تنطوي العلاقة بين الرجل والمرأة- حتى وإن كانت تقليدية- على تعقيدٍ ما، يتفاقم هذا التعقيد ويزداد حدةً إذا كان أحد الطرفين، مبدعاً أو فناناً، ويُصبح الوضع جحيمياً- في بعض الحالات- إذا كان الاثنان يُمارسان الأدب والفن؛ فغالباً ما تُسحق المرأة المبدعة، وتتوارى خلف الرجل -حتى لو كانت أعلى منه موهبة-، حين تجد نفسها في مواجهة عنف الذات الذكورية بالإضافة إلى نرجسية الفنان، ويزخر التاريخ الأدبي العربي والعالمي بمثل هذه الثنائيات، التي كان الدمار الحياتي والأدبي فيها من نصيب المرأة المبدعة.
نأى أديب نوبل نجيب محفوظ بنفسه عن كل هذه الصراعات، والمناطق الموترة والملتهبة، فحين أقدم على الزواج بعد فترة طويلة من العزوف عنه، اختار أن يتزوج زواجاً عملياً من سيدة تقليدية هي "عطية الله"، بعد أن رأى فيها مواصفات الزوجة المناسبة التي ستُخدم على مشروعه الإبداعي، بنفسٍ راضية، دون أن "تُنغص عليه حياته"، ودون أن تستنزف طاقته في مشاكل أسرية أو مناسبات اجتماعية، كان محفوظ شديد النفور منها. لكن كيف كانت حياة نجيب محفوظ قبل الزواج؟ بالأحرى كيف كانت علاقته بالمرأة؟
بجرأة غير معهودة عن محفوظ الذي عُرف بتحفظه الشديد، أجاب أديب نوبل عن هذا السؤال للكاتب والناقد رجاء النقاش، الذي وثق حديث محفوظ الحميمي إليه في فصل في كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، تحت عنوان "نساء في حياتي".
نظرة جنسية بحتة للمرأة
قال محفوظ نصاً: "في الفترة التي سبقت زواجي عشت حياة عربدة كاملة، كنتُ من رواد دور البغاء الرسمي والسرّي، ومن رواد الصالات والكابريهات، ومن يراني في ذلك الوقت لا يمكن أن يتصور أبداً أن شخصاً يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، وتستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي، يمكن أن يعرف الحب أو الزواج، كانت نظرتي للمرأة في ذلك الحين جنسية بحته، ليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر. ثم تطورت هذه النظرة وأخذت في الاعتدال بعدما فكرت في الزواج والاستقرار".
نجيب محفوظ وابنتاه فاطمة وأم كلثوم
قصص الحب كانت شحيحة في حياة محفوظ، فهو لم يعش سوى قصة حب حقيقية واحدة طوال حياته، حين كان على أعتاب مرحلة المراهقة، قبلها كانت علاقته بالبنات "لا تزيد على مداعبات تتجاوز الحد أحياناً"، وكانت هذه التجاوزات تصطدم بالإحساس الديني لديه، حتى أنه كان يتوجه بالتوبة إلى الله يومياً، ويعيش في عذاب مستمر من تأنيب الضمير، حتى رأى حبّ حياته، وهي تطل من شرفة بيتها بالعباسية، ومحفوظ ابن الثالثة عشرة من عمره، يلعب مع رفاقه كرة القدم.
تخلص المراهق الصغير من عذاب الضمير، ليُمزقه عذابُ الحب من طرف واحد، فالفتاة ذات الوجه الساحر الذي يشبه لوحة "الجيوكندا"، كانت في العشرين من عمرها، ولهذا كان ارتباطه بها مستحيلاً. يُسمي محفوظ حبه لهذه الفتاة بـ الحب الصامت"، فلم يجرؤ يوماً على محادثتها أو لفت انتباهها، مكتفياً منها بمجرد النظر، وكانت متعته الكبرى أن يجلس بعد انتهاء مباراة الكرة قبيل المغرب، موجهاً نظره صوب شرفة محبوبته، متأملاً وجهها الجميل.
نجيب محفوظ: "في الفترة التي سبقت زواجي عشت حياة عربدة كاملة، كنتُ من رواد دور البغاء الرسمي والسرّي... شخص تستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي... كانت نظرتي للمرأة في ذلك الحين جنسية بحته"
استمر هذا الحب الصامت لمدة عام كامل، إلى أن تزوجت الفتاة وودعت العباسية، منتقلة إلى بيت زوجها، وكان حزن محفوظ شديداً، ومضت الأيام، ليخفت هذا الحبُّ وتنطفئ نيرانه مع انشغاله بالجامعة والوظيفة، لكنه اشتعل مرة أخرى، حين قابل شقيقة الفتاة بالصدفة في مصيف رأس البر، وظل هكذا كالنار الهادئة في قلب محفوظ للأبد.
رؤية محفوظ للمرأة مرت بمنعطفات كثيرة
يبدو أن رؤية محفوظ للمرأة، قد مرت بمنعطفات كثيرة، تماماً كرؤيته للحياة، فقبل أن يُصبح أديباً مشهوراً، كان لأديب نوبل رأياً معادياً للمرأة، منبثقاً من كونه، كما صرح في حواره مع رجاء النقاش، "كان حيواناً جنسياً"، ففي التاسعة عشرة من عمره، كتب محفوظ مقالة في مجلة "السياسة" الأسبوعية (العدد 240 بتاريخ 10/ 11/ 1930) تحت عنوان "المرأة والعمل في الوظائف الحكومية"، يطالب فيها بتعليم الفتاة المصرية، وفي الوقت نفسه ينتقد بشدة عملها في الوظائف الحكومية، لأن ذلك من وجهة نظره، يتسبب في زيادة البطالة بين الشباب في مصر في ذلك العهد، كما يؤدي إلى انحلال الأخلاقيات في الدواوين الحكومية، بالإضافة إلى تفكك الأسرة وانهيار الأخلاق.
ثمة سؤال يطرح نفسه هنا: هل هذا الرأي لمحفوظ "الشاب"، يمنحنا الحقَّ في أن نزجّ به في خانة الرجعيين الذين ينظرون إلى المرأة كجسدٍ مغوٍ، مهدّد لقيم الأسرة؟ أم إنه من الأفضل أن نراعي السياق التاريخي والاجتماعي الذي كتب فيه محفوظ هذا الرأي، بل أن نراعي المرحلة العمرية لمحفوظ نفسه، وما تتسم به من نزق وتقلبات فكرية؟ ربما يجدر بنا أن نعتبر هذا الرأي رأياً متعصباً من شابٍ لم ينضج بعد، ثم نضعه جانباً، كشيء غير نافع، لندخل إلى عالم محفوظ الروائي، حيث المرأة بحضورها الهائل، في قلب هذا العالم المشتعل بالحياة، بل هي في أعمال كثيرة، المركز، التي تدور حولها أحداث العمل الروائي، وهي أيضاً مرآة عاكسة لما تموج به مصر من تحولات سياسية شكلت بدورها تحولات اجتماعية، وخلقت كذلك صراعات طبقية هائلة.
وقبل أن نرصد حضور ووضعية المرأة في الأدب المحفوظي، علينا أن نرى كيف كان حضور المرأة في أدب ما قبل محفوظ الأب المؤسس للرواية العربية الحديثة.
في التاسعة عشرة من عمره، كتب محفوظ مقالة في مجلة "السياسة" الأسبوعية انتقد فيها بشدة عمل الفتاة المصرية في الوظائف الحكومية، لأن ذلك يؤدي إلى انحلال الأخلاقيات في الدواوين الحكومية، بالإضافة إلى تفكك الأسرة وانهيار الأخلاق
في كتابها "المرأة في أدب نجيب محفوظ"، تقول الدكتورة فوزية العشماوي إن المرأة قبل نجيب محفوظ كانت مصورة في كلّ الإنتاج الأدبي العربي على أنها رمز للجنس، أو على أنها مخلوق جميل يُثير العواطف سواءً النبيلة أو الخبيثة، أي أن المرأة كانت دائماً في الإنتاج الأدبي العربي مفعولاً به وليس فاعلاً.
وتضيف فوزية العشماوي أن الروائيين العرب الأوائل، حرصوا على تفادي تقديم وتصوير المرأة المسلمة في رواياتهم حتى لا تتعارض مع التقاليد الإسلامية ولا مع الأخلاقيات الاجتماعية السائدة، ومن ثم كانوا يختارون دائماً كبطلة لرواياتهم امرأة من الأقليات المتواجدة في المجتمع المصري من بين اليهوديات أو الأرمنيات أو اليونانيات والإيطاليات، وكان أول روائي عربي قد خرق هذه القاعدة هو الدكتور محمد حسين هيكل الذي قدم في روايته الأولى "زينب" امرأتين مسلمتين؛ الأولى هي "زينب" وهي امرأة ريفية بسيطة، والثانية "عزيزة" وتنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية.
وفي كتابها السابق ذكره، والذي كان مشروعها للحصول على الدكتوراه، تناولت الباحثة مظاهرَ تطور المرأة والمجتمع المصري من خلال الإنتاج الأدبي لنجيب محفوظ، وتحديداً رواياته التي أصدرها في الفترة من 1945 إلى 1967، كما قامت بتحليل ثلاث شخصيات نسائية، هن بطلات ثلاث من رواياته: "نفيسة" بطلة "بداية ونهاية" (1949)، و "نور" بطلة "اللص والكلاب" (1961)، و"زهرة" بطلة "ميرامار" (1967).
مظاهرَ تطور المرأة والمجتمع المصري من خلال الإنتاج الأدبي لنجيب محفوظ
أطلق نجيب محفوظ المرأة من أسر البراويز المنمقة التي كانت تظهر فيها كشيء يُستخدم تارة من أجل الجنس، وأخرى من أجل الحبّ. فهكذا كانت المرأة في الروايات العربية مجرد شيء ربما تجميلي في أفضل الأحوال. وبعد أن انتزعها من هذه المنطقة الباهتة والبائسة، ألقى بها في مرمى الصراعات، في أتون الحياة المصرية، المشتعلة أبداً، ففي روايته "القاهرة الجديدة " (1945)، وهي أول رواياته الاجتماعية الواقعية، كانت البطلة "إحسان شحاته" التي عاشت صراعات وتمزقات رهيبة بين التمسك بحبها الفقير، والسقوط من أجل الرفاهية والثراء والصعود الطبقي، بمثابة مرآة عاكسة لمصر الثلاثينات الممزقة، كما تقول الباحثة: "بين استغلال الطبقة الأرستقراطية الفاسدة، وبين شبابها الضائع المنتشر في الطبقة المتوسطة، مغلوبة على أمرها، ومضطرة للخضوع للذين يستبيحون عرضها ويبيعونها بمعاهدة أو (بعقد مع الشيطان) مماثل للعقد المبرم بين الثالوث الروائي: قاسم بك/ إحسان شحاته/ محجوب عبد الدايم".
وبجوار "إحسان شحاته" تقف "حميدة" في "زقاق المدق" التي يعتبرها "محفوظ" من أهم رواياته، شاردة وهي تتأمل حياة الفقر والبؤس في هذا الزقاق اللعين، طامحة في الخروج إلى الحياة المرفهة، فتقع بين براثن أحد القوادين، الذي يبيعها لأحد الجنود الإنجليز، وترى "فوزية العشماوي" أن انحراف حميدة وسقطتها الأخلاقية وخرقها للعرف السائد، إنما يرمز إلى الأزمة السياسية والاقتصادية التي كانت تُمزق مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين، وتنضم إلى "إحسان"، و"حميدة"، "نفيسة" في "بداية ونهاية"، فالبطلات الثلاث يُجسدن نفس الأزمة التي عاشت فيها مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين، ويتبعن مخططاً مشابهاً للسقوط الأخلاقي، نتيجة للظروف المذلة التي عانت منها مصر في الفترة المشار إليها سابقاً (بين الحربين).
وتقول الباحثة إن نجيب محفوظ قد اهتم بهذه الشخصيات النسائية لنقد الهيكل التنظيمي للمجتمع في ذلك العهد، وكذلك الفوارق الطبقية الرهيبة، مشيرة إلى أن ذلك لم يمنعه من الاهتمام بالعلاقات الأسرية السوية وبالشخصيات المصرية النموذجية، وبالعلاقة التقليدية بين الرجل والمرأة وبين الزوجين في المجتمع المصري الممزق بين التقاليد والمدنية الحديثة وذلك ما يتجلى في "الثلاثية": "بين القصرين"، "قصر الشوق"، و"السكرية".
وفي مرحلة أخرى في أدب محفوظ وتحديداً عندما اتجه إلى تيار الرمزية" كانت النساء في رواياته بمثابة معالم في طريق البطل/الرجل، كل امرأة توجهه إلى طريق ما، في رحلة بحثه عن ذاته، وذلك ما تجسد في روايات: "اللص والكلاب"، "السمان والخريف"، "الشحاذ"، و"الطريق".
أما "المومس" التي تُعد شخصية أساسية في معظم أعمال محفوظ الروائية، فكانت مهمتها تكمن في كشف خفايا البطل، وإظهار المناطق المعتمة في نفسه، وكذلك تعقيداته النفسية. وفي "ثرثرة فوق النيل" يُقدم محفوظ نماذج نسائية مغايرة، يُجسدن التطور المجتمعي في حقبة الستينيات، فهن نساء متحررات متعلمات، هاربات من القمع والضغوط السياسية التي كان يعيش معظم أهل الفكر والأدب، يأتين إلى عوامة أحد الأصدقاء، ليقضين السهرة مع أصدقائهم من الرجال حتى مطلع الفجر، في شرب الخمر والحشيش، فيما تدور بينهم نقاشات فلسفية ساخنة حول الحياة والموت والسياسة.
ومن بين الشخصيات النسائية المتعددة في رواياته، قال محفوظ للدكتورة فوزية العشماوي رداً على سؤالها: "هل هناك شخصية نسائية في إنتاجك الأدبي تصور المرأة كما ترونها؟ أنه يُحب شخصية زهرة (بطلة رواية "ميرامار")، "هذه المرأة الفلاحة التي اعتمدت على نفسها وسلكت طريقها في المجتمع، وهي متسلحة بالعلم وبالثقة بالنفس، وبالشجاعة والمثابرة، والصلابة وقوة الشخصية". وبالطبع هذه الإجابة "محفوظية" بامتياز، نابعة من الجانب "المحافظ" و"الكلاسيكي" في شخصية نجيب محفوظ، وليست من محفوظ الذي كما قال هو "عشت حياة عربدة كاملة. وكنتُ حيواناً جنسياً". وربما نابعة من الاثنين، فهذا الرجل والأديب الاستثنائي من الصعوبة وضعُ رؤيته للمرأة كرجل ضمن الثنائية النسوية "رجعي متخلف، وتقدمي مستنير"، فإن حدث ذلك، سيكون اختصاراً مخلاً لهذه الروح الكبيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون