عاد مساءً إلى البيت بوجه مستاء من لهيب الأسعار الذي شغل باله، وبينما جلس ماسكاً الهاتف يتصفح عبر النت ويتنقّل من منصة إلى أخرى بين تقارير حول أزمات عالمية وأنباء عن تدهور اقتصادات عربية، إذا به يُفاجأ بالخبر المتداول على نطاق واسع: "انهيار الدرهم المغربي مقابل الدولار واليورو".
هذا ما جرى يوم الأربعاء 18 كانون الثاني/ يناير في المغرب، إذ فوجئ المواطنون بأرقام سعر صرف عملتهم على موقع "غوغل"، وهي تُظهر تراجعاً كبيراً أمام الدولار الأمريكي الذي أصبح يساوي نحو 17 درهماً، واليورو الذي عادل 18.53 درهماً، ما أسفر عن حالة هلع عبّرت عن تخوفات من تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد إثر هذا التراجع الذي تأكد في ما بعد أنه مجرد "خطأ تقني"، في خوادم محرّك البحث الأمريكي.
كتب عدنان لحظتها: "انهيار غير مفهوم للدرهم. انتقل الدولار الأمريكي بين الأمس واليوم من 10 إلى 17 درهماً مغربياً"، متسائلاً: "ماذا يحدث؟ وما سبب هذا السقوط المهول؟".
"انهيار غير مفهوم للدرهم. انتقل الدولار الأمريكي من 10 إلى 17 درهماً مغربياً". بعد خطأ تقني في غوغل عادت المخاوف من انهيار سعر الدرهم أمام الدولار في حال استمر تحرير صرف العملة المغربية
فيما دوّن محمد قائلاً: "يجري تداول مجموعة من صور (لغوغل) توحي بانهيار الدرهم أمام الدولار واليورو"، مشيراً إلى أنه "غالباً هذه الصور خطأ ولا علاقة لها بالواقع"، فيما كتب آخر: "سعر الدرهم يتهاوى أمام الدولار الأمريكي في سابقة من نوعها، ننتظر هل فعلاً هو انهيار أم فقط مجرد خطأ من غوغل"، لينهي بنك المغرب (البنك المركزي)، الترقّب والمخاوف على مواقع التواصل الاجتماعي، مُطَمئِناً المواطنين بنفي صحة الأخبار المتداولة حول تسجيل انخفاض لقيمة الدرهم المغربي إلى مستويات غير مسبوقة، مؤكداً أن سعر الصرف المرجعي لذلك اليوم بلغ نحو 11 درهماً أمام اليورو.
في المقابل، استبعد آخرون أن تكون هذه القفزة الحادة لا تعدو عن أن تكون مجرد خطأ تقني، قائلين إنها تكشف عمّا قد يؤول إليه الدرهم في حال التحرير التام لسعر صرفه أمام اليورو والدولار، وهي السياسة التي تريد الحكومة المغربية الاتجاه نحوها في المقبل من الأعوام، خلافاً لسياستها القائمة اليوم على التحكم في سعر صرفه.
"التعويم"... النقاش المرعب
أعاد هذا الخطأ التقني النقاش المغربي حول خطوة التحرير الكامل لسعر صرف العملة الوطنية إلى الواجهة، وهو ما يُسمى أيضاً "التعويم" حيث يتم إفراز السعر تلقائياً في سوق العملات ليُترَك تحديد سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية لقوى السوق من خلال آلية العرض والطلب، من دون أي تدخل من قبل البنك المركزي.
تتقلب على إثر ذلك أسعار الصرف باستمرار مع كل تغير في العرض والطلب على العملات الأجنبية، حتى أنها قد تشهد تغيرات متباينة عدة في اليوم الواحد، عكس ما يعيشه المغرب اليوم، إذ عادةً ما يحوم الدولار الأمريكي حول عشرة دراهم مغربية، بفعل خطة التحرير الموجه (الجزئيّ) لسعر صرف العملة التي يتدخل على إثرها البنك المركزي عند الحاجة من أجل توجيه أسعار الصرف.
قد أتمّ الدرهم المغربي خمس سنوات من بداية خطة تحرير سعر صرفه، منذ كانون الثاني/ يناير 2018، إذ سُمح له بالتحرك ضمن هامش 2.5 في المئة صعوداً أو هبوطاً، أمام سلّة من عُملتَي اليورو (60 في المئة) والدولار الأمريكي (40 في المئة)، كمرحلة أولى للتعويم الكامل على مدى 10 سنوات، قبل المرور إلى المرحلة الثانية في آذار/ مارس 2020، بتوسيع هامش التحرك إلى 5 في المئة صعوداً وهبوطاً.
يُعارض أستاذ الاقتصاد في جامعة محمد الخامس في الرباط عمر الكتاني، مسار تحرير سعر صرف الدرهم المغربي نهائياً، ويلفت في حديث مع رصيف22، إلى أن تعويم العملة من شأنه إلغاء تدخّل الدولة في المحافظة على قيمة عملة البلاد، وتالياً نزع الحماية عنها ورهنها لقوى السوق التي تؤدي إلى انخفاض قيمتها، مشدداً على أن الهدف من هذا المسار هو "إضعاف الاقتصادات النامية التي بدأت تؤسس قوتها".
تعويم العملة من شأنه إلغاء تدخّل الدولة في المحافظة على قيمة عملة البلاد، وتالياً نزع الحماية عنها ورهنها لقوى السوق
يشير الخبير الاقتصادي إلى تعرّض مُحافِظ البنك المركزي المغربي لـ"ضغوط كبيرة" من قِبل صندوق النقد الدولي لدفعه إلى "تعويم" العملة، لكن المحافظ عبد اللطيف الجواهري، "كان متحفظاً إزاء هذه الخطوة قبل اللجوء في ظلّ الضغوط إلى إقرار تحرير تدريجي لسعر الصرف بهدف تأقلم الاقتصاد المغربي وتفادي الصدمة التي شهدتها مصر".
وكان سعر صرف الجنيه المصري قد تراجع من 8.88 مقابل الدولار الأمريكي، إلى قرابة 20 جنيهاً في المتوسط خلال الأسابيع الأولى للتعويم الكامل الذي نُفِّذ في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، واليوم إلى نحو 36 جنيهاً.
يخشى الكتاني، من اتجاه الضغوط نحو تحرير سعر صرف الدرهم المغربي، مشيراً إلى أن ذلك يُعَدُّ إيذاناً بـ"استعباد المغرب"، لأن "التعويم قد يؤدي إلى انهيار العملة، وتالياً بيع رأس مالها، ثم فقدان الاستثمارات في الخارج لأن قيمة الدرهم ستتراجع ، ولن يعود بمقدوره شراء أصول أجنبية بقيمة معدنية"، ونتيجةً لذلك، يضيف المتحدث ذاته: "يفقد المغرب سيادته الاقتصادية كما فقدتها دول إفريقية عدة ليصبح مأموراً".
"انتحار اقتصادي"
يوافق عدد من الخبراء الاقتصاديين على هذا السيناريو "الكارثي". ويرى الخبير الاقتصادي محمد الشرقي، في حديث إلى رصيف22، أن تعويم الدرهم المغربي يُعدّ "انتحاراً اقتصادياً" لأنه يصحب معه "صعوبات اجتماعيةً كبيرةً جداً"، عادّاً تحرير سعر الصرف الكامل "مغامرةً لا يُنصح الدخول فيها بسبب أن العالم يعيش اليوم حالة عدم يقين"، مشيراً إلى أن الحذر أسلم من مثل هذه المغامرات الاقتصادية.
يتوقع الشرقي مواجهة العالم لمخاطر اجتماعية واقتصادية كبيرة في عام 2023، مشيراً إلى أنه ليس من مصلحة الاقتصاديات، خاصةً الإفريقية منها، الدخول في مغامرة صندوق النقد الدولي وتحرير سعر صرف عملاتها قبل أن تصبح الظروف أفضل ويستعيد العالم نشاطه من جديد.
يتفادى المغرب نهائياً خوض مغامرة تحرير سعر الصرف الكامل، وفي حال كان على الرباط الوصول إلى تلك المرحلة فسيستغرق ذلك وقتاً طويلاً قد يصل إلى 20 أو 25 سنةً
ويشدد الخبير في الشؤون الاقتصادية على أن المغرب "يتفادى نهائياً خوض مغامرة تحرير سعر الصرف الكامل"، مشيراً إلى أنه في حال كان على الرباط الوصول إلى تلك المرحلة "فسيستغرق ذلك وقتاً طويلاً قد يصل إلى 20 أو 25 سنةً"، بفضل خطة التحرير الجزئي التي تعطي للاقتصاد الوطني مدةً للتأقلم مع تقلبات سعر الصرف.
يعدّ المتحدث الحالة المغربية مختلفةً عن الوضع الاقتصادي في مصر ودول أخرى مجبرة على خيار التعويم خلال المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، عكس المغرب "الذي يتمتع بالإرادة في قراراته"، والتي قد تعززها الزيارة الأخيرة لخبراء مجموعة العمل المالي الدولية (فاتف)، في حال أسفرت عن إزالة الرباط من اللائحة الرمادية، التي دخل إليها في شباط/ فبراير 2021، نتيجة نواقص في القوانين المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، ما سيخوّل للمغرب دعم فرص تمكينه من "خط وقاية وسيولة" جديد من صندوق النقد الدولي من دون أي شرط، فضلاً عن دعم أوسع من الشركاء الدوليين في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية فيه وعلى مستوى العالم.
العملة القوية... سياسة مُضِرّة بالمغرب
من جهته، يعدّ الخبير الاقتصادي فؤاد عبد المومني، "سياسةَ العملة القوية" التي ينهجها المغرب حالياً، والتي من بينها عدم تحرير الدرهم، "سياسةً مُضِرّةً بالاقتصاد المغربي"، وذلك يظهر جلياً حسب المتحدث في "فقدان الصناعة المغربية لأجزاء أساسية منها، خصوصاً على مستوى تقلص نسبة العاملين في القطاع الصناعي الإنتاجي المحلي مقارنةً مع القطاعات التجارية الاستيرادية".
يوضح عبد المومني، في حديث إلى رصيف22، أن تدبير موضوع قيمة العملة المغربية مقابل العملات الأجنبية يرتبط بشكل أساسي بإرادة تغليب مصالح المستوردين أو مصالح المنتجين، "فكلما انخفضت قيمة العملة الوطنية تمكّن المُصدّر من الحصول على التنافسيّة، وتالياً بناء إمكانيات إنتاجية وتصديرية أكبر، في حين أن المستورد يكون أمام انغلاق نسبي لسوقه لأن القيمة التي يستورد بها تصبح عاليةً، وآنذاك لا يمكنه أن يتنافس مع الخيارات البديلة الموجودة محلياً".
من أجل إعادة التوازن إلى الموازين التجارية التي تعرف عجزاً في البلاد أو التخفيف من حجم هذا العجز، تلجأ الدول إلى قرار تخفيض قيمة عملاتها الوطنية بشكل أساسي، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وتالياً الحد من شراء السلع القادمة من الخارج وتشجيع الإقبال على المنتجات الوطنية.
في هذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي أن "تخفيض قيمة الدرهم المغربي مقابل العملات الأجنبية سيضرّ أساساً بالمستوردين والمستهلكين للمواد المستورَدة التي هي في جزء مهم منها مواد كمالية"، مشيراً إلى أنه لا بد من تبعات لقرار التخفيض "خصوصاً في الأمد القصير لأن التكيّف مع القيمة الجديدة للعملة يقتضي زمناً حتى يكون له أثر على تقوية النسيج الصناعي المنتِج".
مواجهة التبعات
يقع على عاتق الدولة في هذه المرحلة، حسب المتحدث ذاته، تحمّل التبعات الاجتماعية التي "تقتضي دعماً أساسياً للطبقات الوسطى والمتدنية الدخل، وتحصيل الموارد الضرورية من الثروات الكبرى لمواجهة العبء"، مشيراً إلى أن هذه الإستراتيجية تقتضي الالتزام بعنصرين أساسيّين، أولهما توسيع السوق المغربي "الذي يُعدّ حالياً -بعدد مستهلكيه ومستوى دخلهم- أضعف من أن يتمكن من مواجهة هزة من قبيل تخفيض كبير لقيمة العملة، وما يتطلبه من تقوية سريعة وعامة للنسيج الصناعي الإنتاجي".
أما بالنسبة للعنصر الثاني، يضيف عبد المومني: "لا يمكن للدولة تحمّل التبعات الاقتصادية والاجتماعية للتخفيض المهم لقيمة الدرهم، إلا إذا تخلت عن بذخها والإفراط في استهلاك الموارد الأساسية"، مشيراً إلى "حدوث استنزاف لخيرات البلاد"، من قبل الجيش المغربي.
عبد المومني: "لا يمكن للدولة تحمّل التبعات الاقتصادية والاجتماعية للتخفيض المهم لقيمة الدرهم، إلا إذا تخلت عن بذخها والإفراط في استهلاك الموارد الأساسية"
يلفت الرئيس السابق لفرع المغرب لمنظمة "ترانسبرانسي" (الشفافية الدولية)، إلى أن ميزان الأداء المغربي يعرف عجزاً بمتوسط 50 مليار درهم سنوياً منذ 2008 (نحو 5 مليارات دولار)، ما يعني أن "كل ما يورَّد إلى الخارج ينقص بخمسين ملياراً عمّا يتم تلقّيه عبر التحويلات والخدمات من قبيل السياحة"، مبيناً أن الرقم "ينذر بفقدان المغرب جزءاً من استقلاليته إما عن طريق الديون أو ببيع الرساميل المغربية"، ليصبح في النهاية تابعاً بشكل تام للخارج ومهدَّداً بتقلباته.
يشدد عبد المومني على أن هذا العجز في الأداء المغربي "يتطلب إرادةً للنهوض بالاقتصاد والمجتمع، عبر تغييرات هيكلية في توجهاته الأساسية بدل استمرار البلاد في المنوال الذي نحن عليه حتى نجد أنفسنا في ورطة لا مخرج منها".
بدوره يقترح الخبير الاقتصادي محمد الشرقي، إصلاحات عدة من قبيل "تعزيز الاحتياط النقدي"، بالإضافة إلى "الرفع من الاستثمارات والصادرات، عن طريق جلب استثمارات أجنبية مباشرة ومنتجة، ونقلها من 3/ 3.5 في المئة إلى 7 في المئة من الناتج الإجمالي، ما يمنح المملكة فائض قيمة يمكّنها من التصدير"، إذ كلما زاد التصدير ارتفع الدخل بالعملة الصعبة حسب المتحدث ذاته، "ما سيدعم توسيع الاقتصاد والاحتياط النقدي الوطني".
ويحثّ الشرقي، على "المزيد من الشفافية المالية والإداريّة والضريبية والاقتصادية، إلى جانب المراقبة بهدف القضاء على الفساد المالي الضارّ بالاقتصاد المغربي"، بالإضافة إلى "ضرورة عودة عدد من الاتفاقيات مع أسواق الاتحاد الأوروبي وتركيا، ودول أخرى وتجديدها بما يضمن المصالح الاقتصادية للبلاد"، مع التوقف عن استيراد كل ما ليس ضرورياً ولا يهم 99 في المئة من المواطنين.
موازاةً مع تدريب الأطر وتوجيه الشباب في مجال الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية، الهيدروجين الأخضر...)، يشدد المتحدث ذاته على ضرورة "تعزيز التصنيع المحلي في هذا المجال الذي يجب أن يكون فيه المغرب من أصحاب السبق خاصةً مع ما يَعِد به من آفاق ومستقبل وريادة".
يُذكر أن وفداً من صندوق النقد الدولي كان قد أعلن في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن الظروف الدولية الحالية لا تساعد على تسريع "تعويم" الدرهم المغربي، لأن الانتقال إلى مرحلة أعلى في مسلسل التحرير التدريجي للعملة يقتضي الانتظار إلى حين زوال حالة عدم اليقين السائدة على الصعيد الدولي، وفق ما جاء على لسان رئيس الوفد روبيرتو كارداريلي، خلال مؤتمر صحافي في العاصمة المغربية الرباط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...