفسه".
يبقى عالم إبراهيم مخلصاً للقضية الفلسطينية سواء كان ذلك تذكراً بوحاً، يقول: "في ظني أن الكتابة الروائية أكثر من تذكر وأكثر من بوح، فهي إعادة بناء عالم، لا بالحنين إليه أو باستعادته، أو بتقليب أوجاع الروح وأحلامها. إنها رؤية بالدرجة الأولى يتضافر فيها الوعي الفني والوعي الإنساني والتاريخ والقيم الكبرى، وأسئلة الإنسان التي أرّقته منذ أن وجِد على هذه الأرض، سواء كان موضوع الرواية متعلّقا بوطن أو بشخص أو بجماعة أو بمكان صغير أو شاسع. وفي الحالة الفلسطينية أنت لا تتذكر بل تبني الذاكرة، بتحويلها إلى ذاكرة جديدة مدهشة يعيشها قراؤك ويشتهونها، أو يسكنونها، بعد أن سكنتهم".
"الحزن نصف فلسطين، ولعله أكبر"
ورغم ذلك فإعادة بناء العالم عند نصر الله لا تخلو من حنين لفلسطين الضائعة، وضياعها من ربى بداخلنا الحنين وولد في نفوسنا الحزن، ربما لهذا يقول إن "الحزن نصف الموت"، فإلى أي مدى يكون قارئ أعماله مصيباً إذا قال إن "الحزن نصف فلسطين"، يعلق إبراهيم نصر الله: "الحزن نصف فلسطين، ولعله أكبر، لكن الحالة الفلسطينية حالة غريبة، فقد يصل الحزن فيها إلى ثلاثة أرباعها، لكن المفارقة أن الربع الأخير، الذي هو الإصرار على الحياة والمقاومة وإدراك أن الأمل هو العمل، يتجاوز بقوته الأرباع الثلاثة. وهذا الأمر يمكن أن ندعوه هنا معادلة القوة المرفوعة على كف الروح، مقابل معادلة القوة المرفوعة على بطش الغطرسة والاحتلال والفاشية".
ويتخذ نصر الله من شخصية جده الأكبر سبيلاً لينهل من التراث الشعبي العامي الفلسطيني الدارج، بدءاً من ارتدائه "القمباز" وهو ثوب الرجال التقليدي في فلسطين، انتهاءً بأشعار تنهل من التراث الفلسطيني وتحمل في داخلها حزناً دفيناً يشبه حزن الفلسطيني على أرضه المحتلة.
إعادة قراءة التراث
أما عن رؤية نصر الله لهذا التراث وكيفية استخدامه فيضيف: "حين كنت أعدّ لكتابة روايتي (زمن الخيول البيضاء) قرأت التراث الفلسطيني بصورة واسعة للغاية، وقد سكن التراث هذه الرواية بوجوه متعددة، وأبعاد فنية ودرامية، وحين بدأت التحضير لروايتي (قناديل ملك الجليل) عدت وقرأت ما قرأت في السابق، وما ظهر بعده من أبحاث وحكايات ونصوص مختلفة. هذا كله وجد مكانه أيضاً في هذه الرواية، لا باعتباره توظيفاً مباشراً، بل استلهاماً له، وتوسيعاً لمداه، وهذا كتد يوصلني، في أحيان كثيرة، إلى كتابة حكاية شعبية، لا وجود لها، وكتابة قصائد بالعامية لا يعرفها التراث الشعري".
يشرح نصر الله وجهة نظره أكثر: “الاستخدام هنا ينقسم إلى قسمين، الأول هو اشتقاق نصوص جديدة نابعة من روحه ومعبرة درامياً عن أحداث روائية، أو اشتقاق قصائد شعبية، تأليفاً، تؤدي هذا الغرض، وتعبِّر لا عن الماضي الذي يمثله التراث وحسب، بل الحاضر والمستقبل الذي يسعى إليه البشر، وشخصية الجد في الرواية تتشكل من هذا المزيج».
مخاطرة الشعر
يقول نصر الله في روايته إن "أخطر شيء في العالم، أن تكون شاعراً"، ويبقى السؤال: لماذا؟ يجيب: "هي رؤية ذلك الطفل في رواية (طفولتي حتى الآن)، إنها محكومة بمنطق إدراكه للعالم. ورغم أنه منطق تحتضنه البراءة، في زمن لم يعرف فيه إلا الشعر، فإن القول يمكن أن ينطبق على كل فن في الحقيقية، وكل عمل يمكن أن يقوم به الإنسان، إذا كان طموحه النهائي هو التجاوز، أو الاتقان الفريد".
"أخطر شيء في العالم، أن تكون شاعراً"، يحكي الروائي إبراهيم نصر الله مشواره ومحطاته، وخصوصية الكتابة الإبداعية في هذا العصر، فهل تتفقون معه؟
لم يترك إبراهيم طفولته يوماً تبتعد كثيراً، لم يجد بداً من الاحتفاظ بها، ولا يزال ينهل منها، وها هي الكلمات التي طارت من رأسه كلما رأى "نور" بطلة الرواية تعود لتوظف في الكتابة، حيث يبدو نصر الله مخلصاً تماماً لما قاله في ديوانه "عواصف القلب" في عام 1989:
"لم أترك طفولتي يوما تبتعد كثيراً
إن الوحوش تتجول في الجوار
لذا.. لم أجد بداً من الاحتفاظ بها.. حتى الآن".
وقد تعرف إبراهيم طفلاً على 10 شعراء لكنه انحاز لتجربة فدوى طوقان، فهل الحسّ الفلسطيني هو الذي قاده لشعر طوقان؟ يجيب نصر الله: "في ذلك العمر، أظن أن ما شدني هو جمال ذلك الشعر، وهو هنا شعر إبراهيم طوقان، وسلاسته ودراميته بسبب سرديّة ذلك الشعر، لا أظن أن ذلك الطفل كان يملك وعياً وطنيّاً، بل حسّاً وطنياً؛ حسّاً بالتشرد وحسّاً بالبؤس، وأجمل ما حدث أن شعر إبراهيم اخترق قلب الطفل وأثر فيه، ولعله من هنا تسلل إلى عقله فيما بعد، وساعده، مع روافد أخرى أن يشكل وعيه".
يعنون الروائي الفلسطيني روايته القادمة بـ"شمس اليوم الثامن" وكأنه نزوح لكتابة الروايات الأشبه بالسيرة الذاتية، يعلق نصر الله:."رواية شمس اليوم الثامن كتبت خلال كتابة "طفولتي حتى الآن"، فقد كان من المتوقع أن يكون حجمها، داخل الرواية، ثلاث صفحات على الأكثر، لكنها راحت تطول وتستقل. إنها رواية صغيرة من 130 صفحة، ويمكن أن أعتبرها الرواية الطفلة، وأن أدعوها "الطفولة الثامنة" رغم أنها طفولة سابقة، إنها طفولة الجدّ الذي يقول الشعر في "طفولتي..."، وتدور أحداثها عام 1900، إنها رواية سيرة غيريّة، أسطورية، لا واقعية، وهذا ما يجعلها مختلفة عن أي عمل كتبته حتى الآن".
"أظن أن اللاجئ يحتاج زمناً طويلاً قبل أن يكون شجاعاً، إذ يمرّ وقت طويل قبل أن يطمئن إلى أن الأرض التي يقف عليها باتت آمنة، أولاً، ثم يلزمه وقت آخر ليطمئن أن له الحق في الوقوف عليها. هذا ما كتبته في (طفولتي حتى الآن) وفي أعمال أخرى"
قد يبدو للقارئ هنا أنه أمام ثنائية أو جزء ثان من روايته "طفولتي حتى الآن" خصوصاً أنها انتهت بالطفولة السابعة والرواية الآتية تعنون بـ "شمس اليوم الثامن"، ينفي إبراهيم هذا التوقع: "إنها مستقلة عنها تماماً، ولكن هناك الكثير الذي يمكن أن يكتب ما بعد الطفولة السابعة في (طفولتي حتى الآن)، ولكنني لست على ثقة من أنه سيكتب على شكل رواية أو على شكل سيرة ذاتية، وإن كنت أميل دائماً لسيرة غير تقليدية، على مستوى البناء الفني، كما حدث في (السيرة الطائرة) التي كتبت فيها سيرتي في السفر، أتمنى أن أوفق في إيجاد بناء فني يتسع لما لم يُقل في هذه الرواية".
لا يعتبر نصر الله "طفولتي حتى الآن" أكثر رواياته التي تضع يدها على منابع الكتابة عنده، ويظن أن: "هناك إضافة إليها كتاب (السيرة الطائرة) وكتاب (كتاب الكتابة)، ورواية (شرفة الفردوس) و(شرفة رجل الثلج) التي أعتبرها تجربة في الكتابة وتحولاتها ومعناها، وهناك بعض الفصول في أعمال أخرى».
لقاء بأصحاب نوبل
التقى إبراهيم نصر الله للمرة الأولى بنجيب محفوظ قبل ثلاث سنوات من فوز الأخير بجائزة نوبل في مكتبه بجريدة الأهرام في أحد أيام يناير/ كانون الثاني 1985، ويكشف عن تفاصيل وكواليس هذه الزيارة: "كنت شاباً صغيراً مفتوناً به وبعالمه، وكانت روايتي الأولى (براري الحُمّى) بالمطبعة في تلك الأيام، وكم تمنيت لو أن معي نسخة لأهديها إليه، كان الحديث عاماً عن الكتابة، والحياة والأدب في الأردن وفلسطين، ذلك هو اللقاء الوحيد، فبعدها بقيت ممنوعاً من السفر لمدة ست سنوات، لكن اللقاء ترك في نفسي ذلك الأثر الكبير لجماليات تواضع بعض الكبار، سواء في العالم العربي أو في العالم، وهذا ما تأكد حين أتيح لي أن ألتقي فيما بعد أربعة من حملة نوبل، وتمضية وقت طويل وجميل معهم".
يرى إبراهيم نصر الله أننا نذهب دائماً لصناديق الاقتراع للاختيار ما بين سيىء وأسوأ، فهل ما زلنا ندور بين الخيارين؟
في روايته "طفولتي حتى الآن" يرى إبراهيم نصر الله أننا نذهب دائماً لصناديق الاقتراع للاختيار ما بين سيىء وأسوأ، "ليس على المستوى السياسي وحسب، بل على مستوى الماضي والحاضر، التراجع والتقدّم"
يجيب نصر الله دون تحفظ: "نحن ندور، أو الأصح يُطبق علينا هذان الخياران منذ أكثر من 70 عاماً في العالم العربي، ليس على المستوى السياسي وحسب، بل على مستوى الماضي والحاضر، التراجع والتقدّم، وهذا الاكتفاء المريض بما في تاريخنا باعتباره كافياً للوصول إلى عتبات مستقبلنا، أو عبورها. ويمكن القول إننا، حضارياً، نتأرجح بين مشية الغراب ومشية الحمامة، وقصتهما المعروفة، وفي عالم أبرز مظاهره السباق، لا نستطيع أن نقطع أي المسافة اللازمة لنقول إننا تقدمنا. لأن ما يؤرقنا ليس المسافة التي نقطعها، بل مشيتنا نفسها. من المحزن أن تكون أجسادنا في الحاضر وعقولنا في الماضي البعيد".
الجحيم عتبة الجنة
يرى نصر الله كذلك أن "لكل جنة عتبة اسمها الجحيم"، ويضيف: "جنة الكتابة هي الكتابة نفسها حين تبدأ، حين ترى وتعيش عالماً يتفتح لم يكن له هذا الوجود المادي من قبل؛ الوجود في كتاب، رغم أحزان الكتابة وأفراحها، وأنت تعيش أرواح عشرات الشخصيات، كبيرة وصغيرة، وهي تولد وتكبر وتموت، لكن جحيم الكتابة دائماً بالنسبة إلى كان هو السطر الأول، لأنه مفزع ويجعلني أختلق أسباباً لا أساس لها لكي أؤجل لحظة البدء، في السنوات الأخيرة أضيف شيئاً ما، لا أستطيع أن أعتبره جحيماً، بل أعتبره حزناً عميقاً صار ينتابني حين أرسل الرواية للنشر، فأحس أنني أفتقد كل أولئك الذين فيها، وأنني أغادر إلى غير رجعة مكاناً أمضيت سنوات أفكر فيه، وسنوات فيه".
لا يحب إبراهيم نصر الله "أولئك النقاد الذين يبحثون عن ضحايا لهم"
لا يحب إبراهيم نصر الله "أولئك النقاد الذين يبحثون عن ضحايا لهم بتصيد مرعب، ضحايا من الكتاب أو ضحايا من النصوص"، ويواصل حديثه عن وضع النقد العربي اليوم: "هناك مساهمات رائعة لعدد من النقاد في المشهد الأدبي، وهم يقومون، على قلة عددهم، بدور كبير، لكن مع تضاؤل عدد المنابر الورقية واختفاء كثير منها، وتضاؤل المساحة المتاحة، بات النقاد محاصرين بكتابة مقالات قصيرة، لا أظنها تشفي غليل السؤال النقدي وتشعباته. في كثير من الأحيان تلعب أبحاث الترقية في الجامعات دوراً مهماً، وأحياناً رسائل الماجستير والدكتوراة، وليس غريباً أن أجد أحياناً أن عدد الأطروحات عن كتاب ما، في عامين، يفوق عدد المقالات التي كتبت عنه، وهذا مؤشر مهم، بما يعنيه من أن أصحاب هذه الاطروحات سينقلون اهتماماتهم هذه إلى طلبتهم مستقبلاً".
رسومات نصر الله
خاض نصر الله تجربة مختلفة عليه تماماً في معرض "كتاب يرسمون"، حين شارك بلوحاته هذه المرة لا برواياته، مع الفنانين فاروق وادي وجمال ناجي، وعلق على هذه التجربة: "مغامرة في منطقة مختلفة، تجرأنا ودخلنا مساحتها على مستوى العرض، بعد أن كنا نرسم دون أن نفكر في العرض، كنا نعيش اللوحات متحررين من جدران الصالات، ولذا كنا نمارس حرية الرسم لأنفسنا، لا لغيرنا، إذا ما استثنينا الأصدقاء الذين يعرفون أننا نرسم ويشاهدون لوحاتنا".
ويضيف: "المفاجأة أن التجربة نجحت، وبالنسبة إلي شجعتني أكثر على الاستمرار، ولكن عبر التصوير الفوتوغرافي، فأقمت أربعة معارض، أحدها في كوريا، ثم عدت للرسم في زمن الكورونا، وأنجزت عدداً من اللوحات يكفي لإقامة معرض، لكنني لا أفكر في العرض، أكتفي بمعايشة هذه الأعمال، ومن يعرف، ربما أتجرأ ثانية وأقيم معرضاً شخصيًّا".
لنصر الله أحلام أخرى وتجارب أكثر، أبرزها حلمه بأن يكون موسيقياً، بل يبدو ديوانه الشعري المعنون "لو أنني كنت مايسترو" كتعويض عن حلم الموسيقى الغائب، يقول: "إنه كذلك، وهو أيضاً عن كل تلك الأمنيات التي أجهضت على مستويات إنسانية كثيرة، ولكن عن حلم الموسيقى أولاً".
يؤمن إبراهيم بأن الغريب فيه شيء من الجبن، واللاجئ يبقى غريباً، فهل يعني ذلك أن كل لاجئ فيه شيء من الجبن؟
يعلق إبراهيم نصر الله في نهاية الحوار دون أن يؤكد ذلك أو ينفيه: "أظن أن اللاجئ يحتاج زمناً طويلاً قبل أن يكون شجاعاً، إذ يمرّ وقت طويل قبل أن يطمئن إلى أن الأرض التي يقف عليها باتت آمنة، أولاً، ثم يلزمه وقت آخر ليطمئن أن له الحق في الوقوف عليها. هذا ما كتبته في "طفولتي حتى الآن" وفي أعمال أخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...