شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فرضية

فرضية "دولة البصرة الخليجية" القادمة بعد "خليجي 25"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الخميس 19 يناير 202312:32 م

يتبارى أهل البصرة في فتح قلوبهم للخليجيين القادمين لحضور ومتابعة بطولة كأس الخليج 25، ويزايدون عليهم في البذخ والاستضافة، والرسالة: "مرحباً بكم وليس بنقودكم".

في السبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، كان الخليجيون يفدون إلى البصرة طلباً للممنوع اجتماعياً في بلدانهم، خاصةً الكحول والحياة الليلية. تغير الحال في البصرة كثيراً، ومرت أنماط مغايرة وتحفّظ أهلها أو تديّنوا قليلاً.

لم تعد البصرة متقدمةً اليوم كما كان حالها سابقاً، ولربما يذهب أهلها إلى مدن الخليج لطلب تلك "الممنوعات اجتماعياً"، وتالياً صار يصحّ السؤال: ما الذي يُفترض أن يجذب الخليجيين إلى البصرة بعد انتهاء كأس الخليج، خاصةً أن مدن الخليج أكثر انفتاحاً منها الآن؟ ربما يكون الرهان على الذاكرة المتوارثة عن صورة البصرة الأيقونية لدى الأجيال الخليجية السابقة، والتي تناقلها الخلف عن السلف، أو ربما عودة الوشائج العائلية والقبلية المنقطعة منذ منتصف التسعينيات.

أيضاً، ما الذي يخطط له أهالي البصرة في الوعي الجمعي ولا يُعلن؟ ماذا بعد الـ"هلا" و"حبوبي" و"عيوني" وكلمات الترحيب الصادقة؟ هل هو الشوق والذاكرة أم هي محاولة الربط الجمعي وبَوصَلَة الوعي ليشير إلى "هناك"، حيث الرفاهية والسلام والتناغم بين أجزاء الجسد الخليجي، والتي حُرمت منها البصرة من خلال ربطها بالعراق المشتعل وغير المستقر منذ يوم التأسيس.

لو فرضنا أن دول الخليج سلسلة متماسكة، فإن آخرها الكويت التي تشكل رابطاً مع البصرة، أُريدَ له طويلاً أن ينقطع، ونجح الكيان العراقي في ذلك منذ الملك الشاب غازي الأول، حتى صدام حسين، مروراً بالزعيم عبد الكريم قاسم، الذي صادر ممتلكات أهل الكويت في البصرة بعد أن فشل في اجتياحها أو تراجع مرغماً.

هل يمكن لحدث كروي رياضي كـ"بطولة كأس الخليج" بنسختها الـ25 في البصرة، أن تكون حافزاً لبدء ماراثون إعادة تثقيف أبناء البصرة أو بناء المواطنة فيها على أساس أنها "مدينة-دولة"؟

تحمل عربات الشرطة الحديثة التي تحافظ على أمن الحدث الرياضي، عبارةً ربما لم ينتبه إليها كثر، ولكن لها دلالات كثيرة: "شرطة حكومة البصرة"، فيما يُصر العراق الحكومي على التذكير بعبارة "حكومة البصرة المحلية"، وربما يحتاج الأمر إلى قرن آخر من الزمن أو كثير من السنوات لكي تنبثق حكومة البصرة هذه بلا تذييلها بوصمة "المحلية"، فهل يمكن لحدث كروي رياضي كـ"بطولة كأس الخليج" بنسختها الـ25 في البصرة، أن تكون حافزاً لبدء ماراثون إعادة تثقيف أبناء البصرة أو بناء المواطنة فيها على أساس أنها "مدينة-دولة"؟

كان يمكن أن تُمحى كلمة "محلية" منذ حزيران/ يونيو 1920، حين تكتل تجار وكبار الملاكين والمتعلمين في البصرة وقدّموا وثيقةً واضحةً وقانونيةً تصف العلاقة بين الكيان العراقي الملكي قيد التشكيل بمركزية ولاية بغداد، وبين ولاية البصرة ذات الهوِية الخليجية والأكثر فرصاً وتنظيماً وغنىً بحكم موانئها وعقول أبنائها ذوات الخبرة الاقتصادية الدولية المقتدرة والمستقلة اقتصادياً عن أي مركز عثماني أو ملكي عراقي.

أُجهِض الحلم مبكراً، كما أجهض حلم الدولة المتاخمة للبصرة في الأحواز، وخُطف زعيمها الشيخ خزعل الكعبي، ثم تمت تصفيته في طهران. كان حينها مرشحاً لتولّي عرش العراق كذلك.

ومن اللافت للنظر، الطريقة المدنية التي سلكتها البصرة إلى نيل الاستقلال حينها، في زمن كانت غالبية الدول العربية فيه غير موجودة على الخريطة السياسية الحديثة. أقتبس هنا من نص الديباجة التي قُدّمت عام 1921 للمنتدب البريطاني آنذاك، ويمكن تحليل مدلولاتها في التفاوض والحلم والسيادة ككيان بصري خارج الكيان العراقي، وموازٍ له ولكن ليس بالضد: "لا يرغب أهالي البصرة في شيء غير الخير لأهالي العراق، ولا شيء أحب إليهم من أن يسيروا وإياهم جنباً إلى جنب على أسلوب تعود منه الفائدة على الفريقين وعلى العالم عموماً، ولكنهم يعتقدون بأنه لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة، إلا بمنح البصرة استقلالها". فكّروا هكذا قبل قرن من الزمن، فتمت معاقبتهم بالتهميش والتغيير الديموغرافي البطيء.

خسرت البصرة الكثير وتخسر لكونها جزءاً من العراق. المفارقة أن البصرة صارت كالثقب الأسود في الفضاء، تُجهَّز الحروب من نفطها وموانئها فيدّب الموت في أرضها

يبقى السؤال يتجدد: ماذا لو تقف القوى العظمى وقتها والآن مع هذه الفكرة المشروعة؟

في ميزان المصلحة الخالصة، خسرت البصرة الكثير وتخسر لكونها جزءاً من العراق. المفارقة أن البصرة صارت كالثقب الأسود في الفضاء، تُجهَّز الحروب من نفطها وموانئها فيدّب الموت في أرضها، ويتعدى ذلك إلى التلوث الإشعاعي الذي يُدخل السرطان إليها من الباب الواسع، فكل عائلة بصرية لديها على الأقل ثلاث حالات سرطان، بالإضافة إلى فقدان الأراضي الخصبة والمياه والثروات الغازية التي تُبدَّد دخاناً في الجو، كما خسرت البصرة ما يقارب عشرة ملايين نخلة في الحروب والملوحة والتجريف.

وفيما كان الحكام العثمانيون والملكيون والجمهوريون لا يقبلون مناقشة الموضوع حتى، كانت البصرة على موعد مع موسم الخسارات. ففي 6 آذار/ مارس 1975 في الجزائر، وبتنسيق من بومدين، قررت بغداد ممثلةً بالنائب صدام حسين التكريتي، التخلي عن نصف شاطئ العرب لصالح العدو الأزلي إيران الشاهنشاهية هذه المرة.

لم يتوقف الأمر هناك، فالنائب هذا صار رئيساً وجاء ليصحح فعلته تلك بثمن أقسى وأشد تكلفةً؛ حرب دموية لمدة ثماني سنوات حصدت مليوني قتيل من الطرفين، ولكن انتهت وشاطئ العرب نصفه ما زال لإيران وخضع العراق للأمر الواقع وعاد إلى اتفاقية الجزائر.

لم تنعم البصرة كفوهة مدفع باستراحة محارب إلا قليلاً، وعادت وارتدت خوذتها مجبرةً وزُجّت في جريمة أشد مرارةً، وهي سرقة حلم الكويت المجاور الذي نجا من فك الكيان العراقي مراراً. ففي 2 آب/ أغسطس 1990، صحت الكويت من النوم وهي محافظة عراقية، ومُحي بذلك تاريخها السياسي ككيان مستقل منذ اتفاقية 23 كانون الثاني/ يناير 1899، بين الإمبراطورية البريطانية وشيخ الكويت حينها مبارك آل صباح.

غابت البصرة في الاحتفال الباذخ لصالح قيمة العراق الحكومي، وذاكرته الرافدية، ولصالح بغداد "المركز" الذي يهيمن ويمحو الخصوصية البصراوية الخليجية... فإلى متى تبقى كذلك؟

وما بُني على مصلحة يعود بالمصلحة. حُشدت الجيوش من كل أرض لتهزم الكيان العراقي وتوقف نموه لعقود قادمة، ولإعادة الكويت إلى آل صباح كهدف مباشر طبعاً، فسُحقت البصرة كالعادة ولوثت باليورانيوم المشع، وعدا عن خسارتها المزيد والمزيد من ترابها وحدودها المائية لصالح الكويت، حتى شاركتها الأخيرة في خورها الأصيل التاريخي، خور عبد الله.

هل يمكن تفسير انتفاضة آذار/ مارس 1991، التي انطلقت في البصرة كرد فعل على الخيبة والهزيمة والخراب العراقي الذي قادته بغداد؟ استحقت البصرة بعدها عقوبات حكوميةً، فغرقت في حمامات الدم نتيجة الإعدامات العشوائية في الشوارع والمزيد من الكراهيَة والتهميش وتقنين صفة "المحافظة السوداء" في السجلات الرسمية. صار أهلها كلهم خونةً ولا يحق لهم الانتقال والسكن في العاصمة بغداد وما يليها من المدن "البيضاء".

بقي أن أشير إلى بيع حقوق تسمية "خليجي البصرة 25"، لشركة اتصالات محلية لتنتشر الإعلانات بمسمى استهجنه "البصراوية": "خليجي زين 25"، بينما غابت البصرة عن قيمة فعاليات الاحتفال كلياً برغم أن الحدث خليجي بصراوي، والمكان ملعب البصرة الدولي والتمويل قطعاً من نفط البصرة وواردات موانئها.

غابت البصرة في الاحتفال الباذخ لصالح قيمة العراق الحكومي، وذاكرته الرافدية البعيدة المفترضة، ولصالح بغداد "المركز" الذي يهيمن ويمحو الخصوصية البصراوية الخليجية منذ ما يزيد على قرن من الزمان. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image