شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"شنو هي الشبح؟ صمّ تراب تذبّه عليها توقع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأربعاء 11 يناير 202304:59 م

بعد الغزو العراقي للكويت، ذهب صدام حسين لتفقد جنوده المتمركزين على الساحل الكويتي، حيث وضع يده على كتف أحد الجنود، وقال: "الله يساعدك يا ابني" (يعطيك العافية، بلهجة بلاد الشام). ردّ المجنّد: "هلا سيدي". سأل صدام: "خايف يا ابني؟"، ردّ المجنّد: "لا يا سيدي، إحنا العراقيين ما نخاف". قال صدام بهدوء: "هم يخوّفونا بالشبح (الطائرة المقاتلة إف117 ستيلث)، شنو هي الشبح. صمّ تراب تذبّه عليها توقع (أي ما هي الشبح، ترمي عليها حفنة تراب فتسقط)".

بهذا الاستسهال المريع، قدّم القائد لجنوده شرحاً عن إمكانات العدو. في الوقت ذاته، كان المجندون العراقيون يرون جسراً يتهاوى أو يتحول إلى غبار، أو بنايةً تختفي برمشة عين، ثم بعد ذلك يسمعون صوت طائرة تغادر المنطقة المقصوفة. كانت طائرات الشبح وغير الشبح تعيث خراباً في العراق، من دون أن تلتفت لا إلى حفنة تراب، ولا إلى مضاد طائرات. على العكس من ذلك... فقد صدرت التعليمات، بعد فترة من اليأس، بأن يكفّ الجنود عن إطلاق المضادات تجاه هذه الطائرة، لأن ذلك صار نوعاً من العبث وتبديد الإمكانات من دون نتائج تُذكر.

هل يمكننا عدّ هذا التصرف وسيلةً لرفع معنويات المقاتلين، أم نوعاً من أنواع التضليل الذي يقوم به قليلو الموهبة والمعرفة؟ النتائج وحدها هي التي تحكم، وهي التي تجيبنا في كل معركة نخوضها أو خضناها. وهل ينطبق هذا المثال على حالتنا في فلسطين، وعلى معركتنا الطويلة للتحرر من الاحتلال؟ أقصد، هل يقدّم القادة لشعبهم خطاباً يمكن من خلاله رسم خطوط عامة لأي مواجهة، أم أن هذا الخطاب أعلى وأكبر من إمكانيات الناس، وتالياً فعدم تحقيقه هو ما يدخلنا في الإحباط المتكرر بعد كل منازلة؟

هل يمكننا عدّ هذا التصرف وسيلةً لرفع معنويات المقاتلين، أم نوعاً من أنواع التضليل الذي يقوم به قليلو الموهبة والمعرفة؟ النتائج وحدها هي التي تحكم، وهي التي تجيبنا في كل معركة نخوضها أو خضناها

عندما يكتب مثقف موثوق على صفحته في فيسبوك، في أثناء القصف على غزة، جملة من قبيل: "هذه بداية النهاية لإسرائيل"، وعندما يقف أمين عام لفصيل سياسي أمام المتظاهرين على المنارة، في وسط رام الله، ويوجه إليهم خطبةً من الشعارات الرنانة عن "دولة هشة تشبه بيت العنكبوت"، أو عندما تعرض قناة إعلامية، وتستعرض حجم ما تملكه المقاومة من صواريخ قادرة على إصابة عمق العدو، هل يملك هؤلاء إجابات مقنعةً، أو على الأقل هل يفكرون في إجابات عن أسئلة متابعيهم في حال لم تتحقق هذه الوعود؟ أم أن لا أحد يسأل أصلاً فلا داعي للإجابة؟

بمقارنة بسيطة بين تصرف الناس فرادى، وتصرفهم جماعةً، يمكننا أن نرى الفارق الشاسع بين التصرفين. فبينما تطغى الواقعية والعقلانية عليهم كأفراد، نرى الشعاراتية والرومانسية هي ما تحكم تصرفاتهم كجماعة. فلو أخذنا رب أسرة يعمل في وظيفة راتبها خمسمئة دولار، وأراد هذا الشخص أن يشتري سيارةً ليقلّ أولاده إلى المدرسة، فإنه لن يشتري سيارةً قسطها ثلاثمئة دولار. إنه يحسب بدقة ما يستطيع وما لا يستطيع، أي أن الإمكانات هي ما تحدد التصرفات في حالته كفرد. لكن هذا الشخص نفسه يمكنه، إن كان أمام شاشة الكمبيوتر، أن يبيعك مواقف وتضحيات تتجاوز قدرة فصيل بأكمله، فهو وخمسة من أصدقائه أو من جيرانه المناضلين، قادرون، لولا تخاذل المتخاذلين، أن يهزموا دولةً بكامل عدّتها وعتادها. المتخاذلون ضرورة نضالية بالطبع، فوجودهم يحفظ خط الرجعة لكل من لا يستطيع تحقيق برنامجه النضالي. من هم هؤلاء "المتخاذلون"؟ إنهم كل الآخرين الذين يتواجدون خارج الخطاب. ليس فقط من لا يتجاوبون معه، بل أيضاً أولئك الذين لم يسمعوه. المتخاذلون موجودون قبل صياغته أصلاً، أو لنقل إن وجودهم جزء مسبّق منه. فلولاهم لصارت المواجهة واضحةً بين صاحب الخطاب والعدو المباشر، وفي هذه الحالة يستطيع أي "طفل أن يرى الملك"، كما هي الحكمة المعروفة، وأن يحاسبه.

بمقارنة بسيطة بين تصرف الناس فرادى، وتصرفهم جماعةً، يمكننا أن نرى الفارق الشاسع بين التصرفين. فبينما تطغى الواقعية والعقلانية عليهم كأفراد، نرى الشعاراتية والرومانسية هي ما تحكم تصرفاتهم كجماعة

ما سبق لا يعني، في أي حال من الأحوال، أننا شعب مجرد من الإمكانيات. فنحن نملك إمكانيات حضاريةً وأخلاقيةً وإمكانيات جدارة وحق، لكننا بددناها لصالح إمكانيات عسكرية غير متوفرة، ثم قمنا بتضخيم هذه الإمكانيات، ورافقنا ذلك بتقليل يومي وممنهج من إمكانيات العدو، بحيث قدّمنا أنفسنا ندّاً حقيقياً له. هل هذه الندّية في صالحنا؟ بالتأكيد لا. هل هذا رفع للمعنويات على طريقة صدام أم تضليل مدروس على طريقة "ما خفي أعظم"؟ التآكل اليومي والمستمر لعناصر القوة في قضيتنا يجيب عن هذا السؤال.

في كل الحروب السابقة، سواء الحروب التقليدية أو الحديثة، يقوم العدو بتضخيم إمكانات عدوّه ليبرر الحرب عليه. حدث ذلك في العراق وأفغانستان وصربيا. ويحدث يومياً في غزة. لا يقوم العدو بتضخيم إمكانياتك الفكرية أو الثقافية أو الحقوقية... تخيّلوا أن يفعل ذلك! بل يقوم بتضخيم قدراتك العسكرية تحديداً. فمن غير الأخلاقي في العالم الحديث أن تُشنّ الحرب على عدو ضعيف، أو لا يملك ما يدافع به عن نفسه. يجب أن يملك ما يهددنا به. أن يهدد مصالحنا ووجودنا، لنقوم بضربه قبل أن يتمكن منا.

نحن نملك إمكانيات حضاريةً وأخلاقيةً وإمكانيات جدارة وحق، لكننا بددناها لصالح إمكانيات عسكرية غير متوفرة، ثم قمنا بتضخيم هذه الإمكانيات، ورافقنا ذلك بتقليل يومي وممنهج من إمكانيات العدو، بحيث قدّمنا أنفسنا ندّاً حقيقياً له

بالطبع لا يكفي أن يقوم المعتدي بصياغة خطاب يبرر اعتداءه. يجب عليه أن يوقع الضحية في فخ خطابه. أن يقنعها به إلى درجة تبنّيه. وحين تتبنى الضحية خطاب المعتدي عليها، لا تستطيع أي قوة في الكون تكذيب ما اتفق عليه طرفان متنازعان. ونحن، في العالم العربي، نقوم بذلك على أكمل وجه. تقول أمريكا إن الجيش العراقي رابع أكبر جيش في العالم، فنفرح لذلك ونقوم بترديده. تقول إسرائيل إن غزة تستطيع تحييد الآلة العسكرية الإسرائيلية، فنصوغ خطاباً مشتقاً من هذا المفهوم المراوغ ونقوم بضخه.

انعكاسات هذا الخطاب لا تقتصر على النتائج المباشرة للهزيمة فقط، ولا على فكرة التضامن الخارجي مع الضحية أو صاحب الحق، بل تضرب عميقاً في الشعور تجاه الذات. كيف سيفكر شخص اقتنع بأنه يمتلك الإمكانيات لخوض حرب، حين يفشل مرةً واثنتين وألف مرة في تحقيق غايته؟ سيحيل ذلك إلى مؤامرة خارجية،، ويبدأ بخسارة المتضامنين. ثم سيحيل ذلك إلى غضب إلهي... ويبدأ بإصلاح النفس والغير، والتوجه نحو التدين. وأخيراً، سيحيل ذلك إلى عدم تعاون أفراد الشعب، فيخترع فئة المتخاذلين.

فئة المتخاذلين هي خاتمة اليأس، ولكنها بداية المرحلة الأكثر منطقيةً للحروب الأهلية، أو على الأقل للفوضى. فالمتخاذل يتطور داخل الخطاب، بسهولة، إلى عدو داخلي يتوجب التخلص منه، لنستطيع التفرغ للعدو الرئيس.

الخطاب إذاً هو المشكلة الأولى. الخطاب الأعلى من إمكانيات الناس وقدراتهم، هو القادر على رفع التوقعات إلى أعلى مما يجب، وهو المتسبب في الخيبات الدائمة بعد كل نكسة أو تراجع غير مبرر، وهو الدافع، تالياً، للبحث عن أسباب غير حقيقية للخيبة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض تحويلنا إلى كائنات خائفة يسهل حكمها. لذلك كنّا وسنبقى موقعاً يرفع الصوت ضد كل قمع لحرية التعبير ويحتضن كل الأفكار "الممنوعة" و"المحرّمة". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard