المضطرب
أين العمر، وأين أنا؟
أزيح الفراشَ عن عيني كمن يصعد جبلاً
أجر خطواتي كفيلٍ كهلٍ يحاولُ الهروب من بندقية طائشة
أحدق في المرآة، لا أتعرف على من تقف أمامي
أنظر لمن حولي بغرابة
أصاب بزهايمر مفاجئ أو ربما عمى
أنفصل عن العالم كغصن بُتر من شجرة، تبلعني هوة سحيقة
أتأرجح بين الخيالات والظنون
أين اختفت الشمس؟
كيف أصبحت السماء سوداء؟
متى فنت البشرية؟
قالت الطبيبة: أزمة منتصف العمر. قلتُ: أين العمر لينتصف؟
أين أختفى صوتي؟
يخرج من فمي فراغ يتحد مع ذرات الهواء
يشكلان شيئاً هلامياً: أين أختفى صوتي؟
أفتح فمي على آخره، أجد أرضاً فاسدة
تلهو فيها الغصص كحشرات هاربة من بالوعة
دمعة ساخنة تفر من عيني إلى فمي
طعمها حارق ملتهب شائط
كعمري المتقلب على شواية الحياة.
ماذا لو أصبحت ثلاجة؟ هل سأفقد الكنز الأوحد الذي أمتلكه؟ بئر المشاعر الجياشة المرهفة التي تجعلني أبكي لو رأيت مشهداً مؤثراً أو قطاً صغيراً جائعاً. هل سأصبح تمثالاً من شمع، لا يتأثر بشيء، لا يفرح، لا يحزن، لا يحسّ أصلاً... مجاز
عمرٌ يحمل صخرة سيزيف على ظهره
استيقظتُ لاهثة الأنفاس، بعدما رأيتُ كابوساً كنت فيه أحاول الكلام، لكن يخرج من فمي فراغ فقط، يتحد مع ذرات الهواء ويُشكل شيئاً هلامياً لا أدري كنهه. كدت أجن، أين اختفى صوتي؟
أمام المرآة فتحت فمي فوجدت الكثير من الغصص تستقر في حلقي، وتعيق الكلام عن الخروج. دمعة ساخنة فرت من عيني، ونزلت على شفتيِّ، مرارتها كطعم الحياة التي أحياها، كعمري الذي يحمل صخرة سيزيف على ظهره ويذهب بها إلى كل مكان.
"نحب نغني وصوتي هارب مني، صوتي هو أنا وأنا ضايعة مني مني ومنك أنا". أغنيتي المفضلة للمطرب مايك ماسي، لا أتوقف عن سماعها، تعبّر عن حالتي في كلمات بسيطة، اختصرت معاناة أعيشها منذ ثلاثة عقود، ولا أدري لم تسيطر عليِّ بشراسة تلك الأيام. أخاف أن يهرب صوتي فأضيع وتضيع مني هويتي.
ورقة مبتلّة يدوسها العالم
منذ شهر شُخّصت للمرة الرابعة بالاكتئاب، وللمرة الأولى بكرب ما بعد الصدمة أو ما يسمى بـ post-traumatic stress disorder، كتبت لي الطبيبة أدوية كثيرة تؤخذ على مدار سنة ونصف. تقول إنها تروما قديمة لم تعالج، وهي التي جعلتني أرى الشمس سوداء وهي التي جعلتني أنهار كورقة مبتلّة بعد وفاة صديقة طفولتي وقططي في أسبوع واحد.
أترك لخلايا رئتي استنشقاق هواء الحرية، ولشعري التحرّر من القماش الذي يحبسه
تقول إن اللوزة الدماغية -تحديداً فص الإحساس بالألم- عندي ممتلئ بكل مرة فقدت فيها عزيزاً، جدتي وشروق وهدير وتقى وأميرة وكل أصدقاء طفولتي، من تجاوز عددهم خمسة عشر صديقاً، وكل القطط التي ماتت أمام عيني دون أن ألحق وأنقذها.
ما استدعى أن أخضع لعلاج مكثف سيستمر عاماً ونصف، منذ تناولت الأدوية وأنا أعيش حالة من اللامبالاة غريبة، أشعر كأنني انفصلت عن ذاتي، أو بالأحرى كأنني جالسة في فقاعة هواء كبيرة تفصلني عن العالم.
فجأة تحول الانهيار التام والفرن الناري من المشاعر إلى ثلاجة، تشعر بالبرود واللامبالاة، كأنني فقدت مشاعري بضغطة زر، لا فرح، لا حزن، لا شيء، غير سعيدة، غير تعيسة. أفتح مشاهد كنت أبكي فور رؤيتها لكنها لم تؤثر فيّ، وأخرى كانت تسقطني أرضاً من الضحك، لكنها تفشل في نزع الابتسامة مني.
أحاول كل يوم أن أنام، فلا أستطيع، أظل أتقلب في سريري يميناً ويساراً دون فائدة لساعات، حتى أشعر بالملل وأقرر أن أعمل لمخي shut down بالإجبار بقرص المنوم.
ثلاجة متحركة أو ربما تمثال من شمع
ماذا لو أصبحت ثلاجة؟ أشعر ببرودتي وأندهش من التغيير. هل سأفقد الكنز الأوحد الذي أمتلكه؟ بئر المشاعر الجياشة المرهفة التي تجعلني أبكي لو رأيت مشهداً مؤثراً أو قطاً صغيراً جائعاً. هل سأصبح تمثالاً من شمع، لا يتأثر بشيء، لا يفرح، لا يحزن، لا يحس أصلاً.
لا توجد علاقات إنسانية حقيقية في حياتي. أحتاج إلى ضمّة من أم، أخت، أب، أخ، عائلة، زوج، أبناء، أصدقاء، أحتاج تحول كل الأدوار في حياتي من الزيف إلى الحقيقة، من مجرّد اسم إلى فعل كبير؛ لأذوب فيه، وأتذوق طعم المحبة والمشاركة والدعم والرباط بيني وبين الناس.
أنا فتاة بلا أمنيات. لا أشعر بنقص أو حاجة، بل أشعر بالامتلاء والغنى والشبع والارتواء. إن كل طلباتي من الحياة أن تكون أحنّ علي، أطيب معي. أجوع إلى الحب، وأتعطش إلى الصدق، وأسعى إلى الحرية... مجاز
غصن مبتور من شجرة
أنا غصن مبتور من شجرة، مبتورة عن نفسي، عن الناس، عن العالم. أغترب في البيت، العمل، الجامعة، الشارع، البلد. أغترب وأنا أتنفّس ببرود، وأبتسم ابتسامة لزجة لا شعور فيها، وأخاف أن تستمر تلك الحالة.
أن أفقد مشاعري يعني فقد نفسي، فقد هويتي، فقد صوتي، فقد كل شيء، يعني أن أصبح فقيرة. أشعر الآن إني صفرية المشاعر والعلاقات. أصبحت نسخة مزيفة ككل الناس والعلاقات في حياتي. الزيف يتصدر المشهد وتعبت من البحث عن الحقيقة.
صندوق مغلق يتمنى لو يفتح قلبه للعالم، ويخاف
تقول صديقتي: "اقترب عيد ميلادك. أين قائمة الأمنيات الخاصة بكِ؟". تصدمني الجملة. أمنيات؟ أنا فتاة بلا أمنيات، أعيش الحياة بدون طلبات أو تطلعات. لا أشعر بنقص أو حاجة، بل أشعر بالامتلاء والغنى والشبع والارتواء. إن كل طلباتي من الحياة أن تكون أحنّ علي، أطيب معي. أجوع إلى الحب، وأتعطش إلى الصدق، وأسعى إلى الحرية.
أحيانا يخيل إليِّ أن أصدقائي يتعاملون معي على إني روح هائمة شفافة لا يروها. كل منهن تحكي لي لأنهم يعتبروني بئر أسرارهم لكن بلا سؤال. وماذا عنك أنتِ؟ أنا صندوق مغلق يتمنى لو يفتح قلبه للعالم، ويخاف.
عصفورة حرة مكانها السماء لا الأرض
تأتيني أفكار كثيرة كلها عن التحرّر. مللت من الحياة التي أحياها، تقليدية ليس فيها أي شيء جديد. عمل ثم عمل ثم عمل ثم دراسة ثم دراسة ثم دراسة.
أتخيل نفسي نسخة ثانية تماماً، نسخة متحرّرة من نفسها، الأهل، العائلة، الناس، المجتمع، البلد. أطير كفراشة، كراقصة بالية، كعصفورة خرجت للتو من قفصها، وفردت جناحيها على اتساعهما، لتجوب السماء شرقاً وغرباً، وتلف العالم شبراً شبراً لتعوض كل سنوات سجنها. لا تهاب من الأحكام، العادات، التقاليد، الأسوار التي تحيطها وتسجنها، عصفورة حرة مكانها السماء لا الأرض.
أترك لخلايا رئتي استنشقاق هواء الحرية، ولشعري التحرّر من القماش الذي يحبسه؛ ليتنفس في شمس دافئة، وهواء طلق، وأن أترك لصوتي العلو والتعبير عن نفسه بقوة وجرأة وشجاعة.
نسخة تهرب من المكتب الذي تجلس عليه ثماني ساعات يومياً تكتب مقالات SEO لا تحبها. بنت تتمنى لو تستطيع لفّ العالم كله لتأخذ كل البشر بالحضن، تغرقهم في الحنان لأنها تحتاج لقلب يشعر بها ويحبها ويتقبلها كما هي.
"صوتي هو أنا وأنا ضايعة مني مني ومنك أنا"
أتخيلني واقفة على مسرح كبير، ربما الأوبرا أو الموسيقى العربية، في البداية أرتعش من الخوف فيرتعش صوتي لكن ما إن أغمض عيني حتى أغني: "نحب نغني وصوتي هارب مني صوتي هو أنا وأنا ضايعة مني مني ومنك أنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...