شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
التلِّي الأسيوطي والتلِّي الإماراتي... مَنْ

التلِّي الأسيوطي والتلِّي الإماراتي... مَنْ "الأصل"؟ ومَنْ "الصورة"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الاثنين 16 يناير 202302:41 م

"الشكشوكة والمطبّق الصعيدي وأم علي، كلها أكلات مصرية منذ قرون وموثقة في كتب التاريخ، أصبحت تراث سعودي وبيروجوا لها سياحياً".

هذا المنشور الذي ظهر على صفحة متخصصة في توثيق الأطعمة التراثية المصرية وتاريخ تطورها، يوم الأحد 14 يناير/ كانون الثاني، هو حلقة جديدة في سلسلة الغضب المصري المتكرر من نسبة عناصر من الثقافة المصرية المادية وغير المادية إلى دول مجاورة.

 ترجع حالة الغضب إلى كون فن التلِّي، وهو التطريز بالخيوط المعدنية على الحرير، فناً مصرياً بالغ القدم، وجدت إبداعات قديمة منه في مقابر قدماء المصريين ويعود تاريخ بعض الملابس الملكية والنبيلة المصنوعة من نسيج التلِّي إلى ما يزيد على 4500 عام، ووصلت شهرة التلِّي المصري للعالمية منذ عشرينيات القرن الماضي، وبات معروفاً في العالم بـ"التلِّي الأسيوطي".

اعتبر مصريون غاضبون منهم مثقفون ورجال دولة سابقون، أن التسجيل الإماراتي في اليونيسكو "سطو على التراث المصري".

على الجانب الآخر، تعتبر الإمارات أن التلِّي "حرفة نسيج يدوي تقليدية" إماراتية. وأنها أحد مكونات التراث الثقافي في دولة الإمارات المتحدة، حسب تعريف هيئة أبو ظبي للثقافة، فهل فعلاً سطت الإمارات على التلِّي الأسيوطي المصري؟

هل فعلاً سَطَت الإمارات على التلِّي الأسيوطي المصري؟

سوء فهم؟

أسامة غزالي، الباحث في التراث الثقافي، يقول لرصيف22: "الحقيقة يوجد لبس أو خلط في هذا الأمر. لأن التلِّي الإماراتي يختلف عن التلِّي الأسيوطي كدلائل جغرافية ثقافية، ومنشأ وتقنية وكطقوس شعبية". مشيراً إلى أن هناك  حِرفاً مميزة لكل منطقة أو دولة لها دلالات وتقنيات وسمات تميزها عن غيرها. وحتى إن تشابهت في بعض السمات، تظل لها دلائل جغرافية تحفظ خصوصيتها. مضيفاً: "عندما نقول حرفة السعف بالشلاتين، وأن لها خصوصية تراثية رغم أنها حرفة لصناعة منتجات من سعف النخيل، مثل باقي الحرف، لكن التطريز المميز بالجلد والخرز يجعلك عند مشاهدتها تميزها بسهولة وتميز منطقتها وبيئتها الحاضنة لها".

من هنا يميز الباحث بين التلِّي المصري ونظيره الإماراتي: "التلِّي الإماراتي هو شريط مطرز منسوج من خيوط قطنية ممزوجة مع الشرائط الذهبية أو الفضية التي تمتاز باللمعان. ويستخدم غالباً في تزيين أكمام وياقات الأثواب والسراويل النسائية، وكان مشهوراً ليس فقط علي ساحل الخليج بل أيضاً في صحراء نجد ولدى قبائل عربية عدة، منها قبائل الرشايدة".

التلِّي الأسيوطي؛ يرجع اسمه إلى اسم نسيج التُلّ، الذي يستخدم كقاعدة لتطريز خيوط التلِّي عليه. نسبه البعض إلى الملك "أتالوس" من آسيا الصغرى، إلّا ان تاريخ منتجات التلِّي التي عثر عليها في المقابر المصرية تعود إلى تاريخ أقدم من حكم أتالوس بنحو ألف و400 عام

ويشير إلى أن التلِّي الإماراتي هو فن يستخدم في التزيين، إذ تتم صناعة التلِّي بواسطة ست بكرات من الخيوط المعروفة بـ"الهدوب" الملونة حسب الرغبة، وتجمع أطرافها بعقدة مشتركة تثبت بإبرة صغيرة على المخدة المعروفة قديماً باسم "الكاجوجة"، التي يثبت عليها طرف البكرة من خوص التلِّي.

أما التلِّي الأسيوطي؛ حسب غزالي- فيختلف تماماً عن نظيره الإماراتي، البعض يؤكد أن هذا الاسم يرجع إلى اسم "قماش الشبك"، أو Tull باللغة الفرنسية، الذي يستخدم كقاعدة لتطريز التلِّي عليه، كما نسبه البعض الآخر إلى الملك "أتالوس" من آسيا الصغرى، إلّا ان تاريخ منتجات التلِّي التي عثر عليها في المقابر المصرية تعود إلى تاريخ أقدم من حكم أتالوس بنحو ألف و400 عام.

وأصبح التلِّي المصري معروفاً عالمياً منذ بداية القرن الماضي باسم "الأسيوطي"، لا سيما في أمريكا وأوروبا.

يرتبط "التلِّي" بصعيد مصر، لكن أسيوط اشتهرت أكثر من سواها بهذه الحرفة منذ القرن التاسع عشر، لذا يعرف التلِّي المصري عالمياً باسم "التلِّي الأسيوطي". ولا يتقن تطريزه سوى النساء الماهرات

والتلِّي نوع من النسيج ينفذ بأشرطة معدنية رقيقة على أقمشة قطنية أو حريرية أو شبكية (مثل قماش التُلّ). واسم التلِّي يطلق على الأشرطة المعدنية التي يتم صناعة النسيج بها، كما يطلق على المنتج النهائي المطرز بهذه الأشرطة، وخيوط التلِّي عبارة عن أشرطة معدنية عرضها حوالى ثلاثة مليمترات، وقديماً كانت هذه الأشرطة من الفضة الخالصة، أما الآن فهي أشرطة فضية اللون وقليلاً ما تكون ذهبية، وغالباً مصنوعة من أسلاك النحاس المطلية بالفضة أو النيكل، وتعتمد وحدات التطريز في التلِّي المصري بشكل كبير على الأشكال الهندسية المنتظمة المتداخلة، تجاورها رموز شعبية مستمدة من النباتات وعناصر البيئة وتشكيلات تصوِّر الحياة والزفاف والعروس والميلاد والبيئة المحيطة مثل الشمس والنجوم وغيرهما.

غضب في الاتجاه الخاطئ

من ناحية أخرى، يرى الباحث المصري أن حالة الغضب بين المصريين "يجب أن تكون موجهة صوب فناء واندثار الكثير من الحرف التراثية التي يمتد بعضها إلى قدماء المصريين، بسبب إهمالها لعقود طويلة وتعمد تخريبها، وفي المقابل تسعى الدول العربية اليوم إلى خلق تراث لها وهوية، ولم يعد الاهتمام بالبترول فقط، ولا يمكن لوم هذه الدول".

ويختم: "هناك إهمال متعمد وتخريب للتراث المصري على كل مستويات، عدا السطو على التراث المصري من قبل بعض دول المنطقة، لكن هناك محاولات جادة للحفاظ على بعض الحرف مثل التلِّي وصناعة الكليم ومنتجات السعف والخوص، لكن يعيب هذه التجارب أنها تهتم بالجانب الفني والتراثي على حساب العاملين في المهنة، أو تحولها إلى مهنة تجارية فتفقد إذ ذاك هويتها من أجل المبيعات، كما حدث مع صناعة المنسوجات والكليم المصري".

يرتبط "التلِّي" بصعيد مصر، لكن أسيوط اشتهرت أكثر من سواها بهذه الحرفة منذ القرن التاسع عشر، لذا يعرف التلِّي المصري عالمياً باسم "التلِّي الأسيوطي". ولا يتقن تطريزه سوى النساء الماهرات. وقد ظلت حرفة التلِّي مزدهرة حتى بداية القرن العشرين، لكنها فيما بعد تراجعت، ولم يعد يقبِل على شرائه إلا فئة قليلة من الناس، فقل الطلب عليه، ولم يسع جيل جديد إلى تعلمه، فبدأ في الاختفاء بشكل تدريجي إلى أن أوشك على الانقراض. ويرجع السبب في ذلك، حسب تفسير الفنان التشكيلي سعد زغلول لبيب، إلى "ارتباطه بالغوازي والراقصات"، مما جعل النساء من الأسر المحافظة يتجنبنه".

لبيب قادته الصدفة إلى إعادة إحياء هذا الفن عندما قابل فنانة تشكيلية أجنبية جاءت إلى أسيوط بحثاً عن حرفة التلّي القديمة وعناصرها الفنية وحرفييها، بعد أن رأت قماش التلِّي المصري المشغول بخيوط الذهب والفضة في متحف فيكتوريا البرت في لندن. يقول لبيب: "الزيارة حطمت كل آمالها، إذ اكتشفت أن هذا الفن لم يعُد له وجود منذ الثلاثينيات من القرن الماضي".

التقط الفنان لبيب الخيط من تلك السيدة الأجنبية، وأصبح فجأة مهووساً بهذا الفن حتى أنشأ "بيت التلِّي" عام 1994، ويعد المكان الوحيد في مصر الذي أعيد منه إحياء التلِّي. وهو مبادرة فردية هدفها الحفاظ على أحد معالم التراث الثقافي والحضاري المصري. بينما في عام 2005 تأسست الجمعية التعاونية للحرف التراثية واليدوية بقرية جزيرة شندويل التابعة لمحافظة سوهاج للمحافظة على التراث، وهي القرية التي شهدت صناعة التلِّي منذ القرن الثامن عشر.

الكاتب الإنجليزي جون شالكرافت يرصد أنه في عشرينيات القرن الماضي، كان ثمن الشال المنسوج بالتلِّي يُدفع حسب وزنه "قرشان للثقيل وقرش واحد للوزن الأخف"

ربما هناك تواصل

الدكتور محمد حسن عبد الحافظ، أستاذ الأدب الشعبي  بالمعهد العالي للفنون، بأكاديمية الفنون، القاهرة، وخبير التراث الثقافي غير المادي بمعهد الشارقة للتراث بالإمارات يقول : "هناك جسور ثقافية ممتدة بين مصر والإمارات، من ضمنها الاهتمام بالتراث الثقافي، ففي أيام الشارقة التراثية، وهي الحدث الثقافي الأضخم في إمارة الشارقة، تشارك مصر كل عام بما تمتلكه من موروث ثري، وتتنوع المشاركات المصرية، من الجانب الفكري إلى الإعلامي، كما تشارك فرق فنية مصرية بعروضها الفولكلورية. وضمن برنامج أسابيع التراث العالمي، الذي يقام في مارس/ أذار من كل عام، تشارك مصر بأسبوع التراث المصري، الذي تشتمل فعالياته على جوانب من التراث الثقافي المصري، منها الفولكلور النوبي، والبدوي، ومعارض للأزياء التراثية المصرية، ممثلة في حرفة "التلِّي"، ومثيلتها في الإمارات وإبراز التشابه بين الموروث الثقافي للبلدين، كذلك يهتم الأسبوع بإبراز التراث الثقافي في صعيد مصر بوصفه الحاضنة الأولى للتراث المصري". مضيفاً أنه لا يوجد ما يضيع حق مصر في التقدم بتسجيل التلِّي الأسيوطي ضمن قائمة التراث المصري.

في كتابه  “Striking Cabbies of Cairo and Other Stories: The Crafts and Guilds in Egypt 1863-1914“، يشير الكاتب الإنجليزي جون شالكرافت إلى أن ثمن الشال المنسوج بالتلِّي، كان يدفع حسب وزنه "قرشان للثقيل وقرش واحد للوزن الأخف".

 "وعلى الرغم من أن الشيلان ذات حجم صغير ويمكن الاحتفاظ بها في كيس صغير من القماش، لكنها كانت ثقيلة وتزن في المتوسط كيلو ونصف الكيلو غرام"، بسبب وزن الخيوط المعدنية التي يوشى بها النسيج. ويرصد شالكرافت أن الطلب كان كبيراً على الشيلان الأسيوطي في القاهرة.

وفي نهايات القرن الـ19 عُرف التلِّي خارج مصر، ووصل إلى دول كثيرة نظراً لارتباطه بالموروث الحضاري والثقافي المصري وعرف باسم "الشال الأسيوطي"، ما جعل له شخصية متفردة، فلا يوجد ما يشبهه في دول وحضارات أخرى، وأصبح شائعاً مرة أخرى مع السحر المحيط باكتشاف قبر الملك توت عام 1922. وفي مصر ارتدت ملابس التُلّ الموشاة بالتلِّي الأسيوطي عدة شخصيات نسائية، منهن الراقصات، والممثلات، والملكات أيضاً. فارتدت ملكة جمال الكون المصرية شارلوت واصف ثوب تلي في المسابقة الرسمية عام 1934، مثلما ارتدت ملكة مصر نازلي زوجة الملك فؤاد الأول التلِّي الأسيوطي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard