أغلقت النافذة لكي يظلّ كلّ شيء كما كان من ذي قبلُ، وأوشكت أن أنصرف لمّا تنبّهت إلى رفرفة الضوء الصغير في الحاسوب. فاقتربت من المنضدة من غير أن أتمكّن من تصديق ذلك تصديقاً كاملاً. فبدا لي أنّ هذا معجزة. هو أن نونا قطعت عملها في منتصف جلسة، أو بقولٍ أفضل، لم تتذكّر فتغلق الجهاز. ضغطتُ على مفتاح ما، فأضاءت الشاشة. وهنا أصبحت منرفزة. لكن، لا أدري ما إن كان ذلك منذ اللحظة الأولى لإحساسي بأن ما سوف أفعله ليس شيئاً حسناً، أو لشيءٍ ما بعد ذلك، لمّا تنبّهت إلى أنّي قد دخلت قسم: «صوري». إذ إنّ موزاييكَ من الصور الفوتوغرافية والرسوم وُضع في متناول يدي ما إنْ ضغطت على الفأرة.
وهذا ما عملته. واخترت أن أرى ذلك كتقدمة. فشاهدت وأنا بين مثارة الأعصاب ولاهية عرضاً من فنّاني السينما و«الموديلات» والرياضيّين. إلّا أنّهم صغار وكثير منهم مكشوف الصدر وفي بدلة استجمامٍ أو مايوه، وفي بدلة سباحة، أو ملابس لاعب جيمناز أو راقص. وهم جميلون دائماً. وبعضهم فوق ذلك أقوياء وذوو عضل مُبدين بفخر جذوعهم اللامعة أو عضلاتهم المتوتّرة. وهم شُقر وسُمر وبيض وسود وخِلاسيّون. ففي ألبوم نونا يوجد كلّ صنف من الرجال. وما كان يبدو هذا العرض سينتهي أبداً. «يا لأختي!» سمعتني أقول بصوت خفيض.
لكنّ وجهي احمرّ في الوقت ذاته تقريباً: غضباً ودهشة وخجلاً. احمرّ وجهي وثبّتُّ الصورة الأخيرة بذهول. لأن هذا الموكب اللامتناهي انتهى بأن ظهر فيه شخصٌ ما كنت آمل أن أجده هنا. وهو أحدٌ ما يقف باسماً قرب نافذة وفي الوضع ذاته في الصورة التي التقطتها له في المدرسة سوى أنه لا يلبس الرداء الأزرق الذي يضاهي عينيه، ولا قميصاً أيضاً ولا برنساً ولا كنزة رياضية... فمن أنا به معجبة كان هنا، على شاشة حاسوب نونا عارياً عرياً كاملاً وباسماً.
وأدركت فوراً بعد الدهشة الطبيعية أنّ نونا شرّيرة إضافة إلى كونها ذكية. وشرّيرة جدّاً.
رواية "حجرة نونا" لكريستينا فرناندث كوباس ترجمة علي إبراهيم أشقر صدرت عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، الرواية أشبه بعدسة مكبرة لاكتشف تعقيدات النفس البشريّة
هو له اسم حقيقيّ (كما قلت من قبلُ). اسم كفَّ عن أن يكون سرّاً. فقد كتبَتْه أسفل الصورة بأحرف حمر. وأشارت أيضاً إلى مهنته. إنه عالم نفسيّ. من أنا به معجبة هو الموجّه النفسي في المدرسة. إنه شابّ صغير السنّ قد أنهى دراسته، وله أفكار جديدة حول كيفيّة معالجة مرضاه. وقد عرضنا نحن -بعض الطالبات- أنفسنا طوعاً لكي يستطيع أن يطوّرها ويجرّبها علينا. وبذلك تعلّمنا كلّنا جميعاً أنه لنا ونحن له.
وكان يلذّ لي كثيراً أنْ أقصّ عليه أموراً وأن يستمع لي. وهو يلذّ له أن يستمع لي ويعلّق على أموري. وقد بالغتُ شيئاً قليلاً أكثر من مرّة. إذْ وجب عليّ أن أقول له كلّ شيء. كنتُ أبالغ بفظاظة نونا والصعوبة التي تتبدّى لي أحياناً بأن أكون أختاً كبرى لطفلة مميّزة. وإذا كنت أفعل ذلك، فذلك إرضاءً له. كنّا نلتقي مرّة واحدة في الأسبوع في القاعة الصغيرة التي تصبح أحياناً بمنزلة عيادة استشاريّة. فما إنْ أفتح الباب حتى يستقبلني ببسمة كبيرة. ويسألني فوراً: «كيف تسير الأمور مع أختك؟». وكنت على يقين تقريباً من أنه يكتب كتاباً، كتاباً عنّي أو بالحَرَا، عن عادات الأطفال أو المراهقات من أمثال نونا. هو يعرف كلّ ما يجب علينا أن نتحمّله، والكثير مما يجب أن نضحّي به. لكن، لا يبدو لي أنه يستطيع أن يتخيّل بأيّ شكلٍ، الفِعلة الشنعاء التي خطرت لنونا.
شاهدت وأنا بين مثارة الأعصاب ولاهية عرضاً من فنّاني السينما و«الموديلات» والرياضيّين. إلّا أنّهم صغار وكثير منهم مكشوف الصدر وفي بدلة استجمامٍ أو مايوه، وفي بدلة سباحة، أو ملابس لاعب جيمناز أو راقص. وهم جميلون دائماً. كريستينا فرناندث كوباس
لأنّ الأمر منوط بهذا، بالفعلة الشنعاء. لا أدري متى استطاعت أن تعثر على صورته، الصورة التي أحملها معي دائماً، في الهاتف الخليوي. لكنّ الثابت هو أنّها استغلّت لحظةَ غفلة فسرقتها ووضعتها في ألبومها، وأكبّت بأسوأ نيّة في الدنيا وأجرت عليها رتوشاً.
ولو ثبّتُّ النظر عليها جيّداً ووسّعتها لاستطعت أن أعرف تلاعبها في وجه من أنا به معجبة، وفي نافذة قاعة الاستشارة، وفي لصيقة جسم ذي عضل وعارٍ ما كانت تنتمي إليه، وفي العنق الذي تغيّر لونه بشكل ملحوظ، والمكان الصحيح الذي محته من الرداء الأزرق وأبدلت به صورة أخرى.
لكنّ هناك شيئاً أسوأ من ذلك وغيرَ مفهوم. كيف تحقّقت من اسمه الحقيقي ومهنته؟ هنا مرّة أخرى خليط من ذكائها (لتحقّقها من الاسم) وشرّها (الكتابة أسفل الصورة). ذلك كأنّما تقول لي: «لا أسرارَ لك بالنسبة إليّ. في هذا البيت أنا الوحيدة التي يمكن أن يكون لها أسرار». ولمرّة واحدة، ربّما لن تلفظ حروف R بصوتٍ أخنّ، ومن ثَمّ ما كانت لتجد سبباً لتزعج نفسها في البحث عن الكلمات البديلة.
كلّ شيء فيها كامل، ويزداد كمالاً، كفكرتها أيضاً في ترك الحاسوب مفتوحاً على قسم «الصور أو الألبوم»، عالمةً أنّي لن أقاوم ذات يوم الإغراء بأن أبحث في أغراضها وأتجسّس عليها. ذات يوم... أو ذلك اليوم نفسه. فكيف استطاعت نونا أن تعرف كلّ شيء؟ انتابني الغضب فجأةً وأنا جالسة إزاء الشاشة على كرسيّها، متنسّمة رائحة الأدوية وعطر ماء الكولونيا. فأبغضتها. أبغضت أختي. وأدركت أنّي أبغضتها دائماً، وأني أخجل من وجودها. وفي الوقت ذاته أحسدها، وأنّي أحبّ أنْ أعرف عصابتها وأشاطرها هذه الأسرار التي تأباها عليّ. وأني لا أتحمّل بعدُ أنْ يصدّقها أبواي، وأن يضعا موضع الشكّ كلّ ما أقصّه. لذلك نهضت وضربت الحاسوب بقوائم الكرسيّ حتّى حطّمت الشاشة. وقلبت الدروج. وألقيت بالثياب على الأرض وخرّبت السرير ودعست الملاءات. وفتحت النافذة من جديد وحطّمت الزجاج. وكان الغضب الذي أشعر به كبيراً حتّى لم ألحظ ضوضاء الباب ولا صرير عجلات كرسيّ الجدّة.
«ماذا حدث هنا، يا مخلوقة؟!»، سمعتُ فجأة.
فالتفتّ فزعة ورأيت كريسبي من غير أن تجرؤ على دخول الحجرة والذعرُ على وجهها. لكن الوقت فات لأخترع أعذاراً أو ألقي بالذنب على ناسٍ من كوكب آخر، أو أحمّل المسؤولية أطفالاً موتى.
«لا شيء» -أجبت باكية- «كانت تستحقّ ذلك».
...
الغلاف الخلفي للكتاب
لا تقدّم لنا "كريستينا فرناندث كوباس" بطلاتِها بسهولة، فهي تأخذنا في مسارات مستقيمة للوهلة الأولى، وفي لحظةٍ ما، تقلب كلّ شيء رأساً على عقب، فنكتشف أن شخصياتها تضطرب بين واقعَين، الفاصل بينهما دقيق جداً، هما الواقع الثابت، والواقع المُتخيّل أو الموهوم. يطغى أحدهما على الآخر تارةً، وتحدث مصالحة بينهما تارة أخرى، من غير أن ندري أيّهما الموجود الحقيقي، وأيّهما غير الموجود.
لا تقدّم لنا "كريستينا فرناندث كوباس" بطلاتِها بسهولة، فهي تأخذنا في مسارات مستقيمة للوهلة الأولى، وفي لحظةٍ ما، تقلب كلّ شيء رأساً على عقب
"حجرة نونا" التي حازت جائزة النقّاد في إسبانيا (2015)، والجائزة الوطنية للسرد (2016)، عدسةٌ مكبّرة نرى فيها تعقيدات النفس البشرية والغموض الذي يلفّ حياتنا من دون أن ننجح في ملاحظته وفهمه دائماً، تعيد فيها "كوباس" النظر في الطفولة والنضج والوحدة والأسرة، لتكشف لنا أن لا شيء هو فعلياً كما يبدو، كاتبةً كلَّ ذلك بلغةٍ شفيفة وبأسلوب متفرّد تضفي عليه مسحةً بوليسية، بمهارة وخفّة- الغلاف الخلفي للكتاب"
...
كريستينا فرناندث كوباس: كاتبة إسبانيّة وواحدة من أبرز الأصوات الروائية بعد سقوط ديكتاتورية فرانكو صدر لها "الأرجوحة -1995"، و"الباب نصف المفتوح-2013" تحت الاسم الوهمي فيرناندا كوباس، وغيرها من النوفيلات التي صدرت منذ عام 1990.
علي إبراهيم أشقر: مترجم سوري نقل العديد من الأعمال الأدبية من الإسبانية إلى العربيّة، منها «قلب أبيض جداً » لخابيير مارياس، «لحن ماثوركا على ميتين » لكاميلو خوسيه ثيلا «مع آغاثا في إسطنبول» لكريستينا فرناندث كوباس.
...
جميع الحقوق محفوظة لدار سرد للنشر و دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.
الرواية متوافرة في المكتبات ويمكن الحصول عليها من نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه