شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل ماتت سعاد خوفاً؟... لماذا تُبقي مصر على ضمانات استمرار العنف ضد الأبناء؟

هل ماتت سعاد خوفاً؟... لماذا تُبقي مصر على ضمانات استمرار العنف ضد الأبناء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الثلاثاء 17 يناير 202305:55 م

بعد شهر من إبلاغ اسرتها عن اختفائها في 5 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، باتت سعاد، ابنة الـ14 عاماً، وقلوب كل من ينتظرونها مكلومة، تتقلّب في الحسرة والأسى، إذ عادت سعاد جثة هامدة طافية على وجه مياه ترعة الإسماعيلية، بعد شهر من الغياب عن أبويها في مدينة "بلبيس" التي تتوسط محافظتي القاهرة والشرقية.

خرجت سعاد صلاح، الطالبة في الصف الثاني الثانوي قبل شهر كي تحضر حصة في أحد الدروس الخصوصية، وعُثر على جثمانها بعد 30 يوماً، في 5 يناير/ كانون الثاني الجاري، ولا تزال تحريات النيابة جارية لمعرفة سبب وفاتها. لكن سبب قرارها مغادرة البيت لم يعد خافياً، إذ صرّح عمها: "لم تثبت وجود شبهة جنائية من عدمه"، لكن تصريح العم لصحيفة الوطن المحلية أكّد أن الفتاة غادرت البيت خوفاً من عقاب أبويها بعد كسر جهاز التابلت المدرسي الذي تسلمه وزارة التربية والتعليم لطلاب الثانوية العامة لأداء الامتحانات، على سبيل "العهدة"، ويتعين على أولياء الأمور دفع غرامات كبيرة مضافة إلى ثمن التابلت الذي تقدّره الوزارة، حال تعرضه للضياع أو التلف.

%75 من الأطفال في المناطق التي شملتها دراسة "العنف ضد الأطفال في مصر"، تعرضوا للعنف الجسدي، و78% يتعرضون للعنف النفسي المتمثل في التهديد والتخويف والتقليل من الشأن

نعرف من هذا، أن الطفلة التي لم يتجاوز عمرها 14 عاماً خرجت من باب البيت يحيطها الخوف من العقاب، وأنها فقدت حياتها ربما من دون أن ترى فيديوهات الأم التي تبكي وتصرخ فيها وتنادي باسمها وتستغيث، وكل أمنياتها أن تعود.

عنف وخوف كبيران

ليست سعاد وحدها من فقدت حياتها بسبب خوفها من العقاب الذي تعتبره الكثير من الأسر المصرية وسيلة للتربية والتوجيه وتعديل السلوك، فالعنف ضد الأبناء في مصر بأشكاله المتنوعة (البدني – اللفظي – النفسي) ظاهرة واسعة النطاق، حسبما رصدت دراسة صادرة بالتعاون بين منظمة الأمم المتحدة للطفولة، المعروفة اختصاراً باسم "اليونيسيف" والمجلس القومي للأمومة والطفولة.

الدراسة الصادرة في العام 2015 تحت عنوان "العنف ضد الأطفال في مصر"، شاملة مسح كمّي للعنف ضد الاطفال في محافظات القاهرة والإسكندرية وأسيوط، وجدت أن 75% من الأطفال في المناطق التي شملتها الدراسة، تعرضوا للعنف الجسدي، و78% يتعرضون للعنف النفسي المتمثل في التهديد والتخويف والابتزاز. كما أظهرت الدراسة أن الأطفال والبالغين الذين شملهم المسح عانوا العنف الجسدي والتخويف من الوسائل المقبولة في التربية وتعديل السلوك. كذلك تتعرّض الفتيات بشكل خاص إلى أنواع من العنف الجسدي والنفسي تتجاوز ما يتعرض له الأطفال الذكور، سواء من حيث الكم، أو مقدار قسوة العقاب، ما يجعله عنفاً مبنياً على النوع الاجتماعي.

رحلة هروب البنات من العنف الأسري، أو نتيجة لتعرضهن للاحتجاز وحرمانهن من الخروج سواء للعمل أو التعليم، تأتي في كثير  من الأحيان بعد الحرمان من التواصل، والاستيلاء على الموبايل لمنع أي فرصه للاستغاثة أو النشر أو الاتصال بالشرطة

أعاد غياب سعاد ومتابعتي لمحاولات البحث إلى ذهني عشرات الحوادث السابقة التي عايشتها كمتابعة للأحداث، وواحدة من العاملين على تقديم الدعم والمساندة للناجيات من العنف. أتابع غياب وهروب عشرات البنات من المنازل، ثم إعلان عودتهن مع صمت كامل من الأهل حول أسباب الغياب وكيفية العودة. هذا عدا متابعتي لحوادث تتناولها الصحف والمواقع لفتيات تكشف التحقيقات والبحث أن غيابهن كان هروباً من "إساءة المعاملة"، وهو مصطلح يشير إلى صنوف مختلفة من العنف الأسري الذي يصل أحياناً إلى حدّ التعذيب.

من منا ينسى فرح، فتاة الإسكندرية، الطفلة التي لم تبلغ من العمر 13 سنة والتي تركت منزل الأسرة، وبعد عثور الشرطة عليها وإعادتها إلى ذويها، أعلنت سبب الهروب في فيديو "بابا ضربني بخشبة فسبت البيت"، وقالت أيضاً: "فقدت الاهتمام في البيت، وصديقي هو اللي اهتم بيا فهربت وروحتله". وعادت فرح للأسرة وصُدمت، كما صُدم المتابعون، بصور لقائها بالأسرة. صدمني وجهها الجامد، الخائف، الرافض، وهي بين أمها وأبيها فأين تجد هذه الطفلة الأمان والحماية والحب والرعاية؟

الكسر والموت هرباً

في رحلة هروب البنات من العنف الأسري، أو نتيجة لتعرضهن للاحتجاز وحرمانهن من الخروج، سواء للعمل أو التعليم، تأتي في كثير  من الأحيان بعد الحرمان من التواصل، والاستيلاء على الموبايل لمنع أي فرصه للاستغاثة أو النشر أو الاتصال بالشرطة. وقد تضطر البنات للقفز من الشرفات ولو على بعد أربعة أو ستة طوابق عن الأرض، هرباً من أسر أسرهن لهن وتعرّضهن المتكرّر للاعتداء البدني واللفظي والتلاعب النفسي، وهو ما عايشته بنفسي مع إحدى الحالات التي تعاني حتى اليوم من آثار كسور في الظهر والحوض، الأمر الذي تسبب في عجز دام سنوات، ولا زالت تعالج منه، خاصة مع إهمال علاجها كجزء من العقاب على محاولة الهروب للبحث عن عمل والاستقلال عن الأسرة أملاً في التخلص من ويلات العنف المنزلي.

يحظى العنف الأسري في مصر بقبول اجتماعي كبير، إذ يرى المجتمع أن الضرب والعنف البدني والنفسي وأشكال الاحتجاز والحرمان من التعليم وحرية الحركة، وسائل للتربية والتقويم السلوكي، بل يرى البعض ذلك كله تعبيراً عن الحب والرغبة في الحماية

سارة خالد، طبيبة الأسنان العشرينية التي فقدت حياتها إثر سقوطها من شرفة منزلها، والتي ادعت أسرتها انتحارها، كاد موتها أن يمر من دون التفات لولا تدخل صديقاتها ونشرهن معلومات عن تعرّضها الدائم والمتكرّر للعنف الأسري، وإفصاحهن عن أن الحادث وقع بعد عودتها للأسرة عقب هروب لم يكن الأول لها، ولجوئها للأصدقاء. وأثبتت معاينة جثمانها من خلال مصلحة الطب الشرعي التابعة لوزارة العدل، صحّة تعرّضها المتكرّر للعنف الجسدي، إذ حمل جثمانها آثار ضرب وكدمات حتى بعد الوفاة، أي أنها ظلت تتعرض للعنف حتى أنفاسها الأخيرة.

لا أحد يعلم هل فعلاً انتحرت سارة أم سقطت أثناء محاولتها الهرب؟ ما وقع على وجه اليقين هو خسارتنا لشابة في مقتبل عمرها كضحية للعنف المنزلي.

بسنت خالد، ضحية الحادث الشهير الذي هزّ المجتمع، الطفلة ابنة 16 سنة ذات الوجه البرئ، والتي غيبها الموت نتيجة تناولها لحبوب "الغلة" القاتلة، تعرضت لواقعة ابتزاز شارك فيها شباب القرية مع أحد شباب العائلة، إذ تم اغتصابها وتصويرها وابتزازها ثم التشهير بها عبر نشر الصور. تعرّضت إثر ذلك لوقائع تنمّر من زميلاتها وأحد مدرسيها، واكتملت المأساة بموقف الأهل غير المساند.

عاشت بسنت شهوراً من الرفض والنبذ من أسرتها دفعتها لليأس الكامل ولإنهاء حياتها. يُرجح أن أسرتها شجعتها على الانتحار وعاونتها عليه، إذ كانت خالة الضحية تعلم بشرائها لحبوب الغلة واحتمال محاولة انتحارها، وفقدت بسنت حياتها نتيجة للخذلان والعنف الأسري والمجتمعي.

على الرغم من أن القانون يعتبر الإناث والذكور الذين تجاوزا سن 21 عاماً غير خاضعين لوصاية الأهل، فإن التطبيق العملي مختلف. الشرطة وجهات إنفاذ القانون لا تتردد في معاونة الأسرة في إلقاء القبض على الراغبات في الابتعاد عن العنف الأسري

الحماية ممكنة

يحظى العنف الأسري في مصر بقبول اجتماعي كبير، إذ يرى المجتمع أن الضرب والعنف البدني والنفسي وأشكال الاحتجاز، بل والحرمان من التعليم وحرية الحركة، وسيلة للتربية والتقويم السلوكي، ويرى البعض ذلك كله تعبيراً عن الحب والرغبة في الحماية، ويتعامل المجتمع برفض شديد لأي محاولة لتغيير هذا النمط السلوكي والفكري، لأن أية محاولة لحماية الأطفال من العنف هو تدخل في حق الآباء والأمهات والأهل وحتى المعلمين في التربية، ويعرض أي شخص يحاول التدخل ربما للعنف أو على الأقل للتشهير والنبذ.

أثناء متابعة حالات الفتيات والنساء المتعرّضات للعنف والساعيات للنجاة منه، لم يكن من الصعب ملاحظة تعرّض الفتيات اللاتي يخترن رفض العنف الأسري والسعي للهرب منه بالاستقلال عن الأسرة للعديد من المشكلات، أهمها وأكثرها شيوعاً، الوصم الاجتماعي من خلال النظر إليهن كفتيات منفلتات، لا يحترمن قيم الأسرة المصرية. تجد هؤلاء الفتيات صعوبة في ايجاد مسكن، خاصة مع توقعهن لمطاردة الأهل لهن وتقديم بلاغات كيدية بالاختفاء أو السرقة أو غيرهما، ويتعرضن كذلك لرفض أصحاب العقارات تأجير الشقق السكنية للبنات والسيدات بحجّة "لسكن العائلات فقط".

وعلى الرغم من أن القانون يعتبر الإناث والذكور الذين تجاوزا سن 21 عاماً غير خاضعين لوصاية الأهل، فإن التطبيق العملي مختلف. الشرطة وجهات إنفاذ القانون لا تتردّد في معاونة الأسرة في إلقاء القبض على الراغبات في الابتعاد عن العنف الاسري، وإعادة تسليمهن لأسرهن غصباً عنهن رغم مخالفة ذلك للقانون، خاصة إذا كان هناك محضر بالاختفاء قام الأهل بعمله بعد هروب الفتاة. ورغم مخالفة هذا للقانون في حالة تجاوز الفتاة سن الرشد، فهو تقليد مرصود من حكايات البنات والفتيات وشهاداتهن لمكاتب المساندة التابعة للمؤسسات الأهلية، الأمر الذي يجعل الفتاة تعود لدائرة العنف الأسري من دون أي حماية، وتتخوّف من عمل محضر بعدم التعرّض أو تقديم بلاغات ضد أفراد الأسرة، خاصة مع خوفها من نظرة المجتمع أو حفظ التحقيقات، ما يزيد احتمال تعرّضها للعنف كعقاب على توجهها لتحرير محضر.

يُذكر أن القانون أيضاً في مصر شريك في إحكام الحصار على الفتيات، إذ يستثني أفراد الأسرة من العقوبة الجنائية في حالة ممارسة العنف ضد الأبناء تحت ما يسمى بحق التأديب، وذلك وفقاً للمادة 60 من قانون العقوبات الذي ينصّ على أنه: "لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملًا بحق مقرّر بمقتضى الشريعة"، ويتم استخدام هذه المادة في معظم الجرائم ضد النساء والأطفال داخل الأسرة، إذ يحصل المتهم في أقصى المواقف على حكم مع إيقاف التنفيذ عملاً بهذه المادة، ما يكرّس ظاهرة العنف الأسري ضد الأبناء، وخاصة ضد الفتيات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image