بينما كان المسلمون مشغولين بحروب الردة، بعد موت النبي محمد، خرجت في بني تميم سيدة اسمها سجاح بنت الحارث، ادّعت أن الوحي أنزل عليها، وتبعها قومها وأخوالها من بني تغلب.
كانت سجاح أول سيدة تدّعي النبوة، لكن طالها "تشنيع" المؤرخين، لأنها ادّعت النبوّة في زمن الإسلام وفشلت دعوتها، ولأنها تنازلت عن النبوة لمَسلَمة بن حبيب الحنفي ("مسيلمة الكذاب")، وهو مدّعٍ آخر للنبوة في تلك الحقبة، بعد زواجها منه.
ادّعاء النبوة
روى ابن كثير قصة سجاح بنت الحارث، في مؤلفه "البداية والنهاية"، بقوله: "إن بني تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم مَن ارتد ومنع الزكاة، ومنهم مَن بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم مَن توقف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة، وهي من نصارى العرب، وقد ادّعت النبوة، ومعها جنود من قومها ومَن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق".
وترد في المصادر التاريخية بعض الأقوال المسجوعة المنسوبة إليها، في سياق ادّعائها بأنها كلام أنزل عليها. ومن ذلك ما ذكره أبو العباس الشريشي، في كتابه "شرح مقامات الحريري" أنها ألقت: "يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يبغون".
ويعرّفها خير الدين الزركلي، في مؤلفه "الأعلام على الأعوام"، بأنها "متنبئة مشهورة، شاعرة عارفة بالأخبار، بغت في عهد الردة وادّعت النبوة، وكانت من بني تغلب بالجزيرة، ولها علم بالكتاب أخذته عن نصارى تغلب، فتبعها جمع من عشيرتها بينهم بعض كبار تميم، ونزلت بهم اليمامة تريد غزو أبي بكر".
يروي ابن كثير أنه لما مرت سجاح ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها، فاستجاب لها عامتهم، وكان منهم مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، لكن مالك ثناها عن غزوها، وحرضها على بني يربوع، ثم اتفق الجميع على قتال الناس، وقالوا: بمَن نبدأ؟
وكان رد سجاح وفقاً لما ذكر الطبري في كتابه "تاريخ الأمم والملوك"، وابن كثير أيضاً: "أعِدّوا الركاب، واستعدّوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب". وتعاهد بنو تميم على نصرها، فقال عطارد بن حاحب في ذلك: أمست نبيتنا أنثى نطيف بها/ وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا.
بعد ذلك، قصدت سجاح بجنودها اليمامة، لتأخذها من "مسيلمة الكذاب"، فهابه قومها، وقالوا: "إنه استفحل أمره وعظم"، فقالت لهم: "عليكم باليمامة، دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة"، وفقا لابن كثير.
ويروي الشريشي نفس الوقائع تقريباً، ولكنه يقول إنها ردت عليهم بقولها: "يا معاشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، وأضرموا ناراً ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة". وهذا التضارب إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أن ما نُسب إليها من سجع ليس دقيقاً، والغالب أن غرضه إظهارها كشخصية ضعيفة لا تتفوّه إلا بما هو ركيك.
كانت لبني تميم مكانةٌ كبيرة بين قبائل العرب قبل الإسلام وفي عصر النبوَّة، وهذه المكانة دعمت موقف سجاح أمام بعض القبائل التي تضامنت معها. وكان للالتفاف حولها أسباب سياسية-اقتصادية. يشير الدكتور هاشم الملاح في كتابه "الوسيط في السيرة النبوية والخلافة الراشدة"، إلى أن تحلّق بني تميم حولها كان "لاعتبارات سياسية تتصل بالرغبة في الانفصال عن دولة المدينة وعدم دفع الزكاة".
"كانت من النساء العاقلات الحكيمات ذوات الفصاحة والبلاغة وأصالة الرأي حتى إنها قادت أكابر قومها إلى رأيها وتحت طاعتها"... أول سيدة تدّعي النبوّة، سجاح بنث الحارث التميمية
وعلى أية حال، قصدت سجاح ومَن معها اليمامة لقتال مسيلمة، فلما بلغ الخبر مسيلمة "وقيل له: إن معها أربعين ألفاً فخافها، وأقبل عليها في جماعة من قومه، وتزوج بها"، بحسب رواية الزركلي، خاصةً أن جيش المسلمين كان يتجهّز لقتاله هو وبني حنيفة، فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض التي كانت لقريش لو عَدَلت عن مهاجمته، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه وقومها، فركب في أربعين من قومه وجاء إليها، فاجتمعا في خيمة، فلما خلا بها عرض عليها نصف الأرض، فقبلت.
خيال الرواة في لقاء سجاح ومسيلمة
خيال الرواة يبدو أنه شطّ كثيراً في مروياتهم عن الحديث الذي دار بين سجاح ومسيلمة، ومن هؤلاء الطبري وابن كثير وغيرهم، وتفاصيل الأحاديث التي تُنسب إليهما يتضح منها بشكل جلي أنها ملفّقة وما الغرض منها سوى تسفيههما.
ومما رُوي أن مسيلمة قال لسجاح: "سمع الله لمَن سمع، وأطعمه بالخير لمَن طمع، ولا يزال أمره في كل ما سر نفسه مجتمع، رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة أخلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار".
وقال أيضاً: "لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور".
واستكمالاً لقصة سجاح مع مسيلمة، أورد ابن كثير والطبري ومعهما الأصفهاني، في كتابه "الأغاني"، حديثاً دار بينهما. ذكروا أنه "لما خلا بسجاح سألها ماذا يوحى إليها؟، فقالت: وهل يكون النساء يبتدئن؟ بل أنت ماذا أوحي إليك؟، فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، قالت: وماذا؟، فقال: إن الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً، فقالت: أشهد أنك نبي، فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟، قالت: نعم".
خيال الرواة، ومنهم الطبري وابن كثير وآخرون، شطّ كثيراً في مروياتهم عن لقاء مدّعييْ النبوّة سجاح التميمية ومسيلمة الحنفي. نسبوا لهما سجعاً ركيكاً وشعراً فاحشاً، ما دفع الزركلي إلى وصف كل الخبر بأنه "من مجون القصاصين للتشنيع عليهما"
في كتابه "الصدّيق أبو بكر، يتطرق محمد حسين هيكل إلى واقعة هذا الزواج مشيراً إلى ذكاء مسيلمة السياسي. يقول: "لئن صح أنه تزوجها ليكونن ذلك برهاناً على دهائه في السياسة، وعلمه بمداخل القلوب، فقد أراد أن يتخلص منها ليفرغ لقتال مَن حوله من القبائل ومَن أوفدهم أبو بكر لقتاله من المسلمين".
ولم يتوقف الحديث الغريب عند قبولها بالزواج من مسيلمة، فقد ذكر الرواة أن الأخير قال لها شعراً: ألا قومي إلى النيك/ فقد هيئ لك المضجع/ فإنْ شئت ففي البيت/ وإنْ شئت ففي المخدع/ وإنْ شئت سلقناك/ وإنْ شئت على أربع/ وإنْ شئت بثلثيه/ وإنْ شئت به أجمع. فقالت: بل به أجمع، فقال: بذلك أوحي إلي.
وبحسب الزركلي، فإن "خبر حوارها مع مسيلمة، حين اجتماعهما، من مجون القصاصين، للتشنيع عليهما". وهذا جلي، فمن أين لشخص ثالث أن ينقل حديثاً دار بينهما؟
ومما يمكن افتراضه بسهولة أن سجاح كانت ذات شخصية قوية، وإلا لما كانت جمعت حولها قبائل برجالها. وتصفها الأديبة والمؤرخة اللبنانية زينب فواز (توفيت عام 1914)، في كتابها "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" الذي أرخت فيه لـ456 امرأة من نساء الشرق والغرب، بأنها "كانت من النساء العاقلات الحكيمات ذوات الفصاحة والبلاغة وأصالة الرأي حتى إنها قادت أكابر قومها إلى رأيها وتحت طاعتها وركبت على العرب في عساكر جرارة...".
على كل حال، ما لبث أن هاجم جيش المسلمين مسيلمة وقتله. وبحسب الزركلي، لما بلغ سجاح الخبر، "أسلمت وهاجرت إلى البصرة وتوفيت فيها، وصلى عليها سمرة بن جندب"، والي معاوية على البصرة.
هل دعم الفُرس سجاحاً؟
في دراسة بعنوان "حروب الردة/ دراسة تحليلية"، يشير أحمد سعد العش إلى أن الفرس أمدّوا سجاحاً بجيش قوامه أربعون ألف رجل جاءت به من العراق الذي كان تحت الحكم الفارسي، لتحارب المسلمين.
ويرى العش أن الفرس أرادوا بذلك ألا يكون صدامهم مباشراً مع الدولة الإسلامية الناشئة، حتى لا تكون هناك خسائر. وبرأيه، "هذه سياسة حكيمة، وعملوا على أن يكون هناك طرف آخر يقاتل المسلمين، وإن لم يستطع هذا الآخر النصر على المسلمين يكون قد أجهد قوة الدولة الإسلامية، فتدخل القوة العسكرية عند أهل الفرس في هذه اللحظات فتنزل بالجيش الإسلامي خسائر فادحة".
ويتفق مع الطرح السابق ما أورده محمد حسين هيكل عن أن "بعض المؤرخين يرون أن سجاحاً لم تنحدر من شمال العراق إلى شبه جزيرة العرب يتبعها رهطها والقبائل المحيطة بها لكهانتها ومطامعها الذاتية، لكنها دفعت بتحريض الفرس وعمالهم في العراق، كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب ضراماً، ليستعيدوا ما كان لهم في كثير من أرجائها".
وقال بذلك أيضاً محمد سهيل طقوش، في كتابه "تاريخ الخلفاء الراشدين"، مشيراً إلى أنه "كانت هناك علاقات منظَّمة ومنضبطة بين بني تميم والفرس، تتمثل في مرور القوافل التجارية دونما عائق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...