يذكر المؤرخون أن المسلمين ارتكبوا مجموعة من الأخطاء في موقعة أُحُد، كان أولها الخروج من يثرب لقتال "مشركي قريش" بدلاً من تحصين المدينة وانتظارهم فيها، وثانيها مخالفة الرماة الذين اتّخذوا مواقعهم فوق الجبل لأمر النبي بألا يبارحوا أماكنهم.
وكان السبب في مخالفة الرماة لما طُلب منهم طمعهم في الغنائم التي بدت لهم قريبة من أيديهم، بعد انهزام وفرار خصوم المسلمين في بداية المعركة. ولم تكن تلك الغنائم إلا النساء، نساء لسن كأي نساء، لكنهن عقائل قريش المنعمات اللواتي قدمن إلى الميدان ليَضمَنَّ استماتة الرجال في القتال.
في خبر أخرجه البخاري، عن البراء بن مالك (ت. 641م): "لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمّر عليهم عبد الله وقال لا تبرحوا، إنْ رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإنْ رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقينا هربوا (القرشيون) حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا ("الرماة") يقولون الغنيمة الغنيمة".
وفي خبر عن ابن عباس (ت. 687م)، يرويه الطبري في "تاريخه"، أن المسلمين لما تفوّقوا في المعركة على القرشيين، "قال (الرماة) الذين كانوا جُعلوا من ورائهم، بعضهم لبعض، ورأوا النساء مصعدات (هاربات) في الجبل، ورأوا الغنائم: انطلقوا إلى رسول الله، فأدركوا الغنيمة قبل أن يسبقونا إليها".
وفي حديث عن الزبير ابن العوام (ت. 656م) أورده ابن إسحاق في "السيرة النبوية": "والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها، مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من أدبارنا وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قُتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم".
وكانت النتيجة أن ثأر القرشيون لهزيمتهم في غزوة بدر، وكان لهزيمة المسلمين وقع شديد القسوة على نفوسهم، إذ قُتل منهم سبعون رجلاً بينما قتل من خصومهم 22، وأصيب النبي في المعركة إصابات عنيفة يذكرها حديث أخرجه مسلم: "كسرت رباعية (سِنُ) رسول الله، وشُج، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء} (آل عمران: 128)".
وسمّى الطبري في تاريخه ثماني نساء من قريش خرجن مع الرجال في غزوة أُحُد، وهن: هند بنت عتبة، أم حكيم بنت الحارث، فاطمة بنت الوليد، برزة (أو برة) بنت مسعود، ريطة بنت منبة، سلافة بنت سعد، خناس بنت مالك (تسمّيها مصادر أخرى أم خناس)، وعمرة بنت علقمة. وتذكر مصادر تاريخية أن عدد النساء كان أكثر من ذلك.
هؤلاء النساء لعبن دوراً كبيراً في تحفيز الرجال على الثبات وعدم التراجع أمام المسلمين. ولكل منهنّ قصة في ميدان القتال، بعضها مثير وبعضها مؤلم.
هند بنت عتبة
هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشية الكنانية. كان أبوها عتبة بن ربيعة، وزوجها أبو سفيان بن حرب، من سادات قريش، وهي أم الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وكانت من شاعرات العرب صاحبات الشهرة قبل الإسلام وبعده.
كان بين هند والمسلمين ثأر غائر سببه مقتل أبيها عتبة، وعمها شيبة، وأخيها الوليد، في غزوة بدر. ويروي أبو الفرج الأصفهاني في موسوعته "الأغاني" عن المؤرخ الواقدي خبر لقاء هند بالشاعرة الرثائية الشهيرة الخنساء ومعاظمتها في مصيبتها.
قال: "فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة، وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سوقاً يجتمع فيها العرب فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا. فلما أن دنت منها قالت لها الخنساء: مَن أنت يا أُخية؟ قالت: أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟ فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد، وصخر ومعاوية، ابنَيْ عمرو، وبم تعاظمينهم أنت؟ قالت: بأبي عتبة بن ربيعة، وعمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد".
ومن بين ما أجابت به هند من الأشعار قولها:
أبكي عميد الأبطحين كليهما/ وحاميهما من كل باغٍ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي/ وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالبٍ/ وفي العز منها حين ينمي عديدها
وتتفق روايات عدّة على أن هند، عندما رأت رجال قريش يقبلون على القتال في بداية غزوة أُحُد، أنشدت شعراً جريئاً تحمسهم به: "نحن بنات طارق/ نمشي على النمارق/ إنْ تقبلوا نعانق/ أو تدبروا نفارق/ فراق غير وامق"، وفيه تتهددهم بمفارقة نسائهم لهم إذا تراخوا وهربوا.
ولكن ابن سيد الناس، في كتابه "عيون الأثر"، ينقل عن ابن إسحاق أن "الشعر ليس لها وإنما هو لهند بنت بياضة بن طارق بن رباح بن طارق الأيادي، قالته حين لقيت إياد جيش الفرس بجزيرة الموصل، وكان رئيس إياد بياضة بن طارق".
من أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أُحُد أن الرماة تركوا مواقعهم باكراً، سعياً وراء "الغنائم"، بعد انهزام وفرار خصوم المسلمين في بداية المعركة. ولم تكن تلك الغنائم إلا النساء، نساء لسن كأي نساء، لكنهن عقائل قريش المنعمات
قد تكون هند أنشدت قصيدة قديمة ليست لها. ولكن بغض النظر عن نسبة الأبيات المذكورة إليها، تذكر روايات كثيرة أنها ألقت الشعر يوم أُحُد. ينقل الطبري في "تاريخه" عن ابن إسحاق أن هنداً أنشدت من شعرها بعد انتهاء القتال، وأن عمر بن الخطاب سمع شعرها وتلاه على شاعر النبي حسان بن ثابت، وطلب منه أن يرد عليها ويهجوها.
لا يذكر الخبر شعر هند لكنه يذكر هجاء حسان المقذع لها ومنه:
أشرت لكاع وكان عادتها/ لؤماً إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معها/ هند الهنود عظيمة البظر (...)
ونسيت فاحشة أتيت بها/ يا هند ويحك سبة الدهر (...)
زعم الولائد أنها ولدت/ ولداً صغيرا كان من عهر
ويروي ابن إسحاق في السيرة النبوية، بسند مرسل، أنه بعد المعركة، "وقفت هند بنت عتبة، كما حدثني صالح بن كيسان، والنسوة الآتون معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله، يجدعن الآذان والآناف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنافهم خدماً (خلاخيل) وقلائد، وأعطت خذمها وقلائدها وقرطيها وحشيّاً غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطيع أن تسيغها، فلفظتها".
عمرة بنت علقمة
هي عمرة بنت علقمة، من بني الحارث من قبيلة كنانة، وكانوا من حلفاء قريش. لا يذكر الطبري اسم المقاتل التي خرجت عمرة إلى المعركة بصحبته أو إنْ كانت قد خرجت بمفردها. وعلى قلة المعروف عنها في المصادر، لكنها كانت المرأة التي لعبت دوراً حاسماً في القتال غيّر من مجريات المعركة، حين رفعت راية قريش بعد سقوطها، طبقاً لما يذكره ابن إسحاق: "إن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به (اجتمعوا حوله)".
هذا الدور القتالي الأساسي استحقت عمرة من أجله مدح شاعر النبي حسان بن ثابث بقوله:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا/ يباعون في الأسواق بيع الجلائب
خناس بنت مالك
هي خناس بنت مالك بحسب تاريخ الطبري وسيرة ابن إسحاق، وأم خناس وفاطمة العامرية بحسب مصادر أخرى. هي من قبيلة كنانة، وخرجت إلى غزوة أُحُد بصحبة ابنها أبي عزيز ابن عمير. وكان ابنها الآخر، مصعب بن عمير في الطرف المقابل، يحمل لواء المهاجرين، وقد قُتل في المعركة بعد أن ظل متمسكاً باللواء إلى أن قُطعت يداه وطعن في صدره فسقط.
تتفق روايات عدّة على أن هند بنت عتبة، عندما رأت رجال قريش يقبلون على القتال في بداية غزوة أُحُد، أنشدت شعراً جريئاً تحمسهم به، وفيه تتهددهم بمفارقة نسائهم لهم إذا تراخوا وهربوا
وتشتهر قصة قيام خناس بحبس ابنها مصعب، عندما أسلم، ولما لم يتراجع تركته لحاله وتبرأت منه. ويذكر ابن إسحاق في سيرته قصة تدلّ على شدّة العناد المتبادل بين مصعب وأمه. ومفاد القصة أن المسلمين أسروا أبا عزيز، أخا مصعب، في غزوة بدر. ولما مرّ مصعب من جانبه قال لآسره: "شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك"، ولما وصل الخبر إلى خناس، "سألت أمه عن أغلى ما فُدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم، ففدته بها".
لاحقاً، أسلمت خناس لتصير من الصحابيات.
فاطمة بنت الوليد
ومن المشاركات في أحد فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية، وهي أخت خالد بن الوليد. خرجت إلى غزوة أُحُد مع زوجها سيّد بني مخزوم الحارث بن هشام بن المغيرة، وهو، كما يرد في كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة" ابن عم خالد بن الوليد، وابن عم حنتمة، أم عمر بن الخطاب.
قبل ذلك، قُتل في بدر ابنا عمها عمرو بن هشام بن المغيرة ("أبو جهل") والعاص بن هشام بن المغيرة، وأُسر أخوها الوليد بن الوليد.
أم حكيم بنت الحارث
هي ابنة فاطمة بنت الوليد. كانت خلال غزوة أُحُد زوجة عكرمة ابن "أبي جهل". ولاحقاً، أسلمت يوم فتح مكة، واستأمنت لعكرمة الذي فر إلى اليمن فأمنه النبي، وخرجت في طلبه فردته حتى أسلم. وبعده، تزوجت مرتين، الأولى ليوم واحد من خالد بن سعيد، والثانية من عمر بن الخطاب الذي ولدت له فاطمة.
وأم حكيم سيدة تحكي كتب التاريخ عن شجاعتها. يروي ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أنها، في خلافة عمر بن الخطاب، شاركت في معركة مرج الصفر التي دارت بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد والبيزنطيين، ولما قُتل زوجها خالد خرجت و"قتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها".
سلافة بنت سعد
شاركت سلافة بنت سعد الأنصارية في أُحُد التي شهدت فيها مقتل زوجها طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وأولادها منه: مسافع والجلاس وكلاب.ويُروى أنها "نذرت حين أصاب (عاصم بن ثابت) ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر"، حسبما ورد في "السيرة النبوية" لابن إسحاق.
وسلافة هي أيضاً والدة عثمان بن طلحة الذي كان يحمل مفاتيح الكعبة. ذكر الواقدي في "المغازي" أن النبي لما أرسل يوم فتح مكة بلالاً ("الحبشي") يطلب منه مفاتيح الكعبة، طلبها عثمان من أمه سلافة فنازعنه فيها طويلاً ثم أعطتها له.
برزة بنت مسعود الثقفية
هي زوجة صفوان بن أمية الجمحي القرشي الكناني، أحد سادة قريش. وهي واحدة من ست زوجات له، ويدل خروجها معه، من بين زوجاته، إلى غزوة أُحُد على شجاعتها وقوتها، لا سيما أنه لا يوجد ذكر لمقتل أحد من أسرتها في غزوة بدر، ما يعني أنها لم تخرج طلباً للثأر كغيرها. وقد أسلمت مع زوجها بعد فتح مكة.
ريطة بنت منبة
خرجت إلى أُحُد مع زوجها عمرو بن العاص. أبوها منبه بن الحجاج، قُتل يوم بدر، كما قتل في المعركة نفسها عمّها نبيه وأخوها العاص ابن منبه. ومنبه ونبيه ممن يذكرهم ابن إسحاق بين مطعمي الحجيج في قريش.
تشبه قصتها قصة هند بنت عتبة: خرجت مع زوجها إلى أُحُد في ثأر أبيها وعمها وأخيها.
وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص. أسلمت بعد فتح مكة. وكما يقول عنها كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة"، لها ذكر وليس لها رواية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...