صار بعيداً ذلك اليوم الذي بدأت فيه علاقتي بالصيام. كنت حينها في السابعة من عمري، ولا أعرف سر تعجّل والدي في حثّ طفلٍ مثلي على تأدية تلك الفريضة. لكني كنت أملك أسبابي الخاصة أيضاً، لتأديتها، مثل رغبتي في تقليد الكِبار، وشعوري بأنني أصبحت رجلاً. والأهم، إنقاذي من سخرية أطفال الشارع. ففي منتصف التسعينيات، وقبل التعرّف على مصطلح التنمّر، كان العثور على طفل "فاطر" (مفطر)، يعني أننا وجدنا من نسخر منه ونتنمّر عليه طوال اليوم، ونزفّه بأناشيد مثل "يا فاطر رمضان يا مخاصم دينك، القطة السوداء هتقطع مصارينك". ولهذا، لم يكن أمامنا سوى الصيام أو على الأقل إتقان إخفاء إفطارنا.
بين الرغبة في إرضاء الله والطمع في ثوابه والخوف من عقابه، تشكلت قناعاتي تجاه الصيام
حتى تخرّجي من الجامعة، ظلّت علاقتي بالصيام ثابتةً، وإن اختفت الدوافع القديمة، وحلّت مكانها دوافع جديدة معظمها دينية، إذ كنت مثل غيري مقتنعاً بأنّ الصيام يمنحنا صحةً أكثر، وفقاً للحديث المنسوب إلى النبي محمد: "صوموا تصحّوا"، و"في الجنّة باب يقال له الريّان لا يدخله إلا الصائمون"، بالإضافة إلى أنه يجعلنا نشعر بالفقراء أكثر، ويؤدب النفس وما إلى ذلك. كما أن الإفطار من دون عذر، كبيرة من الكبائر، كما يقول الشيخ الذهبي. ويوضح الشيخ الألباني، أنّ "المفطر بلا عذر ولا غرض شرّ من الزاني ومدمن الخمر، ومشكوك في إسلامه".
هكذا، بين الرغبة في إرضاء الله والطمع في ثوابه والخوف من عقابه، تشكلت قناعاتي تجاه الصيام. لكن قبل سنوات قليلة، ذهبت مع شقيقتي إلى طبيب أخبرها بأنها ممنوعة من الصيام حتى لو كانت لا تشعر بأيّ ألم، لأنّ الصيام يؤثّر على جهاز المناعة الخاص بها. كما اكتشفت أنّ بعض الأصدقاء لا يصومون بأمرٍ من الأطباء، لأنّ أجسادهم تتأثر بشدّة بغياب الطعام والشراب لوقت طويل. هنا شككت في أول تابوه من تابوهات الصيام، إذ كيف يمنحنا الصيام صحةً أكثر ويكون ضارّاً لنا في الوقت نفسه؟
هنا شككت في أول تابوه من تابوهات الصيام، إذ كيف يمنحنا الصيام صحةً أكثر ويكون ضارّاً لنا في الوقت نفسه؟
بعد قراءة بعض الدراسات والأبحاث الطبية المنشورة، والتي يمكن مطالعتها بمجرد كتابة "أضرار الصيام"، عبر محرّكات البحث، وحتى لا ندخل في جدلية دراسة مؤيدة وأخرى معارضة، فإنّ ما توصلت إليه هو أنّ الصيام ليس مفيداً بالضرورة، وأن هناك أجساداً وخلايا تتأثر بشدّة، وأخرى لا تتأثر حسب جسد كل إنسان وتركيبته. في مطلق الأحوال، هذا يعني أنّ "صوموا تصحّوا"، يمكن أن تكون تشجيعاً على الصيام، لكنها ليست قاعدةً يمكن التسليم بها كما يروّج رجال دين، لأنّ التعاليم الدينية موجهة إلى الجميع، وتالياً يجب أن يكون تأثيرها واحداً على الكل، وهذا ما ثبت خطؤه بالدراسات العلمية.
هل هناك عقوبة لمن لا يصوم؟ كان ذلك هو التابوه الثاني. وبالنظر إلى باقي "الفروض" الإسلامية مثل الصلاة، سنجد أنّ القرآن نصّ على عقوبة تاركها بشكل واضح في آيات عدة، منها: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا"، و" ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلّين"، كما نص على ثواب الملتزمين بها في آيات أخرى. وكذلك الزكاة التي اشترط الله تأديتها في آيات كثيرة، منها: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين"، وهذا ما انطبق على باقي الفروض التي أوضح القرآن ثوابها وعقابها، ما عدا الصيام، إذ لم ينصّ القرآن على أيّ عقوبة لغير الملتزمين به، وكل ما ذُكر آيات فرضه على المسلمين، وتبيان بعض شروطه، وحالات الإفطار فيه، وهي حالات عامة ترك الله فيها الاختيار للإنسان نفسه إن كان مسافراً أو مريضاً، بل إن القرآن لم ينصّ على ثواب محدد للصيام، بل أشار فحسب إلى استحسانه وإلى أنه عمل صالح وسيجزى عليه الصائمون.
هكذا صارت قناعاتي في الوقت الحالي؛ الصيام لا يزيدنا صحةً، بل هو مشقّة وضارّ في بعض الأحيان، ولا توجد عقوبة محددة للمفطر، كما لا يوجد ثواب محدد للصائم، وتلك القناعة الجديدة جعلتني لا ألتزم بالصيام فحسب، بل أحبّه، وصار يتّخذ لديّ مكانةً خاصةً بين التعاليم الأخرى كافة. ببساطة، صرت أشعر بأنه عبادة تعبّر عن الحب الخالص لله، دون بحث عن منفعة جسدية أو دينية أو خوف من عقاب آلهي، وأنني حرّ أفطر متى أردت الإفطار، دون شعور باللوم أو الذنب. وبمصطلح فقهي، الصيام هو تجسيد لمعنى التجرّد لله. لقد أمرني بالصوم فصمت.
هذا التميّز الذي انفرد به الصيام، هو ما دفع رجال دين إلى الاستماتة من أجل خلق منظومة ثواب وعقاب له، وهذا جزء من نظرتهم إلى الدين عامة، إذ يعتقدون أنّ الدين والحرية لا يلتقيان، وأن على الإنسان أن ينفّذ ما يؤمر به دون تفكير أو اختيار، وذلك طمعاً في ثواب أو خوفاً من عقاب.
صرت أشعر بأن الصيام عبادة تعبّر عن الحب الخالص لله، دون بحث عن منفعة جسدية أو دينية أو خوف من عقاب آلهي، وأنني حرّ أفطر متى أردت الإفطار، دون شعور باللوم أو الذنب
لكن في الصيام، فشل هؤلاء في أن يجدوا آيةً قرآنيةً واضحةً تؤيد أفكارهم، فلجؤوا إلى اختلاق أحاديث منسوبة إلى النبي محمد، والتي أشرت إلى بعضها، وهي أحاديث لا تثبت أمام أي نقاش منطقي، لكنها للأسف باتت قناعةً لدى الملايين عبر العصور، ليتم تشويه أجمل وأنبل ما في الصيام، أي أنّه عبادة حرّة يقوم بها الإنسان بمحض إرادته، دون طمع في ثواب أو خوف من عقاب، وليس بالضرورة أن تكون لكل فعل جائزة، بل يمنحنا الصيام حرية أن لا نصوم لو أردنا، كما يمنحنا حق الردّ، مثلما فعلت حين كرر رجل دين أمامي أنّ للصائمين باباً مخصوصاً لهم في الجنّة، فقلت: "هو أنا لو داخل الجنّة هيفرق معايا في إيه الباب اللي هدخل منه أصلاً؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ أسبوعyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ أسبوعأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ أسبوعتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ أسبوعغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ اسبوعينيقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..