لا يزال التضارب المثير أحياناً بين آيات القرآن وبين بعض مرويات السيرة والتفسير يحفّز الفقهاء والمحدثين على الإثبات هنا والإنكار هنالك أو على محاولة التوفيق بين الآيات والمرويات. ومن أمثلة هذا التضارب المثير لدهشة المتأمل ذلك المتعلق بالعلاقة المتوترة التي جمعت بين النبي والصحابة، المؤمنين الأوائل منهم خلال الفترة المكية، وبين قريش ودينها وآلهتها.
حسب الآية 108 من سورة الأنعام، هناك أمر قرآني قاطع للنبي ولعموم المسلمين بعدم سب آلهة المشركين وأصنامهم، والسبب الذي تكشفه الآية من وراء هذا الأمر يعود إلى أن سب آلهة المشركين ومعتقداتهم سيؤدي لا محالة إلى ردهم بالمثل وسبّهم معتقدات المسلمين.
تقول الآية: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"، وفيها تعبير صريح عن مشيئة الخالق في شأن تزيين المعتقدات في أذهان معتقديها، مما يجعلهم على اعتزاز بها وتعصب شديد لها، ومما يزيد بالتالي من حدة التشديد في النهي عن الإساءة إلى معتقدات وآلهة الآخرين.
مفارقة تخلقها كتب التفسير
لكن المفارقة في تفسير نهي هذه الآية عن سبّ معتقدات الغير أن التفاسير تخص النبي وحده بأحكامها، على الرغم من أن الآية توجه خطاباً عاماً، ولا تتوجه حصراً إلى النبي، بخلاف الآيات التي تخاطب النبي تخصيصاً، عندما يكون هو المختص بالخطاب.
وفي ذلك، نقرأ في تفسير الطبري: "لما حضر أبا طالب الموت، قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: ‘كان يمنعه فلما مات قتلوه’، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبيّ ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلاً منهم يقال له: ‘المطلب’، قالوا: استأذن على أبي طالب. فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك. فأذن لهم، فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه. فدعاه، فجاء نبي الله فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك. قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك، فاقبل منهم. فقال النبي: ‘أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج؟’ قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا: ‘لا إله إلا الله’. فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها. قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها، إرادةَ أن يُؤيسهم، فغضبوا وقالوا: لتكفنَ عن شتمك آلهتنا، أو لنشتمنك ولنشتمن مَن يأمرك. فذلك قوله {فيسبوا الله عدواً بغير علم}".
تتناقض هذه الرواية التفسيرية مع كون النبي كان مأموراً في كل آيات العهد المكي (610-622م) بأن يصبر على مشركي مكة ويتحمل أذاهم ولا يرد إساءتهم بإساءة، وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى من بينها: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا/ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا/ وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: 5و6و7)، و{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ/ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 21و22)، و{وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} (الأحزاب: 48).
ونلحظ أن التفاسير والروايات تواصل اتخاذ منحى معاكس لمعنى الآيات الظاهر وأمرها الصريح، مرة عبر عكس المعنى عن طريق المرويات التي تنسب إلى النبي سب آلهة قريش، ومرة عن طريق نسخ الآيات بأكملها، بمعنى إيقاف العمل بأحكامها.
"من أمثلة التضارب المثير أحياناً بين آيات القرآن وبين بعض مرويات السيرة والتفسير ذلك المتعلق بالعلاقة المتوترة التي جمعت بين النبي والصحابة، وبين قريش ودينها وآلهتها"
في تفسير القرطبي للآية 48 من سورة الأحزاب نقرأ: "{ولا تطع الكافرين والمنافقين} أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. {الكافرين}: أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. {والمنافقين}: عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي على إجابتهم بتعلة المصلحة. {ودع أذاهم} أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم... وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به... والآية منسوخة بآية السيف".
في حين تأمر سورة المزمل النبي: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا/ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} (المزمل: 10و11). ويزداد توكيد الأمر القرآني بالصبر بأحزم الأساليب ليشمل سائر المسلمين في قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140).
هل بدأ النبي بالسب؟
لكن سيرة نبوية متداولة هي سيرة ابن هشام تحفل بالمرويات التي تعزو إلى النبي المبادأة بسب أصنام المشركين وآلهة قريش، إذ تقول نقلاً عن ابن اسحاق: "فلما بادى رسول الله قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه – فيما بلغني – حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون".
بل وتذهب رواية ابن اسحاق إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول: "فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم (أي لا يقبل عتابهم) من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه، مشى رجال من قريش إلى أبي طالب". وتكرر الرواية ما في رواية الطبري السابق ذكرها تقريباً خبر لقاء وفد قريش الساخط من سب النبي لآلهتهم مع عمه أبي طالب بزيادة على لسان القرشيين جاء فيها: "يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا". وتضيف على ذلك: "ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آباءنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا".
"سيرة نبوية متداولة هي سيرة ابن هشام تحفل بالمرويات التي تعزو إلى النبي المبادأة بسب أصنام المشركين وآلهة قريش"
ويسوق ابن اسحاق رواية أخرى تذهب برد النبي على عتب القرشيين له في سبهم إلى أبعد من ذلك وهو تهديدهم بالذبح، وهي من رواية "عبد الله بن عمرو بن العاص" وتقول عن القرشيين: "حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر (عند الكعبة)، فذكروا رسول الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، قد سفه أحلامنا، وشتم أباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت. فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله. قال: ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: ‘أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح’. قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه )أي: ليهدّئه( بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا".
لا يسع مَن ينحون منحى التوفيق بين تلك المرويات عن سب النبي لآلهة قريش وبين آيات القرآن من جهة، وبينها وبين مرويات أخرى تتحدث عن أذى قريش البالغ للنبي من جهة أخرى، إلا أن يذهبوا إلى أنها صدرت عن النبي قبل نزول الأمر الإلهي بالصبر وعدم الرد على المشركين. لكنهم يكونون بذلك قد أثبتوا أن أذى المشركين للنبي لم يكن غير محض رد فعل على سب النبي لآلهتهم، وهو ما تقول به هذه الروايات نفسها. أو قد يذهبون إلى أن السب هو من منطوق المشركين ومن اتهامهم المكذوب للنبي، وهو ما لا يستساغ لأنه لا يفسر صمت النبي وعدم مبادرته لرد اتهامهم ودفع أكاذيبهم، وكذا عمه أبي طالب، وكان الأحوج إلى هذا الدفع والتكذيب. كما لا يفسر بكل تأكيد صمت الرواة على ذلك لو أنه حدث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...