"أنتِ من كل عقلك؟ هذي دولة كيف تقدري عليها؟!"، وغيرها، انتقاداتٌ اعتادت هبة أبو الفيلات، الاستماع إليها بين الفينة والأُخرى من قِبل بعض الأشخاص المحيطين بها بعد دفاعها عن حقوق ذوي الإعاقة في الأردن.
هبة، وهي أُمٌ لتوأمين أحدهما مُصابٌ بإعاقةٍ حركيّة (شلل دماغيّ)، انضمت إلى حملة "ابني" في بداية تأسيسها عام 2020، بعد ما عُرف عنها من دفاعها عن حقوق ذوي الإعاقة. وتوافقت أهدافها مع غاية الحملة التي سعت إلى المطالبة بتفعيل قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ومواده التي تنص على تأمين الخدمات العلاجية والتأهيلية الطبية لهم بشكل مجاني في الأردن.
225 دولاراً شهرياً
داومت أبو الفيلات، على دفع 160 ديناراً (225 دولاراً)، شهرياً، تكاليف علاج لطفلها من أجل جلسات التأهيل، واصفةً ذلك لرصيف22، بقولها: "ابني له 10 سنوات بياخد جلسات العلاج وبنطالب يضل ياخدها لموته".
إذ تساعد هذه الجلسات ذوي الإعاقة على الاندماج أكثر في الواقع، فطفل هبة الذي لم يكن قادراً على رفع رأسه، بات يمكنه رفع يده وتحريكها في إشارةٍ منه لـ"إلى اللقاء"، كما تمكّن من إمساك القلم، والزحف نحو المرحاض، وغيرهما من الأمور التي تبدو طبيعيةً للكثيرين غير أنها كانت حلماً بالنسبة إلى تلك العائلة.
وبالرغم من ذلك، تضطر أبو الفيلات إلى مواجهة العالم الذي يلومها كل يوم، ولا يفتأ المحيطون بها يخبرونها بأنه لا فائدة، لا شيء سيتم إصلاحه، "إيش مجبرك؟ ليه بتكملي؟"، كلماتٌ اعتادت الأم على سماعها، مؤكدةً أن من الضروريّ أن يكون المنتسبون إلى الحملة من أصحاب القضيّة، لأنهم الأكثر تأثراً ودأباً على الاستمرار في المطالبة بحقوقهم والأحقّ في الدفاع عنها أمام الجميع.
هبة التي لطالما عاشت في محافظة الكرك جنوب المملكة، أُضيفت إلى تحديّاتها وصمة العار المجتمعيّة، فقد نشأ طفلها في بيئةٍ ترفض انخراطه فيها، وتستمر في إخبار والدته بأن تتوقف عن الكتابة عنه وعن حقوقه عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، غير أن مشاركتها في الحملة عززت موقفها في الدفاع عن حقوق ابنها، موضحةً: "زمان كنت أوقف أستنى بالدور مع ابني وقدّامنا 16 واحد بالمستشفى، هسا بقدر أطالب بأولويته بحسب القانون؛ لأنه من ذوي الإعاقة".
حملة "ابني" "حائط صدّ أمام أي انتهاك يواجه الأشخاص ذوي الإعاقة في الأردن".
وعلى الرغم من سماعها لعبارة "إذا الناس الطبيعية مش ماخذين حقوقهم بدك ذوي الإعاقة ياخذوها؟"، تتمسك هبة بموقفها وتجلس مع الأهالي ليتبادلوا قصص أطفالهم، في محاولةٍ منهم لتجاهل المفاضلة غير الأخلاقية التي يحاول المجتمع فرضها.
مراكز لا يمكن الوصول إليها
المستشارة في إمكانيّة الوصول ميسون حمارشة، وهي فتاة ذات إعاقةٍ حركيّةٍ، حُرمت من الوصول إلى بعض الأماكن أحياناً بسبب عدم وجود التهيئة المناسبة، وتسعى الآن إلى تفعيل القانون من خلال عملها، وإفادة أهالي الحملة بخبرتها.
ولعل عملها ضابط ارتباط في وزارة الصحة الأردنيّة سهّل عليها قياس مدى استفادة الأشخاص ذوي الإعاقة من المراكز الصحيّة وخدماتها، إذ تقول لرصيف22، إنَّ بعض المراكز لم تكن مهيّأةًّ، مستنكرةً ذَلك بـ"إيش الفايدة من فتح هاي المراكز بدون ما يكون في إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة؟".
وتروي حمارشة، عن زيارتها لمراكز تحتوي على حماماتٍ لذوي الإعاقة بيد أنها مغلَقة، أو يقتصر استخدامها على موظفي المشفى أو المدير، فتبدو مهيأةً من الخارج إلا أنّها غير مفيدة لذوي الإعاقة.
من تحقيقٍ إلى حملة
جاءت فكرة الحملة بعد نشر تحقيق بيئة تعليم "طاردة"، للصحافي أنس ضمرة، الذي نقل من خلاله معاناة الطلاب من ذوي الإعاقة لعدم تهيئة المدارس من أجل استقبالهم، ورفض بعض المدارس الأردنيّة استقبالهم برغم إلزام قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وزارة التربية والتعليم بقبول تسجيل الأطفال فيها؛ إذ تنص المادة 17 على أنه "يُحظر استبعاد الشخص من أي مؤسسة تعليمية على أساس الإعاقة أو بسببها".
بعد نشر التحقيق، تعرّف ضمرة إلى مجموعةٍ من الأهالي وتناقشوا حول الخطوة التالية، وبحثوا عما هو متعلّق بالحق في التعليم للأشخاص ذوي الإعاقة؛ لأن التحقيق لن يكفي لإحداث تغيير، حتى وصلوا إلى أنَّ هناك حقاً أولوياً مهماً، وهو الحقّ في الحصول على الجلسات التأهيليّة بشكل مجاني في وزارة الصحة.
يقول أنس، وهو الناطق باسم حملة "ابني"، لرصيف22: "صرنا نقول بما أن أولادنا غير مهيئين بشكل كامل للدخول إلى المدرسة، فمن السهل أن يرفض المدير الطفل، برغم أن ذلك غير قانوني"، وهو ما دفعهم للسعيِّ إلى تفعيل المادتين 23 و 24 من قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، في الحصول على الجلسات التأهيليّة والعلاجيّة بشكل مجاني في وزارة الصحة، والتي تبدأ مع الطفل ذي الإعاقة منذ لحظة ولادته.
ويلفت ضمرة إلى أن الحملة وعلى الرغم من أنَّ هدفها تفعيل المادتين، فهي لا تتجاهل الانتهاكات التي يعيشها ذوو الإعاقة، متحدثاً عن 8 معلماتٍ من وزارة التربية والتعليم منتدباتٍ في مدرسة الشلل الدماغي التابعة لجمعية العناية بالشلل الدماغي، إلا أنَّ الوزارة قررت وقف نفقاتهنَّ، وبعد الضغط الذي قامت به الحملة أُعيدت المعلمات إلى المدرسة وأعيدت نفقاتهنّ.
وفي حادثةٍ أُخرى، يروي عن حصولهم على اعترافٍ من المجلس القضائيّ الأردنيّ برفضه توظيف فتاة، لأنها من ذوي الإعاقة، وهو ما يعني الحصول على اعترافٍ حكوميٍّ بذلك، وهو ما يُعدّ مخالفاً للقانون الذي يوجب على المؤسسات توظيف ذوي الإعاقة فيها.
لهذا اعترف المجلس القضائيّ الأردنيّ برفضه توظيف فتاة، لأنها من ذوي الإعاقة
10 آلاف رسالة
وعن أهم التحديّات التي مرّت بها الحملة، فهي معاصرتها لثلاثةٍ من وزراء الصحة الأردنيين؛ سعد جابر، ونذير عبيدات، وفراس الهواري، وهو ما دفعهم لخلق طرق جديدةٍ لتحقيق مطالبهم. يقول أنس: "ما في تجاوب من الحكومة لأنَّا مش منظمة بتعطي الحكومة مصاري، إحنا بنطالب بحق أطفالنا وصوتنا كثير عالي"، مؤكداً: "لما بنقرر نكون شرسين فإحنا بنكون شرسين جداً".
ولا ينسى ضمرة ما حدث معهم حين رفض أحد وزراء الصحة إعطاءهم موعداً لتسليمهم العريضة التي تتضمن مطالب الحملة ووقّع عليها 12 ألف شخص؛ مما دفعهم إلى تعميم رقم هاتفه على الأهالي الذين معهم، وقاموا بإرسال رسالةٍ نصيةٍ ذات نصٍ واحد مع تغيير الاسم، "أنا فلان الفلاني من حملة ابني، مطالبنا أن نجتمع معك لتسليمك العريضة". أخبرهم الوزير في وقتٍ لاحق بأنَّ 10 آلاف رسالة وصلته في الدقيقة الواحدة.
يقول أنس: "اكتشفنا أن وزير صحة أردنياً لا يعرف أنَّ هناك التزاماً على وزارة الصحة بتوفير تأمين صحيّ مجاني لذوي الإعاقة يشمل الخدمات العلاجية والتأهيليّة".
ما الذي حققته الحملة؟
وقّعت حملة ابني مع المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ووزارة الصحة عام 2021، مذكرة تفاهم لتسهيل وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى خدمات التأهيل في المراكز الصحية الشاملة.
ونصّت المذكرة على مقترح أن يتم تقديم الخدمات التأهيلية والعلاجية إلى الأشخاص ذوي الإعاقة في المراكز الصحية الشاملة، وبموجب المذكرة بدأت وزارة الصحة بتجهيز مركز القويسمة الصحي الشامل، كمركز نموذجي ليقدّم الخدمات التأهيلية للأشخاص ذوي الإعاقة.
ونصّت المذكرة على رصد المخصصات المالية اللازمة ضمن موازنة وزارة الصحة للعام 2022، لتهيئة وتجهيز 12 مركزاً صحياً شاملاً بواقع مركز صحي في كل محافظة.
ويؤكد ضمرة على أن "(نَفَس) الحكومة طويل بالتنفيذ لكن (نَفَسنا) أطول بالضغط والمطالبة، دائماً نقول إننا لسنا أقليّةً، و15% من الموجودين في الأردن من ذوي الإعاقة، نحاول أن نُعلي صوتنا لتتذكر الحكومة وجودنا... نريد أن نكون موجودين".
تعتمد مؤسسة أهل للتنظيم المجتمعي، تمكين المجموعات ذات القضيّة المعينة ومساعدتهم على بناء إستراتيجيّةٍ نحو هدفٍ تغييري محدد من خلال مرافقتهم، "متّبعين نهج التنظيم المجتمعي"، بحسب مديرة قسم تمكين الحملات في مؤسسة أهل للتنظيم المجتمعي، ريم منّاع.
وتقول لرصيف22، إنهم يسعون إلى تحقق التغيير الذي تسعى إليه أي حملة عن طريق عمل تشاركي بقيادة أهل القضية، إذ لا يبدأ العمل وينتهي بالعدد نفسه، بل يتزايد بحشد أشخاص ضمن فرق فاعلة، مثل حملة ابني التي رافقتها أهل في بداياتها، وقدموا لها جلسات تمكين للوصول إلى الإستراتيجيّة وتطوير آليات التغيير بأنفسهم...
وتعتمد المؤسسة مرافقة الحملات من خلال منسق كلٍّ منها، والذي يلتقونه كل أُسبوعين لمدة ساعة، للحديث عن الصعوبات والتحديّات وتقديم جلسات التفكير والتيسير، خاصةً حين تكون لديهم محطات مفصلية مع أصحاب القرار.
وتؤكد منّاع: "أردنا دوماً ضمان فاعليّة أهل القضية"، وذلك عبر فاعليّتهم بما يطالبون به من دون أن يكونوا متلقّين بل فاعلين ومؤثرين، ومساعدتهم في حال احتاجوا إلى ذلك.
الخدمات حق لا مطلب
يلفت رئيس اختصاص الطب الطبيعي والتأهيل في وزارة الصحة الدكتور مروان الطاهر، لرصيف22، إلى تعاونهم مع الحملة لجعل ذوي الإعاقة أكثر استقلاليةً واعتماداً على أنفسهم من خلال حصولهم على الجلسات العلاجية والتأهيلية.
ويتابع وجود توجهٍ لدى الحكومة للتوسّع في التأهيل وإتاحته في كافة المراكز الصحية الشاملة لا المشافي فقط، مما يسهّل وصول المواطنين إليها، قائلاً: "نتمنى ألا تكون خدمات التأهيل منقوصةً، فمن حق الأشخاص ذوي الإعاقة الحصول عليها والمشاركة في المجتمع".
وحول العقبات التي يواجهونها، يشير إلى الطلب من كل مديريات الصحة ترشيح مراكز تحتوي على غرفتين إلى ثلاث غرف مناسبة لتأهيل ذوي الإعاقة، غير أن العديد من المناطق لم يبدوا تجاوبهم مع هذا، إمَّا بحجة عدم وجود مكانٍ كهذا، أو لأن هناك غرفةً واحدةً فارغةً فقط، بحسب الطاهر.
ويرى ضرورة التشارك بين المجتمع والدولة من أجل دمج ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى الأهل الذين يُفترض بهم دعم أولادهم وتأهيلهم ودفعهم للاندماج والتفاعل مع الناس.
ومن جانبها، تتابع حملة "ابني" المضيَّ في حماية الأشخاص ذوي الإعاقة والمطالبة بحقوقهم على الرغم من التحديات التي يواجهونها يومياً، إلا أنَّ الحملة مصممة على أن تكون "حائط صدّ أمام أي انتهاك يواجه الأشخاص ذوي الإعاقة في الأردن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 18 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت