وقف أهالي البصرة بجانب الطريق، يشاهدون الباص الخشبي الذي يعبر مدينتهم حاملاً أعلام دول الخليج. يعودون بذاكرتهم إلى ماضٍ بعيد، حين كانت المدينة تشتهر بهذا النوع من وسائل النقل. بعضهم راح يروي لأولاده ما يختزن من ذكريات تعود إلى خمسينيات القرن الماضي وستينياته.
تقول سعاد مزاحم (69 عاماً)، وهي مواطنة من البصرة عاشت حياتها فيها: "عندما رأيت الباص، عدت إلى الزمن الجميل، إلى حين كان أبي يأخذني به لزيارة أقاربنا، واليوم أرى الجميع يحتفلون به في الشارع، ولا أتوقع أن هذا الجيل يفهم كيف كان هذا الباص دليلاً على بساطتنا وجمال حياتنا بالرغم من قلة المواصلات وقتذاك وعدم وجود تطور".
"نحن العراقيين صنعنا من اللا شيء شيئاً. ففي ذلك اليوم صنعنا الباص الخشبي واليوم أعدنا تصنيعه ليكون أيقونة ترحيب بجميع الدول المشاركة في بطولة الخليج"، تضيف سعاد.
وباص الخليج، هو مبادرة أعدّ لها المخرج العراقي عصام جعفر، ابن مدينة البصرة، وبدأ قبل شهر تقريباً جولته على مدن العراق كافة في "رسالة محبة وسلام"، أراد البصريون أن يشاركوها مع كل العراقيين ومع مواطني دول الخليج.
وصُمّم الباص بجهود فردية تطوعية، ويُعدّ أيقونةً بصريةً خالصةً وباقيةً في الذاكرة البصرية والخليجية بحميمية تامّة، تُتوّج مقدمته نسخة طبق الأصل لكأس الخليج، عمل عليها النحات العراقي المعروف أحمد البحراني، وتمتد نقوش حاكتها نساء من مدينة السماوة إلى مقاعده، وترتفع على سطحه أعلام دول الخليج، وفي داخله هدايا وملابس رياضية وكتيبات تعريفية بالبطولة وبرنامجها، وبالباص وفكرته وما يحمله من ذكريات للعراقيين، في محاولة لترسيخ دور العراق "الثقافي والرياضي"، كما يقول من عمل على المبادرة.
باص الخليج، هو مبادرة أعدّ لها المخرج العراقي عصام جعفر، وبدأ قبل شهر تقريباً جولته على مدن العراق
الاستضافة
قبل 8 سنوات، حاول العراق استضافة بطولة كأس الخليج لكرة القدم، لكنه فشل في محاولته نتيجة الأوضاع الأمنية غير المستقرة حينها، وعدم وجود التجهيزات وضعف البنى التحتية اللازمة لاستضافة البطولة.
اليوم عاد العراق ليحاول، ونجح هذه المرّة في الحصول على حق استضافة بطولة خليجي 25، بعد أن تقدّم بطلب الاستضافة، وخصص ثلاثة ملاعب للبطولة التي ينتظرها العراقيون منذ زمن طويل، فيما كانت هناك نية من الاتحاد الخليجي لنقل البطولة إلى قطر في حال عدم جاهزية العراق.
واعتمد اتحاد كأس الخليج ملعب البصرة الدولي الذي يتسع لـ65 ألف متفرج، وملعب الميناء الذي يتسع لـ30 ألف متفرج، لإقامة مباريات البطولة، وتستعد اليوم محافظة البصرة العراقية والجماهير الكروية لاستقبال البطولة كأس الخليج في 6 كانون الثاني/ يناير المقبل، وتُشارك فيها كل من الكويت، والسعودية، والبحرين، وقطر، والإمارات، وعمان، واليمن.
إرث وحضارة
عُرفت الباصات الخشبية في خمسينيات القرن الماضي، حين كانت تجوب شوارع المناطق العراقية وأزقتها، وخاصةً مناطق جنوب العراق، ومنها البصرة، وكان يُستخدم لنقل البضائع، ومع تطور الحياة، أصبحت هناك حاجة إلى التنقل، فتمت إعادة تصميمه على شكل وسيلة نقل خاصة للركاب على يد أمهر الحرفيين في البلاد وقتها.
وسُمّي بالباص الخشبي لأن أبوابه ومقاعده مصنوعة من الخشب، وبدل الطلاء، كان حرفيوه يكسونه بالخشب، واستُثمر سطحه لنقل المحاصيل الزراعية والأحمال، فكان وسيلة النقل الأولى بل المفضلة لدى العراقيين بسبب تصميمه الفريد، وكان بعض الركاب يفضّلون الجلوس في أعلاه للشعور بنسمة الهواء البارد في فصل الصيف الحار.
أنتم اليوم لديكم تطبيقات التاكسي والمواصلات العامة وتستطيعون الوصول إلى أي مكان تريدون بسهولة، أما نحن فكنا فقط نمتلك باصاً وهو سيارة تحميل تم تطويرها لتصبح وسيلة نقل
يقول محمد حميد (64 عاماً)، من البصرة، لرصيف22: "كنت أعمل في وزارة التجارة في البصرة، وكان منزل أهلي في قضاء الفاو، فكان الباص الخشبي الوسيلة الوحيدة التي يتنقل بها الناس من المدينة إلى الأقضية والنواحي، لأنها السيارة الوحيدة التي تستوعب عدداً كبيراً من الركاب، فكانوا يركبون فيها في كل مكان، في أعلاها وداخلها ولم يكن مستغرباً إذا وجدنا الباص محملاً بالبضائع، وكان من الطبيعي أن نركب مع البضائع".
ويضيف: "الزمن القديم يختلف عن الزمن هذا. أنتم اليوم لديكم تطبيقات التاكسي والمواصلات العامة وتستطيعون الوصول إلى أي مكان تريدون بسهولة، أما نحن فكنا فقط نمتلك باصاً وهو سيارة تحميل قام بتطويرها النجارون لتصبح وسيلة نقل للمسافرين".
يروي الرجل الستيني: "كثيرة هي أنواع السيارات التي كان يطوّرها النجارون، وأبرزها ماركة فولفو (Volvo) السويدية وشفروليه (Chevrolet) الأمريكية، بسبب قوتهما وتحملهما، وفي البصرة كان يتملك السيارات الخشبية كثر من الناس في قضاء أبو الخصيب (جنوب البصرة) سابقاً، كونهم الأكثر احتياجاً إليها في نقل المحاصيل الزراعية، وكانت عشرات الحافلات التي تُصنع أطرافها العلوية من الخشب تجوب شوارع البصرة قبل أن تغصّ بمختلف موديلات السيارات القادمة من كردستان العراق وإيران".
آخر الصنّاع
اشتهرت عائلة الشواف في البصرة بهذه الصنعة، إذ كان أبناؤها يمتلكون معملاً لصناعة الهياكل الخشبية، ولكنه أُقفل مع مرور السنوات ودخول السيارات الحديثة إلى العراق، وكانوا يضعون لمساتهم في كل سيارة على قطعة معدنية داخل السيارة نُقشت عليها عبارة "تم صنعها من قبل عبد الوهاب الشواف وإخوانه"، وكانت محافظة النجف تصنع سيارةً خشبيةً، لكنها أكبر ويُطلَق عليها "دك النجف"، وكانت تُستخدم للنقل بين المحافظات القريبة وفي السنوات القريبة واستُخدمت لنقل المواشي من مكان إلى آخر.
هو ليس مجرد باص بل هو جزء من حضارة البصرة، وأنا سعيد كوني آخر سائقي الباص الخشبي وسأكون في البطولة حتى أتحدث عن تاريخ الباص لكل العالم العربي، فماذا نعرف عنه؟
ويُعدّ جاسم الأسمر من البصرة، آخر صانعي الباص وسائقيه، وهو من قام بتصنيع "باص الخليج" وتحضيره. يقول لرصيف22: "صناعة الباص الخشبي إرث توارثناه عن أجدادنا وآبائنا، وكنا نمتلك ورشةً خاصةً لصناعة جسد الباص (الغطاء الخارجي)، لكنها اليوم تحوّلت إلى ورشة للسيارات الحديثة لأن الباص تلاشى يوماً بعد يوم، وآخر باص عملت عليه هو سيارة شفروليه موديل 1958".
ويضيف: "مع بداية بطولة الخليج سيكون عمره 65 عاماً، واستخدمت فيه الخشب القديم الخاص به، في إعادة ترميمه، وعملت واستغرقت في إعادة ترميمه عامين، لأنه ليس مجرد باص بل هو جزء من حضارة البصرة، وأنا سعيد كوني آخر سائقي الباص الخشبي وسأكون في البطولة حتى أتحدث عن تاريخ الباص لكل العالم العربي".
يفول الشاب أحمد (33 عاماً)، وهو يُشاهد الباص في أرجاء البصرة، قبيل انطلاقه إلى بقية المحافظات: "في قطر هناك تميمة (شعار كأس العالم)، وفي البصرة يوجد السندباد (شعار كأس الخليج)، وفي قطر استُخدمت الجمال في الافتتاح ونحن استخدمنا الباص الخشبي القديم الذي زار السعودية والكويت بحسب ما قال لنا آباؤنا، وهذا الباص اليوم يعود بعد كل الذي عشناه من حرب وعدم استقرار أمني، ليقول للعالم العربي إن العراق جميل ورمز للحب والسلام والأمان".
"خليجنا واحد وفراقنا معه كان بسبب ما واجهه العراق في الفترة الأخيرة من انعدام الأمان والاستقرار، وبطولة الخليج التي ستقام هنا ستجمعنا من جديد مع أهلنا في جميع الدول الخليجية"، يقول توفيق جمال (28 عاماً) من البصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون