شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ظِلّ

ظِلّ "الحرس الثوري" القاتم على إيران والشرق الأوسط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تقود أحكام الإعدام كلها، تلك التي طاولت المتظاهرين وصدرت ونُفّذت على وجه السرعة ويتهدّد صدورها لاحقاً العشرات، وتلك التي قتلت بعض أعيان النظام الخميني والأمني السابقين (أي علي رضا أكبري)، تقود كلها إلى الحرس الثوري. فالمتظاهرون دينوا ويدانون في محاكمات صورية تفتقر إلى "الشكليات" القضائية الجوهرية.

وأكبري كان مستشاراً للأمين العام الحالي للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني، عندما كان وزيراً للدفاع (1997- 2005) في حكومتي الرئيس السابق محمد خاتمي، وأعدم غداة 3 أعوام على اعتقاله، بتهمة "الإفساد في الأرض، والمسّ بالأمن الداخلي والخارجي للبلاد عبر نقل معلومات استخبارية" إلى بريطانيا.

وفي أثناء الإعدامات، والإلماح إلى علاقة أكبري بشمخاني وحملها على نذير بـ"تطهير" الأخير إنْ لم يكن على إيذان صريح بعزله أو قتله، عيّن علي خامنئي المرشد وقائد "الحرس" ورئيس القضاء الفعلي وشرطي "الجمهورية" الأول، قائداً جديداً للشرطة، خلفاً للعميد حسين أشتري، هو العميد أحمد رادان. ويشترك العميدان أشتري ورادان في أمرين: ولادتهما في العقد السابع من القرن الماضي، وانخراطهما في "الحرس" في سنّ مبكرة، قبل بلوغهما العشرين عاماً، وتدرّجهما في مراتبه، وانتقالهما من بعد إلى أجسام النظام الأمنية والشرطية والعسكرية والإدارية القريبة. وهي حال أكبري.

ويذهب ستيفان أ. ديدوانيون، مدير البحوث أو الدراسات الفرنسي في المركز الوطني للبحوث العلمية، إلى أن كتلة كبار الضباط من أمثال المذكورين بلغ عددهم، في أواسط عقد 2010، نحو 2500 ضابط. وجمع بينهم انخراطهم المبكر في القتال الداخلي وفي حرب العراق وفرقتهم منابت محلية وأهلية مشتركة وشديدة القرب ("حرس ثورة إيران الإسلامية"، دار المركز الوطني للبحوث العلمية، 2022، باريس).

"جماعة 81"

ويقود تعقّب سيرهم، وهي تُنشر إما إبان مقتلهم وإما في مناسبة تعيينهم في منصب جديد وترقيتهم، أو انتقالهم من منصب إلى منصب أو إقالتهم، إلى النواة الكبيرة التي ولدتها الحرب القاسية، ووجهاها الداخلي الأهلي والخارجي، ووُلد النظام الخميني "الجمهوري الإسلامي" منها. وتعرف هذه النواة أو الكتلة، في إيران، بـ"جماعة 81 (19)"، رغم أن نشأتها الأولى فعلاً تعود إلى 1979، في الوقت الذي انقضى بين نزول طائرة روح الله خميني بطهران في الشطر الأول من شباط/ فبراير، وبين استيلاء أنصاره المقرّبين على السلطة بعد تسعة أشهر (مع اقتحام السفارة الأميركية).

وينسبها اسمها، وحالها، إلى الظرف الذي نشأت فيه وعليه، فهي لم تكن في أصل الحركة والثورة الخمينيّتين، لا سناً ولا إعداداً ولا أصولاً اجتماعية. فمعظم الفتيان الذين رفدوها ما كانوا بلغوا العشرين يومها، وولدوا، على ما يحصي س. ديدوانيون، بين 1957 و1964. والحدّان الزمنيّان يضمّان 160 ضابطاً من الكتلة أو الجماعة. ويقتضي ضم 15 ضابطاً إلى الإحصاء توسيع المروحة إلى 1952 و1964. وعلى هذا، كان هؤلاء رافداً غريباً عن الرافد الخميني الذي انتخبه الرجل من أوساط الملالي وعلماء الحوزات المتديّنين بدين إمامي يخالف في كثير من الأفكار والشعائر دين المعمّمين المحترفين.

و"جماعة 81" قرأ معظمهم ماو تسي تونغ الصيني وإرنستو "شي" غيفارا الأرجنتيني- الكوبي، بعد قراءتهم القرآن ونهج البلاغة، في حلقات إعداد سعت في تغذية الأخلاقيات والعبادات والفلسفة الاجتماعية، وتردّد إليها أوائل ضباط "الفيلق"، على ما يُسمّى "الحرس" على مثال روماني وتاريخي، من أمثال محسن رضائي، عضو جماعة "المنصورون" في خوزستان.

وقرأوا على شريعتي (1933-1977)، "العرفاني"، وصاحب دعوة مزجت رسوم التشيُّع بمسيحية اجتماعية شهدت في ستينيات القرن الماضي أوج تأثيرها الأوروبي. وتحفّظ نشدان مجتمع متطهّر من الفساد عن الديموقراطية. وسوّغ تحفّظه بضعفها وتقصيرها عن حماية إيران من السيطرة الأجنبية.

ويتحدّر هؤلاء الشبان، اجتماعاً، من البازار والأسواق التقليدية والمحلية القديمة والمحافظة، في المدن وفي بلدات الضواحي على الخصوص. وثقافة أهل البازار تقتفي تقاليد فروسية عريقة، لعل آداب الفتوّة الإسلامية من أصدائها إنْ لم تكن من ولائدها. ويسمّيها الإيرانيون، أو كتلتهم الراجحة، "الجافاذوردي". وتفترض، في رأس ما تفترضه وتلزم به، الإيثار ولحمة الجماعة المقاتلة وتماسكها وتقديمها الكل والجميع على الجزء والواحد.

السرّية

وتعهّدت نواة الضباط الأوائل هذه التقاليد، وجددت معانيها ومعالمها في امتحان العمل السرّي الذي لم تؤدِّ السيطرة على السلطة والشراكة فيها إلى تركه والتخلي عنه، بل قوّت التمسك به. وترتبت غلبة السرّية على علاقات "جماعة 81"، وعلى سياساتهم السياسية والعسكرية والتنظيمية الداخلية الأهلية ثم الخارجية التي خاضوها.

فهم شبّوا وترعرعوا في أحضان حروب تصفية وتطهير وظِل خاضها روح الله خميني، ومن بعده علي خامنئي إلى اليوم، على كتل أهلية لا تنفك تتناسل وتتجدّد منذ منازعة "مجاهدين خلق" و"فدائيي الشعب" وحزب "تودة" الشيوعي و"ليبراليي" الأحزاب الوطنية، وأهل الأقليات، إلى حركة "الحياة، المرأة، الحرية"، وبينها حركة 1999 الطلابية، والحركة الخضراء في 2009، وسلسلة الحراكات المتعاقبة في 2014، 2017- 2018، 2019...

تعتبر الخمينية أن الدولة معيار غربي، وغير إسلامي وغير إمامي، ومميت ومدمّر، وبالتالي فإن الحرب الأهلية العامة ليست احتمالاً جائزاً وموقتاً يستحب تجنّبه، بل هي ملازمة لمجيء إمام الزمان وفرجه، ولتقويضه دولة الدجّال

ويعود التوسُّل بالمنظمة الميليشياوية الأهلية واستعمالها في ردع الجهاز العسكري الرسمي والمشروع، وتعويض تقصيره عن قمع الحركة الشعبية، إلى عهد الشاه محمد رضا ميرزا ("بهلوي")، غداة الانقلاب على رئيس وزرائه الإصلاحي والوطني، محمد مصدق (1951-1953). واستجاب "الحرس الثوري"، حين إنشائه، إلحاحاً يسارياً على تولي جيش شعبي وثوري قتال القوات العراقية الغازية. وصاحب الإلحاح هذا تشكيك حاد في ولاء الجيش الإيراني، وفي أهليته التنظيمية والأيديولوجية للدفاع عن الأمة المهدّدة وثورتها "المغدورة".

الفتوّة والأهل

ولم يبدّد خوض المعارك الوطنية و"النظامية" (دفاعاً عن "الجمهورية" ونظامها) العامة، الأهلية والخارجية، أثر الأصول المحلية والبلدية و"الضحوية" (من الضواحي) العميق في تحلّق الجماعات الحرسية واستوائها حلقات وروابط وجمعيات متكاتفة ومتماسكة، ولا في محافظتها على لحمتها الأولى. فغلب عليها تجانس اجتماعي وثقافي ومحلي (جغرافي) وسّعه تقطيع الشبكات النضالية المشتركة، وحلّها إلى زمر ذات طابع زبائني وولائي، تتعهّد توزيع المغانم والريوع والصفقات والمنافع والحصانات والاستثناءات.

وجدّدت نواة ضباط "الحرس" لاحقاً تقاليد الفتوّة، القومية والإمامية الإسلامية، في أوساط الفلاحين النازحين من الأرياف، إثر إصلاح 1963 الزراعي، إلى جنوب طهران طوال العقدين السابع والثامن. ووفّر الإصلاح هذا- وهو سعى في إنشاء طبقة من المزارعين المقاولين (الأفراد) والعاملين بموجب قواعد سوق تنافسية مشرعة- للنواة "الماوية" و"الغيفارية" مادة اجتماعية غنية. ولم تغفل النواة، وإنْ على فروق فردية قوية، عن خصوصية الفلاحين الثقافية والاجتماعية.

فأهل القرية النازحون يفضّلون الإقامة متحلقين ومجتمعين، في ضواحي النزوح، حول مسجد أو ضريح يؤمهم فيه، في صلاتهم ومداولاتهم، ملّا معمم من المنشأ نفسه. وحين كان قاسم سليماني يستقبل، في حفرة القبر، القتيل الحرسي، محل أقرب الأرحام، كان يعلن دوام هذا التراث.

ورعت المآذن والحسينيات والمهديات والنوادي الرياضية (المصارعة)، لحمات هويات جماعية بلورتها الهجرة، وتلازمت مع عبارة دينية على حدة من "علوم" الحوزات وكبار علمائها. وفي 2010، جدّد جيل حرسيّ من جماعة فتيان "توابين" (نذروا الموت توبةً عن تركهم الحسين بن علي يُقتل وحيداً وندماً عليه)، تربط السن بينهم، مشاهد عاشوراء. وماشى التجديد هذا التغيّر السكاني في إطار أبنية دينية وغير دينية، مثل "النوادي" الحسينية والرياضية والمدارس الموازية، على شاكلة شبكة زرقان التي اضطلعت بدور راجح في التنشئة الموازية على الفتوة.

وهذا الترجُّح بين السرية والعلانية، وبين الالتصاق بالأهل ومجتمعاتهم وبين الاضطلاع بأدوار السلطة المتعالية والمفارقة، وبين التفرُّق كتلاً وشللاً محلية وبين مركزية تنظيمية وإدارية صارمة، هو سمة جنينية وتكوينية من سمات هذا المرفق الذي ينزل من "النظام" الخميني بمنزلة القلب.

اللادولة

ويرد ستيفان ديدوانيون الأمر، ودوامه إلى بنية الخمينية النواتية. فبينما قصدت حركة خميني الأولى، أو الشق الأول منها، إلى الاستيلاء على الدولة، وملابستها والتغلغل في هيئاتها ومؤسساتها، وإعمال الهيئات والمؤسسات هذه في خدمة طاقمها الجديد، نشأ "الحرس" عن الإعداد الحثيث لخوض حرب أهلية مركّبة ومتناسلة تقتتل، على بعض جبهاتها، جماعات الثورة نفسها.

واقتضى القصد الأول القبول بمنطق الدولة الغالب والشائع، وبمندرجاته وموجباته الدستورية والانتخابية، واختصاص سلطات الدولة وتماسكها وتشاركها المسؤولية، وفصلها الداخل عن الخارج، والخاص عن العام، إلخ. أما القصد الثاني، على خلاف الأول، فحمل الدولة، شكلاً ومضموناً، على حاجز صفيق يحول بين الثورة الشعبية والدينية العميقة ("الروحانية"، على قول بعضهم يومها) وبين إيجاب أو تحقيق كيان إنساني وإلهي "بعد التاريخ".

ليست مراتب الشياطين (الشيطان الأكبر، الشيطان الأصغر...)، ولا الاستعارات التاريخية (اليزيديون، الشمر...) كنايات خطابية وتعليمية في عرف الخمينية. وعندما يعلن أحد نواب مجلس الشورى أن الحراك الإيراني القائم يرجئ أجل فرج المهدي، فهو يعني ما يقول بالحرف

ويدعو القصد الثاني- قصد "اللادولة"، على ما لم يتردد في القول أعلام الدولة الخمينية، وعلى الخصوص في بلدان الشتات و"التصدير"- إلى التحلُّل من قيود الدولة الداخلية وحواجز المراقبة والمحاسبة والموازنة، وإنشاء أبنية مختلطة "من تحت"، تدمج العسكري بالمدني والقضائي والاقتصادي والأمني والديبلوماسي، وتوجب قوانينها وقواعد عملها ومعاييرها من تلقاء نفسها.

واستلهم النازع القوي هذا تراثاً إمامياً باطنياً، حمل السياسة على معنى كينوني وقيامي أخروي ولا تاريخي- عُرف بـ"النبوّة المستمرة" و"المتحوّلة" في بعض الأعمال الخطابية المعاصرة. إلا أن مصدر الإلهام الأول والغالب هو اليقين "الفطري" بأن الدولة معيار ونصب غربيان، وغير إسلاميين وغير إماميين مميتان ومدمّران، وبأن الحرب الأهلية العامة ليست احتمالاً جائزاً وموقتاً يستحب تجنّبه، بل هي ملازمة لمجيء إمام الزمان وفرجه، ولتقويضه دولة الدجّال.

وجاء انتزاع الإيرانيين، والسلطة الإيرانية، من أيدي ركام الجماعات والفرق المتقاتلة والمتنازعة، ثم من الحرب العراقية-الإيرانية التي أدى استدراجها دوراً راجحاً في انفجارها ودوامها ثمانية أعوام، مصدِّقاً لليقين الأول، ومسمّياً الجماعات والسياسات والحوادث بأسماء علم. وليست مراتب الشياطين (الشيطان الأكبر، الشيطان الأصغر...)، ولا الاستعارات التاريخية (اليزيديون، الشمر...) كنايات خطابية وتعليمية. وعندما يعلن أحد نواب مجلس الشورى أن الحراك الإيراني القائم يرجئ أجل فرج المهدي، فهو يعني ما يقول بالحرف.

العدو- الدولة

ويترتّب على توقّع الحرب الأهلية، والتوقّع والمبادرة إليها واحد في هذا السياق، التشكيك المزمن والثابت في مهادنة "العدو" وجبهاته المتجدّدة "الثورة" المهدية، وفي تسليمه باستقرار دولتها، على أي وجه فُهمت أو حُملت هذه الدولة. وعليه، يجب على "الحرس" أن يبني- في ظل الدولة الإيرانية "المفروضة"، على شاكلة الحرب التي أنقذت الثورة من "الدولة"-، نظام الثورة المهدية.

ويستتبع الأمر، فعلاً، أن تغلف السرّية منشآت "الحرس" ومرافقه، وأدواته، وخططه ومنجزاته. فجبهة الأعداء المرصوصة والساهرة تعد العدّة، على وجه اليقين، في الظل للانقلاب على الثورة، وانتزاع السلطة والقوة منها، وتصديع صنيعها، والعودة إلى الاستيلاء على إيران. والميليشيا الحرسية، وملحقاتها الكثيرة، هي ضمان دوام المقاومة الشعبية وتجدّدها إذا انتصر العدو، وهذا ما لم يستبعده روح الله خميني في العامين الأوّلين من ثورته وما يقرّه علي خامنئي بنداً جوهرياً في استراتيجيته النووية والإقليمية.

"تسيطر أجهزة الحرس الثوري في إيران على قطاعات الإنشاءات التحتية والمواصلات والطرق ومحطات السفر والمياه والكهرباء والموانئ والمطارات وممرات التهريب والخوّات وأسواق صرف العملة وتحويل الأموال وهيئات إدارة المزارات الدينية والفنادق السياحية والاتصالات الإلكترونية..."

ويستدل أولي الأمر الخمينيون على رأيهم أو حسابهم بسوابق أميركية لاتينية. فكوبا فيديل كاسترو لم تبق علماً على الثورة والاشتراكية والعالمثالثية الكاستروية إلا جراء تربصها اليقظ، منذ 63 عاماً، بالثورة المضادة المستعرة، على رغم أن آخر عملية عسكرية شنّها معارضو الديكتاتور الكوبي ونظامه تعود إلى خريف 1961، وموقعة خليج الخنازير. وجدّد الاستيلاء السانديني، بنيكاراغوا، على الحكم، وعودة الطاقم المحافظ واليميني إلى السلطة في وقت لاحق، الهجس الخميني. وبعث هوغو تشافيز وخليفته نيكولاس ماردورو، الرسم عينه.

ويذكر أن علي خامنئي، وكان يومها، 1989، رئيس الجمهورية، كان آخر زائر إلى الحاكم السانديني قبل أن تطرده انتخابات شبه حرة من الرئاسة. ويكيل بعض الحكّام الإيرانيين اليوم، المديح المطنب لتشافيز، ويرون قرابة وثيقة بين نظامه ونظامهم. وفنزويلا انتهاك الدستور، وإلغاء مجلس نواب معارض بالكامل وافتعال حال حرب وحمل نحو 3.5 ملايين مواطن على الهجرة واللجوء، هي "فنزويلا العظمى" على قول صحيفة حرسية.

البنية الذاتية

ومثال دولة الظل المقاتلة و"الشعبية" (الأهلية)، والعصيّة على الانقلاب وعلى التعيين والثبات القانوني والمؤسسي، بقي المعيار الذي تقاس به وعليه أصالة الثورة وإماميّتها. فلم تنفك "القيادة"، وطواقم أجنحتها وجماعاتها، تكثّر دوائر القرارات المتفرقة، الاقتصادية والأيديولوجية والأمنية والتمثيلية، وتنشئها خارج الإطار الدستوري.

وآذن حكم خميني "الشرعي" بإطلاق ولاية الفقيه ونيابته المقيّدة عن الإمامة (المطلقة)، في 1981، ثم مباشرته إنشاء المجالس المتفرّقة وتسليط رقابتها ومصافيها على الهيئات المنتخبة والمدنية، الوطنية والمحلية- (آذن) بتشييد الأجسام الموازية والتحتية التي نخرت مباني الدولة، وضربت عرض الحائط بسلطاتها وقراراتها.

ففي خضمّ الحرب، ثم غداتها مباشرة، استقل "الحرس" بموارده وسلاسل إمداده، ونأى بنفسه عن مراكز المراقبة والمحاسبة. وتولّت شركات "ذاتية" يشرف عليها قادة حرسيون، ويمولونها من مصادر ينبغي ألا يسأل عنها أحد، حتى من جماعات حرسية أخرى.

فلم يُعرف، وإلى اليوم لا يُعرف، كيف موّل محمد رفيق دوست، أحد أوائل الحرسيين وقائدهم البارز، سلاح المقاتلين ومرتّباتهم وتعويض أسرهم مقتلهم وإنشاء ثكنهم، ولا من أين حصل عليه وعلى أكلاف وأثمان المواد الأخرى المستعملة والمستهلكة. وكانت الموازنات الأولى والسرية هذه، والمصادرات، نواة "الإمبراطورية السوداء" (على غرار العمل الأسود، غير المصرّح، والاقتصاد الأسود، غير المعلن كالتهريب والتجارات المحظورة وأعمال التبييض) والعريضة التي يديرها "الحرس". وتسيطر الأجهزة الحرسية على قطاعات الإنشاءات التحتية والمواصلات والطرق ومحطات السفر والمياه والكهرباء والموانئ والمطارات وممرات التهريب والخوّات وأسواق صرف العملة وتحويل الأموال وهيئات إدارة المزارات الدينية والفنادق السياحية والاتصالات الإلكترونية...

وتستر التهرب من المراقبة والمحاسبة الماليتين والضريبيتين والإداريتين بإنشاء قطاع تعاوني، توسّع على نحو سريع وأخطبوطي منذ إجراءات الخصخصة في أواخر العقد الأخير من القرن الماضي ثم في أواخر ولاية محمود أحمدي نجاد الثانية. وتضيّع الشركة التعاونية، في صيغتها الحرسية، الفرق بين الخاص والعام. فيتولى العام، أو العمومي، تمويل الشراكة والنفقات الأولى والتأسيسية، على أن يعود القسط الكبير من العوائد إلى السهم "الخاص".

وعلى هذا المثال، استحال إنشاء قطاع مصرفي فاعل. فالقروض "التفضيلية" التي يحصل عليها مَن يمتّون بصلة إلى الحرسيين وفروعهم وشبكاتهم تقحم على المحاسبة معايير استثنائية يسدّد العمل المصرفي أثمانها من قيامه بوظائفه المفترضة. وتمنح السلفات من دون ضمانات، ويُغضى عن إيفائها كلها في الأوقات المحدّدة.

واستشراء الفساد، بهذه الحال، وعمومه العلاقات الاجتماعية كلها، ثمرة فاشِيَة ومنتشرة. ومن نتائج الاستشراء والعموم انقسام المجتمع الإيراني إلى "نحن"، أصحاب الحظوة وأهل دائر "العلاقات" والشلل، و"هم"، المنفيين من هذه وتلك. وقد تكون هذه القسمة، على عرض المجتمع الإيراني من أدناه إلى أقصاه، السبب في انتشار الحراك، وفي دوامه ومرونة تظاهراته وإجراءاته، رغم قمع دامٍ وشرس.

الموازاة

وطوال العقود المنصرمة، تضافرت جهود القوى السياسية النافذة، وليس ناخبو محمد خاتمي وحسن روحاني وبعض أنصار علي أكبر هاشمي رفسنجاني من هذه القوى، على نصب سلطة سياسية موازية وخارج الأطر والمؤسسات الرسمية والمعلنة. فالشاغل الملح هو ألا يقدر "العدو"، الكثير الأوجه والمتحوّل على الدوام، أن يثبت أو يشخّص موضع السلطة الفعلية، فيعمد إلى حصارها أو شلّها أو الاستيلاء عليها.

وغذّى الخوف من سعي "العدو" في انتزاع الحكم سقوط صدام حسين بضربة القوات الأميركية وحلفائها في 2003، ثم انتشار "الحركات الملوّنة" في بلدان جنوب الاتحاد السوفياتي السابق، وفي بلد شرق أوسطي قريب مثل لبنان (في 2005، حذّر الجنرال يد الله دوائي، رئيس مكتب "الحرس" السياسي وممثل خامنئي في قيادته، "حزب الله" المحلي من حركة ملوّنة تطيح انتصارات "المقاومة").

بسبب استشراء الفساد وعمومه في إيران، انقسم المجتمع الإيراني إلى "نحن"، أصحاب الحظوة وأهل دائر "العلاقات" والشلل، و"هم"، المنفيين من هذه وتلك. وقد تكون هذه القسمة السبب في انتشار الحراك، وفي دوامه ومرونة تظاهراته وإجراءاته، رغم قمع دامٍ وشرس

فانصرفت الحاميات البلدية والمحلية والإقليمية إلى إقامة هيئات غير محددة الصفة، من أهالي المحلات وسكان الحارات والشوارع المتشابكة، وذات "الشخصية" العائلية والمكانية المتعارفة والمتوارثة. وندبت الهيئات هذه نفسها إلى التداول في الشؤون البلدية، من وراء ظهر المجالس البلدية المنتخبة، والبت فيها. ومنذ انتخابات 2004 البلدية، أشرف عناصر من "الحرس" على البلديات ودوائرها وأعمالها، وأبقوا المجالس المنتخبة من غير عمل ولا دور. وفي الوقت نفسه، وُلّي المتقاعدون من خدمة "الحرس" مناصب تمثيل محلية ونيابية.

وكانت الحركة الخضراء، في 2009، على ما يذهب إليه ديدوانيون في بحثه، من ثمرات الاستيلاء الحرسي الموازي على هيئات التمثيل المحلي والإقليمي (من إقليم أو ولاية). فالاستحواذ على توزيع الموارد والمنافع المحلية-، وتداولها في دوائر الطاقم الحرسي وأنصاره وحلفائه، حرّض شطراً من الأئمّة (الملالي) المحليين والإقليميين على المعارضة، وعلى إنكار إدارة الحرسيين الزبائنية. وكانت وفاة بعض هؤلاء الأئمّة، في هذا الوقت، وتشييعهم ذريعة إلى انتفاضات محلية صريحة وعابرة.

وغداة عقد الاتفاق النووي بين إيران وبين الدول الست، في خريف 2015، أي بحر السنة الثالثة من ولاية حسن روحاني الأولى، وهي شهدت تسديد الأقساط الأولى من عوائد النفط المحبوسة- ردّت الكتلة الحرسية على الانفراج النسبي، الناجم عن تقييد سياسة "الحرس" في المجال النووي الحيوي والاستراتيجي، ببسط مظلة سياسية وعسكرية عريضة فوق الهيئات الجمهورية، وفي موازاة الهيئات الجمهورية، من البلدية والمحلية إلى الوطنية الشوروية، نصبت الكتلة شبكة مجالس منتخبة، شدّت قبضتها عليها.

وتوّجت انتخابات مجلس الشورى، في 2020، وانتخابات الرئاسة، في 2021، استحواذ الكتلة الحرسية على الهيئتين الشكليتين، التشريعية والتنفيذية. وأقصت، بواسطة المجلسين "الدستوريين"، أنصار الدولة الوطنية والدستورية، على حدّها الأدنى وفي خدمة الكتلة الحرسيّة، من غير شكليات. فتربّع محمد باقر قاليباف في سدة مجلس الشورى، وهو كان قد حصل في انتخابات رئاسية سابقة على أقل من 5 في المئة من أوراق المقترعين. ونصّب إبراهيم رئيسي رئيساً بعد "حذف" المنافسين الفعليين وإخراجهم من الحلبة.

عيّارون و"أهل شرف" وشهداء

ويتساءل كاتب البحث عن أمر حاسم، في القلب من تاريخ إيران الخمينية والخامنئية، هو جمع "الحرس"، على خلاف الأحزاب الشيوعية الحاكمة التي يقربه بعض الشبه منها- إذا استثنينا الأنظمة الثلاثة: الكوبي الكاستروي، والأوروغوايي السانديني الأورتيغي، والفينزويلي التشافيزي- بين نازعين متنازعين ومتقابلين: النازع البيروقراطي إلى المرتبية الثابتة والروتينية، والنازع الأيديولوجي إلى تقويض المراتب والرغبة المحمومة في العود على بدء والقتال ولقاء الموت.

ففي 2014- 2016 "حجّ" مئات من كبار الضباط الحرسيين وذوي الرتب العالية إلى المعمعة السورية، بعضهم من المتقاعدين وبعض آخر من العاملين. وقُتل من هؤلاء المتطوّعين ما لا يقل عن 150 ضابطاً. وتحوّلت مَصارعهم مادة مشاهد، على ما يقال في إحياء عاشوراء، دلف منها الحرسيون إلى رفع أصحابها إلى رتبة الولاية والكرامة. فنُصبت المزارات على الأضرحة، وأُحييت أيام المصارع في تواريخها، وتُليت الأدعية والوصايا، وحُفَّ أهل القتيل الشهيد، "عترته" على معنى النّسب الديني والصوفي، بالتكريم والتعظيم. تخلص الملاحظة من هذا إلى استبعاد استيلاء "الحرس" على السلطة وحده، واستبعاده السلك العلمائي، راعي التجديد الديني.

وينقض مثل هذا الصنيع الروتين البيروقراطي والمرتبي، ويهز الاستقرار النفعي والريعي. وفي المحصّلة، إذا جاز الكلام على محصّلة في خضمّ هذا الاضطراب، تجمع الكتلة الحرسية طرفي هذا النقيض، وتجني منه قوة على امتحان المراتب المكرّسة، وتعريضها لتوزيع جديد. ويقارن الكاتب بين السلك الحرسي وكتلته، وبين سلك العيارين والشطّار، قطّاع الطّرق وحُماة الأرملة واليتيم وأهل الضعف، في القصص البطولي والشعبي الفارسي (والعربي والتركي كذلك).

وتشمل المقارنة المافيا الصقلّية. ولا تقتصر على الوجه البطولي والشريف (الأرستقراطي) من العيارين و"أهل الشرف"، وهو الاسم الذي يسمي به جنود المافيا أنفسهم، بل تشمل مسار هذه الأسلاك الانحطاطي. فتجديد سيرة المَصارع في معراج الشهادة لا يتستّر على طعيان الوجه الريعي والفاسد والاستحواذي والتنافسي على الكتلة الحرسية وأنشطتها وسياستها.

ولا يحجب المنافسة المستميتة بين الجماعات المحلية والكتل الجزئية والفرعية على المغانم والمراتب والعوائد. وتحول البنية الشللية المتماسكة، وهي النواة الصلبة والأساسية، دون بروز جسم سياسي وطني وشعبي ينبغي، إذ ذاك، أن "يستولي" على الدولة، ويدخلها ويحل فيها، ويدمج الأجسام المتناثرة والخفيّة التي يُنشئها "الحرس".

وترعى هذه البنية امتداد الصيغة الحرسية، وتفشّيها في البلدان والدول والمجتمعات التي تتفشى بها وتدمجها الكتلة في مبانيها الممتدة والمتسعة على المثال المتناقض نفسه: جمع الطفيليات التي تصادر الدولة الوطنية والشعب السياسي على السلطة الفعلية وعلى الموارد، إلى تجديد بطولي وخلاصي وأيديولوجي تدرجه الطفيليات في جهازها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image