شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
المدينة الكرتونية

المدينة الكرتونية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 27 فبراير 202111:03 ص

قال منصور: أصبحتَ الآن مواطناً غوتينغنیاً.

قلت: لا أصدّق إلى أن تخرج هذه الجملة من أفواه الألمان أنفسهم.

وكنت أقصد جواز السفر الألماني الذي يضعونه أمام عيني وقد كُتب فيه: "الجنسية: ألماني".

بعد عام ونصف من المكوث في المخيم، وهبتنا بلدية غوتينغن بيتاً. 

لا فرق بين المخيمات في أي مكان، حتى خيام ألمانيا لا تزال خياماً باردة. تركنا أخيراً سُعالَ ابنتي المتواصل من ضيق التنفس في المخيم، وانتقلنا إلى البيت الجديد.

ساعدنا بعض الأصدقاء الإيرانيين في توفير أثاث بسيط للبيت، ويوم استلامه وتنظيفه جاؤوا للمساعدة أيضاً. 

إنه أول بيت في شكل حياتي الجديدة.

التفت منصور نحوي بعد برهة قصيرة من التأمل، وقال: لا يقولون ذلك أبداً. الطفل يجب أن يخرج من البطن. هل أنت خارج من بطن ألمانيا؟

نظرت إليه. لم أتوقّع أن یفتح مثل هذا الحديث في أول يوم أشعر فيه بالسعادة في ألمانيا. 

 فَهِم الأمر، فاستدرك وحاول تلطيف الجوّ، وضحك.

كان صادو حاضراً. ضحك أيضاً وضحكت معهما.

أشعر "كأنّ الريحَ تحتي" في الغربة، وأيّ موجة صغيرة، حتى مزحة طفيفة لصديق ما، تتحول إلى موجة كبيرة وتسير لتغطّي كينونتي المرتجفة.

كنت أشعر بالسعادة، لأن البيت الذي وهَبتني إياه البلدية يقع في حيّ يسكن فيه بعض الرفاق من مدينتي. 

أشعر "كأنّ الريحَ تحتي" في الغربة، وأيّ موجة صغيرة، حتى مزحة طفيفة لصديق ما، تتحول إلى موجة كبيرة وتسير لتغطّي كينونتي المرتجفة

مدينتنا البعيدة التي نحملها معنا مثل حقيبة حزينة، ولا نريد أن يمسّها أي غبار. 

لا أعرف كيف قلت: لو كنّا الآن في إيران، في مدينتنا، لذهبت إلى محلّ "آلبو"، واشتريت كعكة "كوماج" وأكلناها بوَلعٍ مع القهوة.

قال منصور مازحاً: وعلى طريقك، اجلبْ سندويتشتين مع المرتديلا من "كَلعين" فأنا أموت من أجلها!

قلت: أين "آلبو" من "كَلعين"؟ لا يا عمّي، سيطول طريقي. وضحكت. كانت لعبة ليس إلا. فأين نحن من إيران؟!

لم يضحك منصور. قال: كيف سيطول طريقك؟ لا يبعد المحلّ إلا عشر خطوات.

قلت: ما هذا الهراء يا منصور؟ أين "سندويتش كَلعين" وأين "كوماج آلبو"؟!

حدّق منصور في عينيّ مبهوتاً.

فجأة، بطريقة عبثية، ومن أجل مزحة "بائخة" اشتبك وجهي في وجهه.

حاول صادو أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه. قال: الحقّ معه... "سندويتش كلعين" كان في شارع "لِيان" يا منصور!

قال منصور: قاوِم إلزهايمر الذي تعاني منه يا صادو. ومدّ قامته ليقرّب الكرتون الفارغ من البرّاد الذي كنا وضعناه حديثاً، وفي مركزه رسم تقاطعاً بالقلم اللّبدي. كنا جالسين على أرضية البيت العارية نشرب الشاي بالإبريق.

قال: هذا تقاطع "نادر"، أليس كذلك؟

قلنا: بلى.

قال: وهذا محلّ "الحاج فولاد". طيب؟ بائعات اللبن كنّ يجلسن هنا، وهذا الشارع يؤدي إلى دوار "6 بَهمن". مع هذه التفاصيل، ألا يقع محلّ "كوماج آلبو" هنا، على يمينك؟

قلت: لا.

نظر إليّ وكأن عقلي لم يعد في مكانه في رأسي.

قال: أنا الذي لم أكن في إيران منذ ثلاثين عاماً، لماذا خلطتَ الحابل بالنابل؟

مدينتنا البعيدة التي نحملها معنا مثل حقيبة حزينة، ولا نريد أن يمسّها أي غبار. 

قلتُ: كلانا نقول الصحيح يا منصور!

قال: مستحيل، لا يمكن جمع الأضداد!

قلت: دعِ الفلسفة والمنطق يا منصور، كلّ هذا الرصيف تعبّد منذ سنين… و"الباساجيْن" أوصلا ببعضهما بعضاً.

نظر صادو بفزع، وقال: صحيح يا حميد؟

قال منصور: صدقاً تقول يا حميد؟

الحزن الجاثم في عيونهما أخرسني. تراجعت، كأنني كنت جلست ليلاً خلف المجرفة الآلية وهدمتُ محل "آلبو" و"حسين للتذاكر" و"علي الشربَتي" وأخذتُها جميعاً إلى وسط سوق "صفا".

تضاعف الفزعُ في عينيّ صادو، وكأنه يريد أن يؤجّل خبراً سيئاً، فسأل: أين أصبح الآن بيت "دي جيجو"؟

أخذت القلم اللّبدي من يد منصور، ورسمتُ خطاً ليكون جدارَ دائرة الجمارك. ثمّ وضعتُ مستطيلاً مكانَ "جامع دِهدَشتي"، وتحته رسمتُ دائرة ملأتُ فضاءَها بالقلم، وقلت: هنا بيت "دي جيجو".

قال صادو: جدار الجمارك قد امتدّ إلى هنا؟

أخذ القلم من يدي. رسم مثلثاً، وقال: من المفترض أن يكون هنا بيت "جمالي" الذي كان يقصّ الكتب والأوراق، لا؟

قلت: بلى. وأين محل "جاويدي" لأدوات الصيد؟

قال منصور: اسألنْي أنا عن "جاويدي". كنتُ أذهب إلى محلّه مرّتين في اليوم حين كنتُ في إيران.

 ورسم مستطيلاً بين محلّ اليهود للأقمشة وحلويات "حاج فتحْعَلي".

فكرت: كم من مدينة تطحنها سيارات النفايات كلّ صباح في أمريكا وأوروبا؟! كم من مدينة تأخذها معها للتدوير تحت وطأة نظرات مهاجر من آسيا أو امرأة متعبة من أفريقيا ولن تعيدها؟

كدتُ أقول إن "جاويدي" قد توفّي ولم يعد موجوداً، ولكنني صمتُّ لأنهما كانا أشدّ حزناً من الأوقات التي كنتُ أسمع فيها صوتيهما من خلف الهاتف طوال هذه السنوات.

تابع منصور فسألني عن "دِلو"، وعن بيت "ماشِنغ" الجميل. وطلب صادو أن أرسم البنك الوطني القديم، وموقع "سندويتش دَروازه" و"كبْكو"، ومحل "لَنكَر" للكحول الذي كان سمع أن مكتبة ما قد بُنيت مكانه. 

وهكذا توسّعت الخارطة. انتهى كرتون البرّاد قبل أن نصل إلى مقام الوليّ "عباسْعلي". قال صادو: "افتحْه!". 

كانا يجولان في المدينة بكلّ شغف. بحركة سريعة اقتلع منصور دبابيس المكبس من الكرتون وفتحه، فأصبح بإمكاننا أن نذهب إلى الشاطئ أيضاً، وإلى ميناء "جُفرهْ" و"جبري".

كان يتنقل القلم بيننا من يد إلى أخرى، نرسم خطوطاً ونضع نقاطاً، نتريّث، ثمّ نعيد السير ثانية. سرنا وسرنا إلى أن حلّت الساعة الرابعة صباحاً.

حين وضعنا القلم على الأرض كنّا في مدينة كرتونية. ثم تركناها. تراجعنا وجلس كل منا في زاوية من البيت العاري والفارغ من الأثاث، الذي منحتني إياه بلدية غوتينغن، وبه قد اعترفتْ بي رسمياً. جلسنا القرفصاء محدّقين في مدينة بعيدة في الشرق الأوسط.

انحنى صادو فجأة ولمس قبرَ أمِّه في المستطيل الكبير الذي كنّا رسمناه للمقبرة، وكأنه يجسّ قبرها الحقيقي، ويعوّض عن غيابه حين ماتت ولم يكن في إيران. ثمّ تقدّم مباشرة نحو المكان الفارغ للمنارة ووضع إصبعه هناك. 

قال: هنا دخّنت أول سيجارة في حياتي. قال منصور: الأنصاف الأولى من حيوات الرّفاق كانت تحت هذه المنارة: أول غطسة في البحر، أول حبّ، أول أغنية، أول بكاء رجولي كنت تريد أن يكون بعيداً عن عيون الغرباء.

وساد الصمت.

اقتربت من الكرتون وهممت بلمّه. نظرت إليه فلم يكن شيء مكان فندق "السيّاح". مستطيل فارغ فقط. "Handle With Care" كان الآن أمام بيت "عبدو جميل". ضحكت. لم يكن بحال جيدة حين وضبنا الحقائب قبل خروجنا من إيران. كأن العجوز كان ليعيش اليوم وغداً وحسب.

إشارة "40-" كانت بالقرب من محلّ "شَربتْ علي". كأن التقنية الألمانية كانت تريد إسعافه ليذهب الناس في الصيف الحارق إليه ويشعروا بالبرد، حتى دون أيّ شراب.

أسفل المدينة كان قد كُتب: "manufactured by: دي جيجو".

"دي جيجو" الذي كان قد طبخ الحمّص والفول طوال عمره، والآن كانت شركة ألمانية لصنع البرّادات قد تعرّفت إليه، واشترت ماركته.

ذهب صادو ومنصور كلّ إلى بيته. عند مغادرتهما وضعا كرتون البرّاد والمدينة التي كانت بين ثناياه، بالقرب من مكبّ القمامة على الرصيف، وذهبا. كان الثلج قد هطل طوال الليل. 

حين سحقت سيارة طحن النفايات الآلية ورق الكرتون وابتلعته، عرفت أنه لم تعد لديّ مدينة بعد اليوم، وعليّ أن أبقى هنا، خيراً كان أم لم يكن. 

لا أعتقد أن أحداً ما، حتى تلك اللحظة، كان قد نظر نحو سيارة النفايات بمثل هذا القلق. فكرت: كم من مدينة تطحنها سيارات النفايات كلّ صباح في أمريكا وأوروبا؟! كم من مدينة تأخذها معها للتدوير تحت وطأة نظرات مهاجر من آسيا أو امرأة متعبة من أفريقيا ولن تعيدها؟


ترجمتها من الفارسية: مريم حيدري



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image