شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رواية أحمد محسن

رواية أحمد محسن "السماء ليست معنا"... سانشو بانسا حكواتياً وفيسبوكياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 29 مارس 202211:15 ص

تأتي الحرب إلى الرواية، أم تروح الرواية إلى الحرب، من طرق ومن جهات كثيرة ومختلفة. فإلى تفرُّق الحروب وتنوّعها أصنافاً، تقليدية ونظامية وأهلية وحرب عصابات وطياحة وغوار وحرب شعب وبؤرة إلخ، يتفرّق الرواة على مذاهب ومراتب وأساليب وأهواء تفوق أصناف الحروب كثرة من غير شك. فمن الرواة، والروائيين بالأحرى، مَن يختار مقام الملحمة العالي، ومنهم مَن ييمّم صوب القص "الواقعي" القريب من السرد التاريخي. وفريق ثالث يذهب إلى تدوين اليوميات، ويغلب المشاهدات الجزئية والآنية على المسارح العريضة والعسكر الجرّار. ولا تتورّع فئة رابعة عن رواية الحرب والمحاربين على صورة ساخرة، سوداء أو بألوان متوسّطة القتامة.

ولا يستنفد الترتيب السريع هذا مذاهب رواية الحرب، إنْ كان ثمة شيء تصدُق فيه هذه التسمية. بل إنه يهمل المذهب الأول وهو مزيجها، والتنقل بينها، والتعريج من واحد منها إلى الآخر فالثالث، والعودة منه إلى غيره.

الحرب... المحاربون

وعلى رغم كثرة الحروب وتزاحمها على "بلاد العُرب" وأوطانهم، بين الشام في المشرق وتطوان في المغرب، وتنوّعها وتشابكها، يبدو لي (وقد يكون ظنّي من باب الجهل) أن روايات الحرب وقصصها قليلة. أو هي لم تذُع شهرتها، ولم يكتبها من تُذكر أسماؤهم حين يتناول الكلام الرواية. ويستثني هذا القول السينما والتلفزيون. وهما معرضان قصصيان في المرتبة الأولى. وقد تدلّ كثرة الأشرطة، والمشاهد الحربية في أعمال ليست الحرب موضوعها الأول، على رغبة جمهور عريض في مشاهدة أعمال تعالج الموضوع الطاغي على حياة ملايين الناس في الأوطان العربية. والمشاهدة غير القراءة، والصورة غير اللغة.

والحرب، أو ربما هوامشها وأوقات تعليقها، ومقدّماتها وبعض مخلّفاتها وآثارها، هي موضوع رواية الروائي اللبناني أحمد محسن (المولود في 1984، وللأمر دلالته) "السماء ليست معنا" (دار نوفل، بيروت، 2020). الحرب أو المحاربون. المحاربون أو محاربون في صفوف قوات الإمام "الحجّة" لـ"حزب الله"، من غير ذكر اسمه. محاربون أو شلّة من شبّان "الضاحية" جنوب بيروت، قدِم أهلهم أو أهل أهلهم (هم من الجيل الثالث، على قول أحدهم) إلى العاصمة، أو "نزحوا" إليها، على تعريفهم أطوار سكنهم ومنازلهم المتعاقبة، وأقاموا واستقرّوا فيها بعد مسار متعرّج، من عين الرمّانة إلى بير العبد. ولكنهم ما برحوا يتنقّلون بين مستقرّهم المفترض وبين بلداتهم. وهم، في الحالين، في ضاحيتهم وفي بلداتهم، مقيمون بين أهاليهم وفيهم. نزحوا معاً، ونزلوا، معاً، الأماكن والأحياء التي حلّوها وهاجروا إليها. ويتردّدون، أقارب وأرحاماً وجيراناً، على ما هم في مهجرهم، إلى مواطنهم الأولى.

والمقاتلون، مستقبلاً، حين يبلغون حوالى العشرين، وقبل أن يستووا مقاتلين، كانوا أطفالاً وأولاداً وفتياناً وشبّاناً. وكانوا أبناءً لآباء وأمهات، وإخوة لإخوة وأخوات، وأبناء أخت (على شاكلة الراوي، ناصر، مع خاله، المقاتل فالمهاجر إلى ألمانيا، حيث أخو ناصر، وسام). وكانوا تلامذة. وفي المدرسة درسوا معاً، وتصادقوا وسخر بعضهم من بعض، ومن أساتذتهم ونظّارهم. وتباينت آراؤهم في شعائر المدرسة، مثل قراءة الدعاء والفاتحة والصلاة الجامعة، وفي تأنيب التلميذة التي قدّمت الدعاء على الفاتحة.

وفيها اختلطوا بتلامذة آخرين، من أديان ومناشئ وأذواق وذاكرات مختلفة. واستوقفهم أو علق بذاكرتهم بائع الدكان، مارون. واقتفى بعضهم أثره من الأشرفية، وهو شهد فيها الحصار والقصف اللذين أصلاهما الجيش السوري الأهالي شهرين في 1987، إلى مارسيليا فبرلين. وفي أحياء السكن لعبوا، وتسمّروا أمام شاشات التلفزيون، وانتسبوا إلى فرق كرة القدم، ودخلوا في قبائل النوادي وعشائر نجوم اللاعبين دخول المؤمنين في دينهم وملّتهم. وانتخبوا ممثلين وممثلات "آلهة".

تربية المحارب

وفي أسرهم ومدارسهم وحاراتهم تكالموا وتخاطبوا من طريق الفيسبوك وإنستغرام والمسانجر، وقرأوا قصص الجاسوسية، وتدرّجوا منها إلى شعر نزار قباني، ومن هذا إلى نيتشه، من طريق جبران خليل جبران و"نبيّه"، فإلى الأسماء التي لا يستوي مراهق حزبي لبناني متعلم، وينبغي إضافة: شيعي، "مثقفاً" إذا هو لم يكررها على المسامع: فوكو ودريدا وبورديو وملخّصاتهم السريعة. وعشقوا زميلات وأخوات زميلات، وتخيّلوا في مناماتهم ورأوا في مراقبتهم ابنة العميد العسكري أو صاحبة مدير المصرف أو التلميذات الدالفات إلى حمّام المدرسة، في أشباه وأوضاع وزينات وثياب داخلية يمر بها الراوي مرور الكرام.

"المقاتلون، مستقبلاً، حين يبلغون حوالى العشرين، وقبل أن يستووا مقاتلين، كانوا أطفالاً وأولاداً وفتياناً وشبّاناً. وكانوا أبناءً لآباء وأمهات، وإخوة لإخوة وأخوات... وكانوا تلامذة. وفي المدرسة درسوا معاً، وتصادقوا وسخر بعضهم من بعض، ومن أساتذتهم ونظّارهم"

ويأخذ أحمد محسن من كل أبواب هذه اللائحة الطويلة وغير المغلقة بطرف أو بأطراف. فيكتب في هذا الضوء وموشوره العريض، حكاية أو سيرة تربوية تتعقّب مراحل نشأة "البطل" إلى حين استوائه ذاتاً- على قول غربي يشترك النحو والمنطق والحدس والاختبار اليومي في تعريفه. ويستوي في الأثناء اسماً وأدواراً وطبعاً، أو توليفة طبائع، وسيرة أو توليفة سير. والذات، في هذه الحال، هي المقاتل "الإسلامي". وتتستّر الصفة والموصوف، على ما تخبر الرواية من طرف ليس موارباً كفاية ولا على قدر ما يشتهي القارئ (كاتب هذه العُجالة)، تتستّر على ما تسعى في حجبه: الابن والجار والقارئ ولاعب الكرة والراغب... وما يدخله الروائي والحكواتي المحدِّث (من الحداثة) في حكاياته وسيره.

فيروي على نحو متعرّج- وعلى ما كان ليقول لو استُشير في الأمر: "سلالومي"، من سلالوم، في مصطلح سباق التزلُّج المتعرّج على الثلج- سير حفنة من الفتيان والشبّان: الراوي ناصر ومحمود وجواد وجمال وفادي الزغلول (المعروف بالبوبكات، كناية عن الجرافة و"أسنانها"). وهم كلهم ذكور. وتلوح البنات على خجل من بعيد. ويدور في فلك هؤلاء، ويسعى في ظلالهم، إخوة وأصحاب. ومعهم آباؤهم وأمهاتهم، وبعض أقاربهم، وبعض من يقوم عَلَماً على اجتماعهم: السيد هاشم، إمام المسجد، أو الحاج، قائد المقاتلين، أو مارون الذي مر تعريفه.

وتربية صاحب السيرة تقتصر، في "السماء ليست معنا"، على رسمٍ زمني يجمع، والأصح القول، يؤطّر في إطار متّصل حوادث يعلّقها الراوي تعليقاً كيفياً على "حبل" الاسم الواحد. ويختمها بالتحاق صاحب السيرة، أو الاسم أو الحبل، بالحرب أو بناحية من مسرحها المتناثر. فيروح معظم "الأبطال"، ومن هم أضعف بطولة ويقتلون في قصف عشوائي أو في سيارة متفجّرة أو في "اشتراك" صحّي، من واقعة ضئيلة إلى واقعة ضئيلة أخرى. ويفضي الرواح إلى "بطولة" من غير مقدّمات، أو من مقدّمات مفتعلة، لا شك في قصد الكاتب افتعالها. فالقص يربط ما لا رابط له ويحشر في باب واحد، أو يُسلك في سلك مشترك، ما لا يتقاسم مع غيره شيئاً.

الموسوعة الصينية

يقول الراوي في تعليله حمل أصحابه على جماعة، إنهم تقاسموا إلى الصف الثانوي الأخير ميلاً إلى النّكات الذكوريّة، والدرّاجات النارية، وحب البنات، ولعب الليخا أو الطرنيب (الأدنى رتبة)، والبلياردو، وبهَرَهم زين الدين زيدان وميسّي ورونالدو وفي أحيان بيرهوف وتشافي، وسَحَرَهم فضل شاكر، وأدمنوا دالية الروشة (حيث المطل على البحر و"الحانات" المرتجلة والفقيرة) و"الستولشنايا بلا ليمون" (أرخص صنوف الفودكا)، إلى شغفهم بـ"فيلم الواحدة فجراً في القناة الروسية".

"يقول الراوي في تعليله حمل أصحابه على جماعة، إنهم تقاسموا إلى الصف الثانوي الأخير ميلاً إلى النّكات الذكوريّة، والدرّاجات النارية، وحب البنات، ولعب الليخا أو الطرنيب (الأدنى رتبة)، والبلياردو، وبهَرَهم زين الدين زيدان وميسّي ورونالدو وفي أحيان بيرهوف وتشافي"

ويعاقب الإحصاء "الصيني" هذا- على شاكلة موسوعة حيوانات نسبها بورخيس إلى مؤلف صيني وزعم أنها صنّفت معاً: باب الحيوانات التي يملكها الإمبراطور، والمحنّطة، والمدجّنة، والخنازير الرضيعة... وهي لا مشترك بينها حتى الحيوانية- بين أبواب أو أحوال لا يُعقل الانتقال من باب منها، أو من حال، إلى الأبواب أو الأحوال الأخرى. ويتعلق معظمها بذائقة الفرد الخاصة، و"السرّية" في بعض الأحوال. فتتناثر الأشياء والسّمات والحوادث، ويتناثر الناس على صفحة القص أو السرد، وقد أخلاها الراوي الكاتب من الجاذبية، ومن الأثقال النوعيّة التي ترتّب الأجسام على مراتب متفاوتة وناظمة. فتعوم في وسط عُدِم المبدأ الذي يضبط حركتها وسكونها ومواضعها.

جواد

وتتوسل الرواية بالإحصاء على المثال الموسوعي البورخيسي، إن شك القارئ في النّسب الصيني، إلى تصديع السيرة ووحدتها "البطولية" أو الشخصية الروائية المفترضة أو المزعومة. فجواد، وهو أحد أفراد أو أعضاء الشلة التي تقدّم تعريف لحمتها، ولد من أم تعمل مربّية وخادمة في حضانة أطفال محلية، ومن والد سائق تاكسي. ونشأ في حي تختنق منازله بعضها ببعض، وفُرشت طرقاته إلى عتبات البيوت بالإسفلت، وغلب الإسفلت على مباني الحي وجحظَ، وتصدّر صورة الحي الذي قنع بمكان متأخر وخلفي منها. ويملأ الحي زعيق السيارات والموتوسيكلات، وجلبة الأراكيل وضحك المارة وقهقهاتهم المدوّية.

وجواد الذي عاد من سوريا في نعش توسّده "نائماً، مبتسماً، خاسراً" وبطلاً، وقتله قنّاص غيلةً وهو يحرس طرف المخيم، عرفه صحبه ولداً بارعاً في لعب الدّحل أو الكلّة. وملعبه الأثير في ناحية من المصلّى، تحت شجرة بلح بجوار السيارات، وفي ظل مروحتي المصلّى. وهما "من تلك المراوح البيضاء التي تدور بلؤم وتقطع أوصال الهواء بدلاً من توزيعه. (و) ما زالت هذه المراوح المتوحّشة متوفّرة حتى اليوم في الملاحم فوق رؤوس القصّابين وفي مكاتب أقبية استخدمها ضباط الاستخبارات السوريون خلال احتلال لبنان".

وتركت الأم جواد يلعب بجوار مصلّى السيد هاشم. والمصلّى يدين بمدفأته الشتوية "الضخمة" إلى أخي السيد. وفضّلت أصحابه هناك على آخرين محتملين "يصبغون شعورهم بالأوكسجين ويحترفون التصفير بإصبعين وثلاث". وكان يعود جواد من "معارك الكرات الزجاجية" بغنيمة يُحسد عليها، ويجزيه والده عليها ضرباً وركلاً. ومشى جواد، والراوي ومحمود والبوبكات وغيرهم، في جنازة ابن السيد هاشم، سَمِيّ جواد، العائد من سوريا "شهيداً"، وقد استبدل باسمه الثلاثي لقباً جامعاً، "كرّار"، يُنسب التلقُّب به إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.

وعاد جواد الثاني، شأن جواد الأول، شهيداً وبطلاً، وصورة "هائلة" على بوابة بيت أهله، واستقبلته أمّه بقلب "تفتّت في عينيها الريفيّتين"، وحزن "تصرف (فيه) عمرها"، ووقف أبوه يتلقّى العزاء وهو يحسب أن المعزّين يخطئون من ينبغي تقديم العزاء إليه، فابنه هو حيٌّ يُرزق وربما عاد إلى لعب الكلّة في الفسحة أمام المصلّى، على بعد مترين. وقرأ أصحابه الفاتحة على روحه الطاهرة، من غير أن يمسحوا الوجه باليد. وفي أثناء التشييع قتل رصاص الزغلول هيام، المقيمة في الطبقة التاسعة من مبنى بجوار المصلّى. هيام، أم حسان، مصفّفة شعر، وطليقة زوج "عنيف"، حمت حرمات المنازل وراء الجدران، عنفه...

الخروج

على هذه الشاكلة، أو قريباً منها، وعلى هذه الكتابة على الأخص، تتوالى حكايات "السماء ليست معنا". وهي لا تتوالى متّصلة. فسيرة جواد التي سبقت للتو رُوِيت في ثنايا سِيَر أخرى، وأفضت إلى سِيَر آخرين، على شاكلة سيرة هيام، أم حسان، وزوجها. وهذا القصّ العنقودي- قصّ مفترقات الطرق التي يقف عليها قطّاعها، ويبتزّون المسافرين ويحملونهم على رواية أخبارهم لقاء الإقلاع عن قتلهم- يصدع الشخصيات الروائية التقليدية، وينتزع منها وحدتها النفسانية والطبعية والدرامية.

ويشبه هذا شبهاً قوياً الدور الذي يضطلع به سانشو بانسا، خادم "الفارس" دون كيخوتي في الرواية الحديثة الأمّ، على زعم جورج لوكاش وغيره. فحيث يحسب الفارس المتحدّر من الكتب والروايات البطولية أن "خروجه" على "الظَّلَمَة"، واللفظتان من مصطلح الشيعة الإمامية "الكلاسيكية" إذا جازت العبارة، إنما يرث تقليداً راسخاً، متصلاً ومجتمعاً أو متماسكاً، البطولة علامته ونجمة صباحه، يرمي سانشو بانسا، اللصيق بالأجسام والحاجات، وبالوقت الذي يمضي ويفوت، ويؤرّخ الفوات (موت الفروسية وسلكها)- عالماً مبعثراً، مقلوب العلامات والدلالات، يأهله النثر العادي وليس الشعر.

ولكن راوي "السماء ليست معنا"، على خلاف سانشو بانسا، ودون كيخوتي طبعاً، لا يستشرف معنىً ثابتاً، نثرياً أو بطولياً، وراء صفحة الأشياء. وهو لا يصوّب المعاني المشتبهة، إلا في مواضع خطابية وقليلة في الكتاب، وتبدو مقحمة عليه. فليس "وراء" أشيائه شيء أو "ما وراء". والمعاني تأتي من الجوار، وعصيانه الإحصاء والضبط، وتنعقد من السياق، على رغم عسر سلكه في خيط وحلقات. فلا يضرّ أن السماء ليست معنا، فهي ليست إلا ما قد يُرى من كوّة قبّة مهدّمة. وهذا كثير وجميل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image