في صباح أحد أيام يناير/ كانون الثاني 2021 توفيت النجمة الموسيقية الاسكتلدنية "صوفي" في أثينا عندما فقدت توازنها وسقطت من الشرفة بينما كانت تتأمل القمر المكتمل السطوع.
تحتل صوفي العابرة جندرياً، مكانة مزدوجة في قاعات الشهرة فهي غير معروفة للعالم الأكبر ولكنها أيقونة محبوبة للمجتمع الكويري.
أشعر أن شبح صوفي يطاردني في أثينا.
كان رحيلها سابقاً لأوانه ومأسوياً ولكنه حدث بطريقة لا تخلو من الشعر والشاعرية.
الموسيقية الاسكتلدنية "صوفي" التي توفيت هذا العام بعمر 34، بعد أن سقطت من شرفتها في أثينا
في صباح مبكر من أيام أثينا، ذهبت في مغامرة متهورة لطالما حلمت بها منذ أن بدأت زيارتي إلى اليونان، أن أتسلق جبل بارنيثا لاستكشف كهف بان، وهو موقع قديم في ضواحي أثينا البعيدة.
كان الارتفاع محفوفاً بالمخاطر، وكنت وحدي، واستقبال شبكة الهاتف المحمول ضعيفاً.
فكرت أنها لن تكون طريقة سيئة للرحيل إذا متُ هنا. سوف أكون مثل صوفي، إنها ضحية السعي وراء الجمال.
يذكّرني وجهك بالأيّام السعيدة
أستيقظ ببطء في بيت صديقتي الكائن بأحد شوارع فيكتوريا الفرعية في اليونان.
أنتقل إلى المطبخ وأفكر قليلاً في صنع القهوة بنفسي، لكنني أقرر أن أتناولها في الخارج بدلاً من ذلك.
الطريق إلى المقهى في حد ذاته ينشط خلايا مخي.
ذهبت في مغامرة لطالما حلمت بها، أن أتسلق جبل بارنيثا في أثينا.
كان الارتفاع محفوفاً بالمخاطر، وكنتُ وحدي. فكرت أنني إذا متُ هنا، سوف أكون مثل صوفي، إنها ضحية السعي وراء الجمال.
في شارع Acharnon الرئيسي مررت أمام سوبرماركت بولندي، ثم محل عربي يحمل اسم "ريحة بلدك" والعديد من المطاعم الأفغانية.
أمشي أمام مراهقين يشمّان مسحوقاً أبيض منشوراً على أرضية رخامية بورقة خمسة يورو.
عبرت الشارع باتجاه ميدان فيكتوريا، ومررت بسلسلة من الغرافيتي المكتوبة بالعربية، تقول حرية، لا للعنصرية.
في ساحة فيكتوريا، مررت بمجموعة من الرجال المصريين يتجادلون حول شيء له علاقة بالمال.
شلة من الشباب الصوماليين يتمايلون على الألحان الموسيقية المنطلقة من هاتف أحدهم، وأطفال يركضون خلف الحمام الذي يملأ الميدان، ويطير في ذعر.
أجلس على كرسي خارج المقهى وأستأنف مشاهدة الناس.
عيني تتابع الوجوه الجميلة، ألاحظ حركات الجسم والإيماءات.
شاب يمشي نحوي، أراقب خصلات شعره، عينيه، الملابس التي يرتديها والطريقة التي يتحرك بها، شيء ما يخبرني أنه مصري، وأشعر بالإثارة عندما يلتقط هاتفه ليقول "إزيك ياسطى".
حماسي يتحول إلى ارتباك وأنا أفكر في معنى قدرتي على التعرف على أصوله من خلال مظهره.
هل أصبحت متمرساً في تقنيات التعرف على الوجه مثل تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
بخلاف حياتي في برلين لا أشعر بأني مختلف كثيراً عن الجموع في المساحات العامة من حيث المظهر الجسدي والملامح عندما أكون في اليونان.
يبدو أنني يوناني إلى أن يكشف افتقاري لمهارات اللغة اليونانية أنني أجنبي.
ومع ذلك فإن بعض المواقف تلقي ظلالاً من الشك على هذه الأطروحة، كالمرة التي التقطني ضباط الشرطة من بين الحشد لفحص قالوا إنه "عشوائي".
عندما خاطبني شخص آخر باللغة العربية ليسأل عن كيفية الوصول إلى وجهته.
عندما يبدأ الناس محادثة بسؤالي عن أي بلد أتيت منها قبل أن أفتح فمي.
يبدو شكلي يونانياً إلى أن يكشف افتقاري لمهارات اللغة اليونانية أنني أجنبي. ومع ذلك التقطني ضباط الشرطة من بين الحشد مرة لفحص قالوا إنه "عشوائي".
أو اللحظات التي قيل لي فيها بصراحة أنا لا أبدو يونانياً تماماً.
عندما استفسرت عما يميزني عن اليونانيين، قيل لي إنهما حاجباي.
قال أحدهم إن حاجبي كثيفان للغاية.
قال آخرون إن وجهي مصري، الشيء الذي سمعته كثيراً في سياقات مختلفة، مثل تلك المرة في أحد النوادي الليلية في برلين عندما سألتني فتاة إذا كنت مصرياً.
يبدو ذلك مرتبطاً بالصور المتداولة للمصريين القدماء، مثل صور الفيوم.
أحياناً ألعب وأؤكد أنني من نسل "نفرتيتي"، الملكة التي قادت مع زوجها أخناتون ثورة دينية أجبرتهما على نقل العاصمة القديمة من طيبة إلى العمارنة، بالقرب من مسقط رأسي، والتي يعني اسمها أن الجميلة قد أتت.
هل تعني ملامح الوجه هذه أي شيء أم أنها مجرد لعبة إسقاط؟
في شوارع أثينا ، كنت ألعب لعبة حيث أحاول معرفة ما إذا كان الشخص سيكون يونانياً أم مصرياً.
ذات مرة بدا وجه بائع الآيس كريم مشابهاً جداً لوجه رجل يوناني أعجبتُ به، ثم رددت سراً أنهما قد يكونان قريبين، ثم ضحكت على نفسي وأنا أفكر أني ربما أبحث عن وجه مقصودي في كل مكان.
ذكّرتني العديد من الوجوه في الحشود بوجوه معارف وأصدقاء من مصر.
ذات مرة بدا وجه بائع الآيس كريم في موناستيراكي مشابهاً جداً لوجه رجل يوناني أعجبت به، ثم رددت سراً أنهما قد يكونان قريبين، ثم ضحكت على نفسي وأنا أفكر أني ربما أبحث عن وجه مقصودي في كل مكان.
أعتقد أنني تدربت على مهارة قراءة الوجه واكتشاف التشابه من قبل عائلتي.
كانت مقارنة الملامح وتحديد التشابهات شائعة في الأسرة.
عندما اجتمعت مع عائلتي في مصر بعد سنوات من المنفى في برلين، كانت أختي قد أنجبت للتو ولداً صغيراً.
أمضت والدتي وخالاتي ساعات في قراءة ملامح الطفل، وما إذا كان يرث سمات الأب أو الأم، يقول البعض إنه يمتلك أنف جده، والبعض الآخر قد يجادل بأن لديه عيني عمته.
انزعجت وصرخت أن يتوقفوا! أداروا رؤوسهم نحوي ونظرة عيونهم تقول إن سنوات الغربة جعلتني غريب الأطوار.
ولكن حياتي في ألمانيا جعلتني أربط مقارنة الملامح بنظريات الطب النازي التي بررت المجازر التي قاموا بارتكابها.
أعتقد أن لعبتي في مقارنة الوجوه المصرية واليونانية كانت بدافع آخر تماماً.
لقد كانت تنبع من رغبتي في الانخراط والاندماج في المدينة، وإدراكي بحتمية الاغتراب حتى في مكان يذكرني بمصر مثل أثينا.
المدينة الأكثر قبحاً
بعد قضاء ليلة سينمائية في إحدى دور السينما في الهواء الطلق القديمة في أثينا، تمشيت مع صديقي اليوناني.
قال إن أثينا مدينة قبيحة، غابة إسمنتية بلا روح، شوارعها لا يمكن السير فيها.
أتفق معه بشأن الأرصفة التي غالباً ما تكون ضيقة أو غير مستوية أو زلقة. يذكرني كلامه بالقاهرة، وافتقارها إلى الانسجام وتضارب هويتها ولون الطوب الأحمر والتراب الذي يغطي أبنيتها.
صورة للقمر في أثينا،التقطها الكاتب "أحمد عوض الله" أثناء وجوده هناك
تحتاج المدن إلى توازن بين النظام والفوضى، توازن بين التوافق والاختلاف حتى تحقق معايير الجمال.
أرد على صديقي أن القاهرة أكثر قبحاً، استطرد أن برلين أيضاً قبيحة لأن معظم مبانيها تم بناؤها على عجل بعد الحرب بشكل عملي وليس جمالياً .
لكن ربما هناك معايير لجمال المدينة غير مدى نظامها أو تنوعها أو إتاحة مرافقها.
تحتاج المدن إلى توازن بين النظام والفوضى، توازن بين التوافق والاختلاف حتى تحقق معايير الجمال
أحب المناطق التي تسمح بتأمل مظاهر الحياة. ربما لذلك تشعرني مناطق كثيرة في برلين بالوحشة.
أرى أن جمال المدينة ومشاعرنا نحوها لهما علاقة بناس المدينة وعلاقتنا معهم.
هل تشعر فيها بالأمان أم يحدق الناس فيك باستغراب؟ هل تحس أن من السهل مخاطبة أحدهم طلبا للمساعدة؟ الإحساس بجمال المدينة لا يحدده تخطيطها المعماري فحسب، بل أيضاً هويتنا في المدينة.
هل تعاني من نظرات العنصرية أو رهاب المثلية؟ الغرباء عن المدينة يرونها بأعين مختلفة عن سكانها الأصليين.
أحب المناطق التي تسمح بتأمل مظاهر الحياة. ربما لذلك تشعرني مناطق كثيرة في برلين بالوحشة
أتيت إلى أثينا كمسألة اختيار وبشكل مؤقت، مما يعني الاهتمام بالتفاصيل، وإحساساً بالدهشة لا يشعر به السكان المحليون. عندما أتسلق أحد مرتفعات أثينا المتعددة أرى عمرانها كبحر أبيض متجانس الجمال.
الكثير من الجمال في العالم
ألقي نظرة على خرائط الهاتف النقال، اخترت منطقة سأقضي اليوم في استكشافها.
اخترت بيرايوس الميناء الرئيسي في أثينا. ساعة قديمة تتشبث بجدار محطة القطار تذكرني بتلك الموجودة في محطة مصر. أتجول بين البيوت القديمة. مسرح كبير مزين بملصقات ضخمة تحمل وجوه ممثلين بانفعالات درامية.
قطعتُ حديقة تمارس فيها النساء اليوغا كمكان عام.
كتابات على الحائط تقول اللعنة على الإسلام. عرفت وقتها أن بيرايوس تختلف كثيراً عن واحة المهاجرين فيكتوريا.
يمكنك بسهولة نسيان أن أثينا تقع على البحر ولكن في بيرايوس تشعر بوجوده وتشم رائحته.
قادتني قدماي إلى شاطئ. أمشي إلى نهايته حتى أجد كرسياً وحيداً يجلس يائساً على شاطئه.
ورائي منزل مهجور، تتسرب ألوان الجداريات من خلال شقوقه.
ذهبت للسباحة وقضيت اليوم أتحدث إلى البحر. يستغرب أصدقائي أحياناً قدرتي على السفر والاستكشاف وحدي.
ربما أشعر أحياناً بالملل والوحدة لكن في خبرة السفر هي ما يعوض ذلك.
بعدها بعدة أيام عدت إلى نفس البقعة ولكني لم أكن وحدي. ذهبت مع "ك" الذي تعرفت عليه في بار الليلة السابقة.
"هناك الكثير من الجمال في العالم. علينا ألا ننتظر حتى يأتي شريك في حياتنا لنسعى وراءه".
أثناء تبادلنا القصص وبناء التماثيل الحجرية على الشاطئ، قابلنا طلوع القمر المضيء. كان القمر كاملاً،فاتن الجمال، بقينا حتى المساء.
بدأ المزيد من الناس في التدفق إلى الشاطئ الذي كان شبه خالٍ قبل قليل.
معظمهم عشاق صغار السن يتوقون إلى لمس بعضهم البعض.
جاؤوا من أجل اكتمال القمر. أتذكر عدد المرات التي لم أستطع فيها رؤية البدر في برلين، مختبئاً خلف الغيوم الكثيفة التي تضفي على برلين طابعها الرمادي الرطب.
يضيء القمر في أثينا بثقة، واعياً أن هناك حشداً يشهد مجده. يقول لي (ك): "هناك الكثير من الجمال في العالم. علينا ألا ننتظر حتى يأتي شريك في حياتنا لنسعى وراءه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون