"لا نعرف لماذا تُعذبنا الحكومات العراقية، لم نحصل على أي شيء من هذا البلد غير رواتبنا التقاعدية التي جاءت بتعبنا وليس بمنّة من أحد"، تقول متقاعدة عراقية.
تتحدث هذه المتقاعدة بغضب خلال مكالمة مع رصيف22، وتقول: "راتبي التقاعدي الذي لم يتجاوز الـ500 ألف دينار عراقي عن خدمة تجاوزت الثلاثين عاماً، لن يسد حاجتي لأسبوعين".
تأخذ هذه المتقاعدة العراقية التي لم تُرد ذكر اسمها ولا اسماً مستعاراً، وتتحدث بعصبية كبيرة، دواءاً لأمراض مزمنة يتجاوز ثمنه الـ130 دولاراً أمريكياً، وبحسب سعر الصرف الجديد، فإن تكلفته ستكون نحو ثلث راتبها التقاعدي.
ليست هذه المتقاعدة وحدها من تشكو تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية، فهناك الملايين من العراقيين الذين سيجدون أنفسهم أمام مأزق خفض قيمة الدينار الذي قررته حكومة مصطفى الكاظمي.
"مصيبة" الدينار
وصل الكاظمي إلى رئاسة الحكومة في أيار/ مايو الماضي، وبعد ستة أشهر اتخذ قراراً بخفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، في محاولة منه لسد رواتب أربعة ملايين موظف حكومي، وتغطية نفقات أخرى أبرزها الرعاية الاجتماعية والمتقاعدين، والتي تتراوح جميعها بين 6 و7 مليارات دولار شهرياً.
ولا يوفر النفط الذي يعتمد عليه العراق بنسبة 95% في موازنته المالية العامة هذه الرواتب، فعمليات بيعه لم تُحقق أكثر من 3.5 مليار دولار شهرياً منذ بدء جائحة كورونا والتزامه بخفض الإنتاج، وفقاً لاتفاق "أوبك+".
كان الدولار الأمريكي يُساوي نحو 1195 ديناراً عراقياً، لكن ومع خفض قيمة العملة العراقية أصبح لكل دولار 1450 ديناراً بشكل رسمي، يعني أن كل 100 دولار صارت تُساوي 145 ألف دينار عراقي.
جاء هذا القرار من وزارة المالية في وقت يُعاني العراق من عدم قدرته على دفع رواتب الموظفين بموازاة تراجع أسعار النفط، فلم تجد الحكومة سبيلاً إلا أن تسلك ذلك الذي يُخفض قيمة الدينار.
وجد العراقيون أنفسهم أمام "مصيبة" جديدة أدت مباشرة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والملابس، فخُلِقت حالة من "القلق" في الأسواق، بينما يُراقب الموظفون قرارات الحكومة بقلق وما إذا ما كانت ستقترب من رواتبهم أم لا.
"راتبي التقاعدي الذي لم يتجاوز الـ500 ألف دينار عراقي عن خدمة تجاوزت الثلاثين عاماً، لن يسد حاجتي لأسبوعين"... ملايين من العراقيين يجدون أنفسهم أمام مأزق خفض قيمة الدينار الذي قررته الحكومة، فما الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحال؟
يقول وزير التخطيط العراقي خالد بتال في تصريحات صحافية إن "الاقتصاد العراقي يمر بأصعب أزمة في تاريخه، وهي أزمة مركبة، ناتجة عن أحادية وريعية اقتصاده"، بينما يقول وزير المالية علي علاوي: "أجرينا تغييراً بصرف سعر الدولار لحماية الاقتصاد. فارق الإيرادات بتغيير سعر الصرف سيخصص لدعم الفئات الهشة بالمجتمع".
لا يعرف العراقيون إن كانت تلك الخطوات "صائبة"، غير أنها ستؤثر على حياتهم بشكل كبير، ويعرف الموظف الذي وعدته الحكومة بأنها لن تقترب من راتبه، بأن نحو 30% من قيمة الأخير ضاعت بعد خفض قيمة الدينار.
تقول الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم لرصيف22 إن "الحكومة العراقية تتوقع بأنها ستنجح في توفير الرواتب والسيولة من خلال خفض قيمة الدينار العراقي، لكنها في الحقيقة قامت بضربة تضخيمية للأسواق، أدت إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الحقيقية لمداخيل المواطنين".
وتضيف سميسم: "هذا الإجراء سيزيد من نسبة الفقر، وقد تتجاوز الـ50%، فعندما تخفض سعر الصرف لبلدان لديها صناعة وصادرات، ستحقق مكاسب، لكن في بلد مثل العراق فإن الاقتصاد يُقتل بهذه الخطوة".
يستورد العراق سنوياً من إيران بنحو 9 مليار دولار، ومن تركيا بنحو 12 مليار، وهو "رئة" اقتصادية للبلدين، كما يستورد أيضاً من السعودية والأردن وبلدان أخرى، ويتعامل بالدولار الأمريكي في عمليات الاستيراد، ما يعني أن أسعار البضائع المستوردة سترتفع بنسبة 30% تقريباً.
أزمة الموظفين والمتقاعدين
بحسب معلومات حكومية عراقية، فإن عدد الموظفين الحكوميين تجاوز الأربعة ملايين موظف، بينما بلغ عدد المتقاعدين 2.3 مليوناً، أما العاطلين عن العمل فعددهم بين 3 و4 ملايين، وفي ذات الوقت وصلت نسبة الفقر إلى 34% من أصل 40 مليون نسمة.
سعت الحكومة من خلال هذا الإجراء إلى توفير رواتب الموظفين الحكوميين، حيث تدفع لهم بالدينار، لكن ذلك أثّر أيضاً على بقية العراقيين من غير الموظفين. ضجّ العراقيون على هذا القرار وتظاهروا في ساحة التحرير في بغداد وكذلك في محافظة البصرة، يوم الاثنين في 21 كانون الأول/ ديسمبر، ويحضرون لتظاهرات كبيرة ضد هذا القرار.
ورغم أن وزير المالية تحدث عن حصول الحكومة على موافقة الأحزاب والكتل السياسية بشأن هذا الإجراء، إلا أن معارضة شديدة ظهرت للكاظمي بعد إعلان خفض قيمة الدينار، أبرزها من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي وافق على اختياره لرئاسة الحكومة، وصديقه وحليفه رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي.
ووصف العبادي هذا الإجراء بـ"الحرب على الفقراء وذوي الدخل المحدود"، كما قال الصدر: "لا يكفي تعويم العملة فقد يكون ذلك سلاح ذا حدين، حيث يخرج العراق من أزمة ليقع بأشد منها والمتضرر الوحيد هو الشعب بأقواته ولقمته".
صالح الحمداني، وهو مُدوّن وموظف حكومي، يقول لرصيف22 إن "خفض قيمة الدينار العراقي أدى إلى خفض راتبي، ورواتبنا أساساً لا تكفي لنهاية الشهر ونحن بحاجة إلى مورد آخر لإكمال الثلاثين يوماً".
ويضيف: "قيمة الدينار انخفضت والأسعار ارتفعت. هذا الإجراء أثّر على كل شيء موجود في حياتنا، وسنواجه مشكلة كبيرة، ورواتبنا بالأساس قليلة. بعد شهر ستتضح نتائج هذا الإجراء، وسيشكل نقمة كبيرة لدى الناس".
"الأزمة ما كانت لتكون لولا عمليات تهريب الدولار، وقيام المصارف التابعة لأحزاب وجماعات مسلحة بسحب الدولار بشكل كبير"... أمام قرار خفض قيمة صرف الدينار سيجد العراقيون أنفسهم أمام أزمة حقيقية، وهو ما يُنبئ باحتجاجات جديدة ستواجهها حكومة الكاظمي في المدى القريب
في عام 2015، انخفضت قيمة الدينار وارتفع سعر بيع الدولار من 1166 إلى 1182 ديناراً مقابل 1166، واليوم يسير الأمر على ذات الخطوة، رغم أن الحكومة لديها صلاحية اقتراض نحو 10 مليارات دولار لتوفير رواتب الموظفين حتى نهاية الشهر الحالي.
وقبل الإعلان الرسمي عن خفض قيمة الدينار العراقي، شهدت الأسواق العراقية ارتفاعاً في الأسعار، وامتنعت بعض مكاتب الصيرفة عن بيع وشراء الدولار، وكان ذلك بسبب تسريب فقرة من مسودة مشروع موازنة 2021 أشارت إلى خفض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار.
ويُعلّل وزير المالية خفض قيمة الدينار بأن "سعر الصرف السابق أضر بالاقتصاد العراقي، لأن سعر الدينار المرتفع مقارنة بالدولار ساهم في تدفق السلع من دول الجوار، ما أثر سلباً على المنتج المحلي".
ويعتقد علاوي أن الحديث عن "تضرر ذوي الدخل المحدود غير صحيح، وسيوفر هذا الإجراء سيزيد من فرص العمل"، لكن الخبير الاقتصادي ماجد الصوري يقول إن "التأثير الأكبر من هذا الإجراء سيؤثر على ذوي الدخل المحدود وأصحاب الأعمال الحرة الصغيرة"، قائلاً: "التكلفة الاجتماعية ستكون كبيرة".
تعتقد حكومة الكاظمي التي تحمل عبء الـ17 عاماً الماضية أنها ستكون قادرة على تشغيل المصانع العراقية وتوفير فرص العمل من خلال هذا الإجراء، لكن العراقيين لم يرضوا عن ذلك، وتنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي تعليقات تعتبر أن الأجدى بالحكومة كان أن تستعيد الأموال المنهوبة وتحاسب الفاسدين الكبار قبل أن تذهب إلى الشعب.
عانى العراق خلال السنوات الماضية من سحب كبير للدولار، فمزاد العملة التابع للبنك المركزي العراقي يُسحب منه نحو ربع مليار دولار يومياً، وأغلبها "تُهرّب" للخارج وفقاً لمسؤولين وخبراء اقتصاد، وهو ما تسبب بأزمة ونقص في العملة الصعبة.
يقول مصدر في البنك المركزي العراقي لرصيف22 إن "هذه الأزمة ما كانت لتكون لولا عمليات تهريب الدولار، وقيام المصارف التابعة لأحزاب وجماعات مسلحة بسحب الدولار بشكل كبير".
ويضيف موضحاً كلامه: "كانت هذه المصارف تعرف بإجراء الحكومة، واشترت عشرات ملايين الدولارات من مزاد العملة قبل أسابيع من الإعلان الرسمي. ستعود وتبيعه للمواطنين بأسعار أعلى".
خلال الأسابيع المقبلة، سيجد العراقيون أنفسهم أمام أزمة حقيقية، إذ لا تزال الأزمة في بدايتها، ولم تظهر نتائجها بشكل كبير، وهو ما يُنبئ ببداية احتجاجات جديدة تواجهها حكومة الكاظمي في المدى القريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...