شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الكونتيسة

الكونتيسة "محمدة" في ثياب الخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 9 أبريل 202202:23 م

أشباح الغربة 

بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل


كنت قد وصلت مؤخراً إلى هذه المدينة الفرنسية الصغيرة التي ستحتفظ بجثتي للسنوات الثلاث القادمة، المدينة التي ستقصّر أحلامي على مقاسات معدّة مسبقاً، وقبلها كنت أقيم ضيفاً عند بعض الأصدقاء الذين تقاذفوني بينهم ككرة نصف منفوخة، أفطر عند الفرنسيين وأتعشى عند السوريين، وأنام كيفما اتفق عند من يتقبّل رائحة تبغي وأكواب القهوة العديدة التي أشربها قبل النوم.

وصول متردد

نزلت من عربة القطار وأنا أجرّ حقيبة ثقيلة، وربما دهشة أكثر ثقلاً وإحساساً متصاعداً بالتوتر القلق. كان آلان، المساعد الاجتماعي، برفقة مترجم سوري ينتظرانني في المحطة مع ورقة عليها اسمي، بالكاد لمحتها وانا أجرّ نفسي كذاهل، انتبهت فيما بعد أن الخطأ الإملائي الذي ارتكبه المساعد الاجتماعي في كتابة اسمي كان مضحكاً.

قال آلان: ظننتك امرأة.

قلت: وما أدراك أني لست كذلك؟

قال: شعرك طويل وترتدي أقراطاً وخواتم، أحتاج لبعض "الروج" لأقع في غرامك، والكثير من النبيذ.

قال: غرفتك جاهزة في منطقة تدعى جورانسون، ويجب عليك أن تأتي غداً لتوقع العقد مع المؤسسة.

قال آلان: النساء كما الرجال، في ورطة الوجود الناقص.

لم أخبره أني خفت من قبل من اعتباري رجلاً ذا مشاعر وإحساس ذكوري بالوجود، لم أتيقن بعد من هذا "الوجود الناقص" كما أسماه، لكني مثل جميع الموجودين في هذه الغابة، أتألم إذا طعنت وأبكي إذا أحببت، وهذا لا يعود لأي حقيقة تقول إني رجل حقاً، أو نصف امرأة، أو مجرّد بالونة ملونة تطير إذا هبت ريح.

كنت أتساءل كيف انتهى بي الحال إلى هنا؟ كيف خرجت سريعاً من مدينتي وأنا أكرهها، ثم انتقلت إلى مدينة مؤقتة كرهتها أيضاً، ثم اكتشفت أني أكره نفسي فقط... مجاز أشباح الغربة

كنت أبتسم كأني سعيد، لكنها كانت ابتسامة البلهاء حقيقة، فأنا لم أفهم أصلاً ماذا أفعل في هذه الحياة التي جاءتني على حين غرة، كأنها ثمرة صبّار سقطت في حجري من سماء بعيدة، أو من غرفة في الطابق العاشر، ابتسم لأبدو لطيفاً أمام الغرباء، أمام موظفي الأمن وبائعي الثياب، لأخفي حذري وخوفي وقلّة حيلتي. أنتظر أن أكون وحيداً لأضع ابتسامتي تلك في جيبي ثم أركن لفمي الحقيقي الذي يتجّعد بسهولة وعيني اللتين تدمعان كغيوم اللاذقية.

غرفة بجدار واحد

كانت غرفة بدون معنى... أعني كأنها مجهّزة لاستقبال مولود صغير أو شخص بالكاد يتذكر اسمه: جدران بيضاء بدون أي إشارة عليها، أو لطخة، بيضاء هذا البياض الغريب، الغبي، الذي لا يوحي بشيء ولا حتى بالنقاء إذا افترضنا أن النقاء أبيض، ثلاجة صغيرة بالكاد تسع لمخزون يومين، وسرير مفرد ونافذة مفتوحة على غابة صغيرة. كانت غرفة لـ"لا أحد". غرفة تستطيع أن تفقد فيها اسمك وتصبح من تشاء. غرفة قيد "التغرّف". لا وجه لها إلا ما تعطيها إيّاه.

قال آلان: "السيدة التي سبقتك للعيش هنا، كانت أيضاً لاجئة، كانت تقول إنها كونتيسة إسبانية، وحفيدة شاعر يدعى لوركا، هل تعرفه؟".

قال آلان: "لقد هربت بدون أي إشعار. حتى بدون أوراق. يخطر لي أحياناً أنها تبخرت أو طارت فحسب".

قال آلان: "أنتم الشعراء محظوظون بالموت كما أنتم محظوظون باللغة".

في الزاوية، حيث ينتصب تلفزيون بحجم 17 بوصة، كان ثمة أوراق متجمعة، وبعض الكتيبات التي تشرح أهم الأماكن السياحية في المدينة، خرائط مرسوم عليها بالحبر الأزرق وخربشات بلغة غريبة، أسهم تنتقل من صفحة إلى أخرى ومن جملة إلى سطر. فكرت أني سأحاول ترجمتها لاحقاً، عندما يبلغ بي الضجر ما يبلغه. الآن يجب أن أفكر  في الغد الذي يعوي خلف الباب.

كان الغد حجرياً بطريقة ما، مرمر ذو ألوان متباينة وعروق مصفرة. كنت أتساءل كيف انتهى بي الحال إلى هنا؟ كيف خرجت سريعاً من مدينتي وأنا أكرهها، ثم انتقلت إلى مدينة مؤقتة كرهتها أيضاً، ثم اكتشفت أني أكره نفسي فقط، إذ إني كرهت باريس أيضاً وبوردو وعدة مدن صغيرة تنقلت للعيش فيها، ووجدت كرهي يجلس في حقيبة ملابسي، كسلحفاة صغيرة، أنيقاً وساخطاً من كل شيء.

خرجت إلى ليدل، المول الألماني الأرخص في أوروبا. كنت خائفاً من ألا أجد شيئاً أعرفه لأشتريه، أمام كم المنتجات الهائل الذي أمامي احترت، ماذا أريد؟ هناك خمسون نوعاً من الجبنة ومثلها من القهوة، حتى الخبز له أسماء ترعبني، بالكاد أعرف طريقة لفظها. أريد أن آكل شيئاً أفهمه، أعرفه، كأن تكون والدتي قد وضعت إصبعاً فيه، أو شعرة ربما، طويلة وشائبة كحياتي. أي جحيم ألقيت نفسي فيه؟

كان النجّارون يمرّون قرب القلعة ويعرضون بضاعتهم عليها:
خزائن صغيرة، صناديق أندلسية مزركشة، ملاعق وأدوات لحكّ الظهر.
اختارت أيراً أسود، له قبعة شرطي، واشترت خمس عشرة قطعة منه.
سأسند بهم الكتب في المكتبة، قالت الأميرة لوصيفتها المذهولة.
سأسند به عزلتي: قالت لنفسها.

اشتريت خبزاً عادياً كأيامي العادية وجبنة البقرة الضاحكة، أنا في بلد الجبنة وأشتري منتجاً يضحك الفرنسيون عندما أسميه جبنة، لكن هذا ما أعرفه. ابتسمت للبائعة الصغيرة السمراء. ابتسمت لي. بدأ اليوم يتحسّن. عدت إلى غرفتي وأخذت ألوك الخبز مع بقرة ضاحكة وأشرب الشاي.

هناك عدة محطات على التلفزيون. قلبت بينها. لم أر ما يشد انتباهي، وهذه طريقة أخرى للقول إني لم أفهم ماذا يحصل في التلفزيون الفرنسي، يتكلمون ويتكلمون، ولا يقاطعون بعضهم. المذيعة جميلة والضيوف أيضاً. يتحدثون عن شيء ما، ظننت لبلاهتي من سحناتهم الجدية أنهم يتحدثون عن الحرب وعن الأطفال الذين يموتون جوعاً وبرداً. انتظرت أن أسمع اسم بلدي. لا أحد يذكره. فيما بعد قرأت كلمة تشبه كلمة أعرفها "لا فاش"، لا فاش كيري... أعرف هذا الاسم. بل أكلته منذ قليل. كان برنامجاً عن المخاطر التي يواجهها مربو الأبقار في فرنسا، وأنا من ظنّ أن البرنامج يتكلم عن الحرب في سوريا وأزمة اللاجئين وحقوق الإنسان، بينما أقصى ما يشغل بالهم هو رفاهية بقرتهم "الضاحكة" كالوزراء في بلادي.

قصائد في الفاترين

حلّ المساء، كانت الصمت سمة هذه القرية الصغيرة، وأنا بالكاد أعرف لفظ اسمها. خطر لي أن أبحث في الأوراق التي تركتها تلك اللاجئة، ربما تركت لي ملاحظات تساعدني على قتل الوقت! قتل الوقت؟ كأن الوقت دب بري أو ذباب لجوج، أو هو فعلاً حيوان أسطوري يتسرب من تحت الباب ويعيد تجميع نفسه... على صدري.

لم أخبره أني خفت من قبل من اعتباري رجلاً ذا مشاعر وإحساس ذكوري بالوجود، لم أتيقن بعد من هذا "الوجود الناقص" كما أسماه، لكني مثل جميع الموجودين في هذه الغابة، أتألم إذا طُعنت وأبكي إذا أحببت، وهذا لا يعود لأي حقيقة تقول إني رجل حقاً، أو نصف امرأة، أو مجرّد بالونة ملونة تطير إذا هبّت ريح... مجاز الغرباء

وضعت الأوراق على الطاولة الصغيرة وأخذت أبحث. كانت تكتب قصائدها بلغة إنكليزية بسيطة. وأحياناً تضع كلمات بين أقواس بلفظ عربي لكن بأحرف لاتينية فكانت تكتب "Kossi" أحياناً، هكذا بدون مواربة، أو تكتب "The Stupid Allah".

خطر لي أنها امرأة عربية هاربة من عسف ما، من أخ أو أب أو زوج، أو ببساطة من حرب طارئة، وكانت توقع قصائدها باسم "محمدة".

لم يكن احتمال وجود شبيهتي في هذه البلدة الصغيرة ما يدهشني، كففت منذ زمن عن استعمال الدهشة في تعابيري، لم يعد يدهشني شيء. لكن تأنيث اسمي، وهو ما لم أعرف قبلاً أنه قابل للتأنيث، يكشف لي ختل اللغة المكرسة وختل هويتي التي اعتدتها.

عبدة الله ومحمدته وحسينته، رسولته ونبيّته وكاتبة قرآنه، ملهمته وعاهرته وعشيقته السرية، كانت تعيش هنا، في غرفتي، وتنام على سريري، وربما ضاجعته هنا، وانتشت في واحدة من أشد اللحظات بؤساً وألماً.

كانت تكتب قصائد عن الوحدة، قصائد عنيفة مليئة بالجثث والدم، كان الدم يكاد يتقطّر على الورق المسطر، وكنت ألمح طرف جثة هنا أو هناك، بل ربما وجدت مرة جثتي نفسها، بين السطر السابع والخامس عشر، بين جملتي "الحرب الحادة" و"الحب الذي يقلّى على الموقد بالبصل والكزبرة".

كانت محمدة امرأة مثلي، غير واثقة من شيء، تستخدم كلمات كبيرة وأحياناً غير حقيقية، لتصف شيئاً هو غير حقيقي بشكل أكبر.

تقول عن الوحدة إنها "طماطم ذات طعم أقرب لتربة بلدة صغيرة في جنوب أفريقيا"، وتقول عن جسدها إنه "بدأ يذبل كاستمرار في العدو قرب مراكض الخيول في تشيلي"، تقول الحياة والسعادة والذهول كأنها "بيض مسلوق في ساندويتش إلهي".

قرأت لها الكثير، وداعبت مخيلتي فكرة أن أصبح شاعراً، أو للدقة، شاعرة بجسد رجل، أن تتداول الصحف اسمي وأن تبتسم والدتي عندما تسمع باسمي في الراديو، أن تفخر زوجتي بي وتدعني أدخل الحمام بحذائي.

ابتلعت نصوصها كأنها قطع سكّر، وجدت في أيامها أيامي، وجدت قناعي الذي أضعته لحظة الولادة الأولى، ثم خسرته بتقدم السنين وبنموّ الرغبة، ثم عاد لي مع كلمات مبهجة، فتّانة. وجدت قبلتها على فمي ولسانها في لساني، وجدت يدها التي أكتب بها الآن ما أكتب.

سمعت الخطر يترمّد تحت السرير

سمعت الجيّد وقليل الحظ والمتعثّر

سمعت أياماً تركض في الممشى، وراء النهار

وحين أفقت من بريد اليوم، ومن الرسائل التي نرسلها لنقول إننا صغار على الغربة، وأن أعيننا تجفّ قرب موائد السادة، وأن في مائنا المسفوح على إسفلت موحش ماء موحشاً.


كان ما بين ساقي قد جفّ لدرجة أني رطبته بزيت الزيتون، ودلكته لينتعظ ويندى

ثم جرحته بالسكين

وتبعت خيط الدم، إلى النهاية.


إنك ترتدي ملابس مثل أي شخص

معطف وحذاء جلدي وقبعة أنيقة

كنك تبدو لا أحد، من سرقك؟


يزحف عدد كبير من العشّاق، من الطباخين، من باعة الأحلام المورقة

وجسدي يغيب في سبات خيالي، لكن ما بين فخذي يضيء بعمق اللحظة

أعيش قصة حب لا نهائية، تجمع بين الأغصان الملتوية بعمق في مهبلي وديكورات البيوت مسبقة الصنع.

إنك ترتدي ملابس مثل أي شخص، معطف وحذاء جلدي وقبعة أنيقة، لكنك تبدو لا أحد، من سرقك؟... مجاز أشباح الغربة

أنفاسك عسل في فمي

كل شهيق

كل كلمة مبتلة بلعابك

كل ما يحمله لسانك من ضوضاء ورغبة

يسيل في فمي كشلال يسقط من الطابق العاشر.


أصابعك وهي تعدّ أسناني

وتتقدم في داخلي

لأتذوق ألمي الخاص، عصارتي، سائلي المزّ

هي مساحة من الكلمات التي لا تقف عند حد

بداخلي كلماتك التي ألقيتها على عجل

وعندما أقف

تسيل على فخذي، وتنحدر لتضيع في مساماتي.


أميرة صغيرة متزوجة من ماركيز أحمق

ومن الواضح أن رجولته ذهبت بعيداً، مع الحملات الصليبية

قالت الأميرة الصغيرة: سأكون وحيدة، طالما تلك الحروب الرجولية لا تنتهي

سأكون حزينة، وما بين ساقي سيجفّ مثل زهرة بين صفحات كتاب.


كان النجّارون يمرّون قرب القلعة

ويعرضون بضاعتهم عليها

خزائن صغيرة، صناديق أندلسية مزركشة، ملاعق وأدوات لحكّ الظهر

اختارت أيراً أسود، له قبعة شرطي، واشترت خمس عشرة قطعة منه

سأسند بهم الكتب في المكتبة، قالت الأميرة لوصيفتها المذهولة

سأسند بهم عزلتي: قالت لنفسها.


لن نقول إن الإله كان راضياً تمام الرضا

لكنه نظر بعين قلبه، وربما فكّر أيضاً بمتعة المشاهدة

وبحركة واحدة حوّل الأيور الخشبية إلى قطع حيّة، نابضة بالعروق، تتقافز في غرفة الأميرة

وتنشر رائحتها الخشبية.


قال الرب: رائحة جسدك المبلل مدهشة، لكن انتبهي من نثرات الأخشاب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image