لم يكن على سبيل الصدفة ولا حتى الحظ، أن ينجح مسلسل التغريبة الفلسطينية وأن يحقق كل الجماهيرية التي رافقت عرضه، وما زال صداها حتى اليوم، رغم أن مخرجها رحل قبل عامين. بل يمكننا بكل صدق أن نقول إن تغريبته ستبقى الشاهد الأقوى على نجاحه وتخليد اسمه رغم كل النجاحات التي سبقتها وتلتها.
النسخة الأولى من التغريبة الفلسطينية
قبل الحديث عن حاتم وتغريبته لا بد من الرجوع درامياً إلى الخلف، تحديداً إلى العام 2000 مع مسلسل (الدرب الطويل) الذي كتبه الدكتور وليد سيف، والذي يعتبر النسخة الأولى من التغريبة الفلسطينية، لكنها النسخة اليتيمة التي لم يسمع بها أحد رغم أنها كانت من إنتاج شركة كبيرة جداً، مؤسسة الخليج للأعمال الفنية في دبي ومن إخراج صلاح أبو هنود ولعب بطولتها عباس النوري، ومحمد العبادي، ومحمد القباني، وعاكف نجم، ومسيرة خوري، ونادرة عمراه، وإيمان هايل، وإياد نصار، ووائل نجم، ومجد القصص، وعلي العليان وغيرهم.
لكن هذا العمل بقي مجهولاً حتى رفعت حلقاته الـ31 إلى موقع اليوتيوب وشاهده البعض بالصدفة أو بناءً على توصية، كما فشل تسويقياً وقد تجرأ كاتبه لإعادة إنتاجه وتقديمه مع المخرج السوري حاتم علي. يقول حاتم: "عُنوِنَ العمل الذي كتبه وليد سيف لاحقًا بـ "التغريبة الفلسطينية"، بعد أن كان عنوانه "الدرب الطويل"، "بغيـة الابتعـاد عن كليـشيات، وشـعارات المرحلـة الـسابقة، واخـتراع إحالـة حكائية أو تاريخيـة باتجـاه (تغريبـات) أكثـر قـدمًا وإيغـالًا في التـاريخ. وكـان هنـاك اعتراضـات حتى من قبـل عـرض المسلـسل، علـى «محاولـة» اخـتراع مـصطلح غـير دقيـق يفرّغ القضية من مـضمونها الـسياسي المتعـارف عليـه، مثـل "النكبـة"، فيمـا بعد تحول حتى عنوان المسلسل إلى "مصطلح سياسي".
حاتم علي والقضية الفلسطينية
وبالعودة لحاتم علي الانسان والفنان، فلقد استوقفته القضية الفلسطينية وربما كانت تمثل جزءاً من حياته وخاصة في مراحل طفولته المبكرة حين نزح من الجولان إلى دمشق تحديداً مخيم اليرموك، وكان حينها وحتى وقت قريب جداً حياً سكنياً مكتظاً باللاجئين الفلسطينيين، فأختلط بأقرانه من الأطفال ودرس في مدارسهم (مدارس مفوضية اللاجئين) فعرف كل تفاصيل حياتهم وظروفه.
ما هو سر نجاح مسلسل التغريبة الفلسطينية وما سر الجماهيرية التي رافقت عرضه وما زال صداها واضحًا حتّى اليوم؟
يقول حاتم علي في كتاب الاستبداد المفرح "إلى أن تحولت وبالتدريج هذه التركيبة الجديدة إلى وصـفة كيماويـة قي اللاشـعور، فلـم تعـد هنـاك جذور فاصلة بين نازحي 1967 ولاجئـي 1948 حتى أنني كنـت أحـصل علـى نفـس حقـوق الطالـب الفلـسطيني، وعلى الفطـور الصباحي الـذي كانـت تحرص هذه المدارس على تقديمه لطلابها"، كما أن نهمه للقراءة وحبه لكتابات غسان كنفاني كانا سبباً إضافياً ليتعمق ويتعلق بفلسطين.
يقول "لطالما دهشت لاحقًا، بأن معظم القصص التي كتبها كنفاني وأثرت فـيَّ، كانت تلـك الـتي لم تتحـدث عـن القـضية الفلـسطينية بـشكل مباشـر، كنـت أرى فيـه كاتبًا سابقًا لعـصره، ولقـد أكـسب شخـصياته بُعـدًا وجـدانيًّا، وربما بعدًا وجوديًّا عميقًا، ولم يكن يخجل من أن يكتب قصصًا عن الحـب بعيـدًا مـن الـشعارات والتنميطـات الـسائدة في ذلـك الوقت الـذي كانـت تخضع فيـه السينما والأدب لاعتبارات دعائية في معظمها، وأنا من حيـث لا أدري كانت تستهويني عوالم غـسان كنفـاني الخاصـة. أضف إلى ذلك ما سببه من تأثير وجداني فيلم (كفر قاسم) الذي أخرجه اللبناني برهان علوية وأعاد فيه ربما أهم مجزرة حصلت في تاريخ فلسطين حينها إلى جانب فيلم (المخدوعون) الذي أخرجه المصري توفيق صالح. كل تلك الأسباب جعلت من القضية الفلسطينية قضيت. يقول حاتم علي "في "التغريبة الفلسطينية" كنت أشعر أنني أصنع مسلسلًا عنّي أنا، لأنـه كـانت هناك تقاطعات كبيرة بين هؤلاء الناس وبيني كشخص".
التغريبة الفلسطينية
لكن كيف تعرف حاتم علي بالكاتب وليد سيف الشاعر وكيف حصل بينهما كل هذا التعاون الذي توج في نهايته بالتغريبة الفلسطينية؟ يقول ناصر الجليلي وهو مهندس الديكور الذي سيرافق حاتم علي في معظم أعماله الدرامية: "كنت قد شاهدت مسلسل الخنساء الذي كتبه وليد سيف وأعجبني، وكان لديه سيناريو كتبه عن صلاح الدين، وتوقفت شركة الإنتاج عن تبنّيه بسبب ميزانيته الضخمة، فقمت باقتراحه على حاتم الذي كلفني بطلبه لقراءة جزء منه، وحين أعجب جدًّا به، طلبه من الشركة التي وافق مديرها أيمن زيدان مباشرة وتنازل عنه". وبالفعل تم التعاون ما بين الرجلين.
لم نكن نعلم بأنه يحق لنا أن نتحدّث عن فلسطين قبل النكبة وأن نعترف بأنها لم تكن الفردوس أو الجنّة الضائعة، وهذا بالتحديد ما قدّمه مسلسل "التغريبة الفلسطينية"
يقول وليد سيف في كتابه الشاهد المشهود: "لم أكن مهتمًّا بالكتابة التاريخية جدًّا، وكنت أرى أنها تواجه تحديًّا إبداعيًّا لا تواجه مثله الدراما الاجتماعية، ولطالما تساءلت، كيف سيتصرف الكاتب بالمادة التاريخية المدونة وفقًا لمقتضيات الفن الدرامي من جهة، ووفقاً لرؤية الفن وأسئلته الإنسانية، من دون أن يخل بالحقائق التاريخية، أو يتعسف في استقراء المادة التاريخية على نحو فج في خدمة منظور أيديولوجي مسبق، أو بدعوى الإسقاط ".
نجح مسلسل صلاح الدين باكورة التعاون ما بين حاتم علي شاعر الصورة ووليد سيف شاعر الكلمة الذي تمتع بليونة في كتابة التاريخ، وفصاحة في إنشاء لغته، وكان العمل من 30 حلقة تلفزيونية، ومن بطولة جمال سليمان الذي أدّى دور صلاح الدين الأيوبي، وسوزان نجم الدين التي أدّت دور عصمة الدين خاتون، إلى جانب كلٍّ من باسم ياخور، ونجاح سفكوني، ووائل رمضان، والمغربي محمد مفتاح، وآخرين.
رحلة من الأعمال الناجحة
ثم بدأت رحلة من الأعمال الناجحة والمشتركة ما بين المبدعين، فكانت الرباعية الأندلسية، وهي سلسلة تلفزيونية تاريخية، نفّذت منها ثلاثة أعمال فقط، وبينما كانا منشغلين في الموسم الرابع، توقف الرجلان ليقدّما عملًا في إطارٍ مختلفٍ، ليس فقط في تخلّيهما عن البيئة التاريخية واتجاههما إلى البيئة الاجتماعية والريف تحديدًا، بل لكونه عملًا يعدّ الولوج إليه نوعًا من المخاطرة في زمنٍ قل الاهتمام بتسويق هكذا أعمال، لكن يبدو أنّ الرجلين قد قرّرا استثمار نجاحهما وفورة الإنتاج حينها، فقدّما تحفتهما الفنية (التغريبة الفلسطينية) في العام 2004، وهو العام الفاصل دراميًّا ما بين مسلسل ملوك الطوائف ومسلسل ربيع قرطبة.
أثبت لنا مسلسل "التغريبة الفلسطينية" أن الجرأة في الحديث عن تاريخنا بجرأة ودون شعارات أو تزييف أو تجميل لها صدى حقيقي وعميق في العالم العربي
يقول حاتم علي: "لطالمـا انتـابتني رغبـة في عمـل شـيء عـن القـضية الفلـسطينية قبـل "التغريبة"، لكنّ هذا الأمر لم يكن قراري وحـدي، ولـو لم يـشأ الظـرف، وتشاء رغبة المؤلف، ورغبتي مجتمعة مع حماس وجنون منتج بلحظة مـا، لما كان ممكنًا إنجاز هذا العمل"، لكن العمل الأدبي الذي لقي في عرضه الأول (الدرب الطويل) مشكلة تسويقية كاد يعاني في نسخته الثانية من نفس المشكلة.
يقول حاتم: "عندما جرى اقـتراح مسلسل (التغريبة الفلسطينية) لاقى في بدايته أيضاً هذه المصاعب نفسها، وربما أكثر، فقد تخوفت شركة الإنتـاج من عدم قدرتها على تسويقه، ولكني ووليد سيف اسـتطعنا إقناع الجهـة المنتجة، بأنه من الممكن أن يكون مادة تـسويقية إن نجحنا في تقـديم وجهـة نظرنا الخاصة والمختلفة. وأنـا أعتقـد أن نصَّ وليـد سـيف جاء بمثابة حلم، لأنه تضمن كـثيراً مـن الأشـياء الـتي تمـسّني، وبطريقـة تلائـم وجهـة نظري، فلم أجد صعوبات تذكر في تطويعه بالاتجاه الذي أريده، باسـتثناء (لملمة) الحكايات، وضبط إيقاع العمل، وتخليصه من الزوائد"، ولتحقيق ذلك استخدم حاتم علي حلاً دراميّاً لسرد الحكاية، وربما للملمتها كما أشار، فكان صوت علي الذي يمثل الراوي ويؤدّي دوره تيم حسن الأبن الوحيد المتعلم من عائلة أبي صالح، بما امتلك من ثقافة وتعليم، ليقوم بسرد الحكاية أو التعليق عليها أحيانًا بلغته.
نجحت التغريبة الفلسطينية التي لعب بطولتها خالد تاجا، وجمال سليمان، ويارا صبري، وتيم حسن، وباسل خياط، وجوليا عواد وغيرهم، لأنها كما يشير حاتم لم "تعـنِ فقط التاريخ المتعارف عليه الذي يبدأ منذ سنة 1948، بل ما هو سابق علـى هـذا التوقيـت، في مـا يخـص هـذه العائلـة، ومـن هنـا كانـت لحظـة بـدء العمـل قبـل تـاريخ النكبـة، وحتـى مـن قبـل ثـورة 1936 بـأعوام ، فهـذه العائلة كانت تحس بالغربة حتى ضمن النسيج الفلسطيني نفسه، لأنـه لم يكن الفردوس أو الجنّة. وهو مثله مثل كل المجتمعات العربية، ساده الإقطاع والظلم الاجتمـاعي واضـطهاد المـرأة، وكـل العيـوب الـتي كانـت موجـودة في بـلاد الـشام ً عمومـًا، وكـان المجتمع الفلسطيني جـزءًا مـن هذه المجتمعات. إنها محاولة لردّ هـذه النكبة ليس فقط إلى مشروع استعماري خـارجي، وإنما أيضًا إلى أسباب ذاتيـة خاصة كانت في المجتمع الفلسطيني نفسه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع