
في دورته السادسة عشرة لعام 2025، عرض مهرجان الفيلم العربي في برلين، أكثر من 40 فيلماً من مختلف أنحاء العالم العربي، تحمل معظمها طابعاً سياسياً وتاريخياً يعكس قضايا ومعاناة مشتركةً في المنطقة. بين تساؤلات حول ما إذا كان العيش في المنطقة العربية امتيازاً أم عبئاً، تبرز صورة مزدوجة: أوطان جميلة، غنية بالثقافة والتفاصيل، لكنها مثقلة بالاضطرابات والهموم والحروب، تحاول السينما العربية تجسيد هذا التناقض عبر عدستها، مع التركيز على البُعد السياسي والإنساني كقلب نابض للمهرجان.
لفتت الانتباه في حفل افتتاح المهرجان، نوعية الحضور التي كانت تمثّل بشكل واضح فئتَين من الشباب العرب: الأولى تضمّ من خاضوا تجربة اللجوء ونشأوا في ألمانيا، والثانية العرب المولودين فيها. فما الذي يدفع هذه الفئة التي توارت لغتها الأمّ خلف طبقات من اللغات الألمانية بجرسها الثقيل إلى حضور هذا المهرجان؟ هل يشعر هؤلاء الشباب بأنهم ممثلون في فعاليات مثل مهرجان الفيلم العربي؟ وهل تختلف اهتماماتهم السينمائية واختياراتهم تبعاً لتجاربهم الفردية وموقعهم من الانتماء الثقافي؟

الانتماء الثقافي
عند لقاء العرب من فئة الشباب المولودين في ألمانيا، تراهم/ نّ يعرّفون بأنفسهم كأبناء/ بنات البلد والثقافة الألمانية، بينما يعرّف آخرون منهم أنفسهم بجذورهم الأصلية وارتباطهم الوثيق بها، ويسعون جاهدين للبحث عنها برغم بُعد المسافة. في هذا السياق، لعب تدفّق اللاجئين العرب عام 2015، إلى ألمانيا، دوراً مهماً في تعزيز التقارب الثقافي العربي، خاصةً في برلين التي تحتضن أكبر تجمّع عربي في البلاد، ما سهّل على من يشعرون بانتماء ثقافي إلى بلدانهم العربية أن يجدوا صدى لهذا الانتماء في وجوه القادمين الجُدد.
فمثلاً، تقول آمَة العزيز، وهي طالبة من مواليد ألمانيا، لرصيف22: "من وُلد في ألمانيا، لديه امتياز أنه ألماني ولكنه يظلّ يشعر بازدواجية الهوية وهذه يرافقها تأنيب ضمير نوعاً ما. مع الإصرار على البحث عن الهوية العربية وبسبب الحدود التي رُسِمت، من الصعب تحقيق هذا الهدف، لهذا يُعدّ مهرجان الفيلم العربي بوابةً للبحث عن الهوية والانتماء الثقافيين".
يتوزّع الشباب من أصول عربية في ألمانيا بين من يتبنّون الهوية الألمانية كلياً، ومن يخوضون رحلة مزدوجة لدمج انتمائهم الألماني بمحاولة واعية لإعادة اكتشاف هويتهم العربية
من ورث الفن العربي عن عائلته، لن يجد صعوبةً في مشاهدة فيلم حتى لو كان مترجماً إلى لغته الأوروبية الأمّ، ولكن هناك مواضيع متعلقةً بالمحتوى الحسّاس يركّز عليها المهرجان كعامل أساسي لإيصال معاناة الشعب العربي. وفي إشارة إلى عدم حضور الشباب العرب، تضيف آمة: "لا أعتقد أن هناك عوائق تحول دون حضور من وُلدوا في ألمانيا المهرجان، ولكن هناك أحياناً شعوراً بعدم الانتماء، حيث يرون أن الحضور الألماني أو الأوروبي واجب أكثر من حضورهم لأنهم من تلك البقعة الجغرافية، ولأن الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط غيّرت الكثير في السياسة الألمانية، وعلى الأوروبين أن يعلموا حقيقة سياسة دولهم".
وتضيف آمة: "نحن لدينا نظرة دونية لأنفسنا أحياناً، ونقلل من فنّنا العربي، إذ نرى أنّ الأوروبيين فحسب أصحاب الفنّ، ولكن هذه فكرة مغلوطة. لهذا، من الضروري وجود مهرجان الفيلم العربي لأنه يعزز من وجودنا، ويؤكد على الهوية العربية من خلال عروضه وجلساته النقاشية في المهجر".
جنّة ألمانيا
هناك من يسعى إلى تحقيق المستحيل للوصول إلى أرض الحلم، ألمانيا. وهناك من يبقى عالقاً بين ألم الذكرى وتأنيب الضمير. هذا ما جسده فيلم افتتاح مهرجان الفيلم العربي؛ "إلى أرض مجهولة"، من خلال قصة شاتيلا ورضا، بطلَي العمل، اللذين يحملان بين ملامحهما حكاية فقدان وأمل في آنٍ واحد. لم تكن المشاهد التمثيلية تبعد عن الواقع، فمن عاش رحلة اللجوء يعلم أنّ الطريق ليس سهلاً وأنه محفوف بالصعاب والمخاطر، بالإضافة إلى أنها تجربة حيوانية في محاولة البقاء على قيد الحياة والوصول إلى الحلم المنشود.
يسعى الجيل العربي الشاب في برلين إلى تعريف أقرانهم الألمان بهويتهم، من خلال سرديات السينما العربية المتنوعة

تسنيم السهلي (21 عاماً)، عرّفت بنفسها كفلسطينية سورية، شبّت في ألمانيا وعاشت رحلة اللجوء وهي في الـ11 من عمرها، درست البكالوريا ثم التحقت بالجامعة لدراسة تخصص العمل الاجتماعي. قصتها مختلفة قليلاً لأنها من الشعب الفلسطيني الذي قضى حياته وأنجب أطفالاً في رحلات اللجوء والشتات. في حديثها عن المهرجان تقول: "الذي دفعني لحضور المهرجان، برنامجه الذي تناول تجربة اللجوء من خلال فيلم 'إلى أرض مجهولة'، الذي يحكي إحدى قصص اللجوء، وهذا حافز لديّ لا أراه عند أصدقائي الشباب العرب الذين وُلدوا في ألمانيا. أما الفيلم الذي حضرته عن سجن تدمر، فكان جديداً بالنسبة لي ومؤثراً".
حول دعوة الأصدقاء الأوروبيين أو غيرهم من غير العرب، تقول السهلي: "حاولت قدر الإمكان أن أعرّفهم بثقافتي وعاداتي العربية وسردت لهم قصة لجوئي، ولكن الحديث ليس مثل المشاهدة، لهذا أعتقد أن دعوتهم لحضور فيلم ذي محتوى حساس تحتاج إلى وقت، وثمة نقطة أخرى هي أنه كان بلغة عربية محكية برغم الترجمة، وبعضهم لا يفضل القراءة في أثناء المشاهدة".
"مشاهد تأسر الأنفاس وتغوص في عمق المشاعر"؛ هكذا تعبّر أميمة زيان (25 عاماً)، التي خرجت دامعة العينين عند انتهاء فيلم "إلى أرض مجهولة"، وتضيف: "من الضروري عرض هذا الفيلم في دول أوروبا لكي يعلموا كيف يعيش اللاجئ رحلته إلى أوروبا، وأيضاً تغيير الصور النمطية التي صنعوها بأنفسهم عن الشعب العربي، ولكي يدركوا حجم المعاناة التي تدفع اللاجئ إلى المخاطرة بنفسه في رحلة الوصول إلى ألمانيا، نتيجةً لسياساتهم".
خلطة اللهجات
كانت السياسة الأوروبية في السابق، تعتمد على وضع أقنعة متعددة بحسب الموقف والمشهد السياسي. أما في الفترة الأخيرة، خاصةً في أثناء الحرب الأوكرانية الروسية، وبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فسقط الكثير من الأقنعة، وظهر الوجه الحقيقي للقارة العجوز. تقول أميمة زيان، في حديث إلى رصيف22: "عندما أتى اللاجئون الأوكرانيون إلى ألمانيا، ظهر التمييز العنصري علناً، وعلى وسائل الإعلام الألماني، كالدخول المجاني إلى الجامعات وغيره من الامتيازات الأخرى. أما العرب، فازداد عليهم التدقيق في برلين، والتشديد على اللغة العربية ضمن المظاهرات. وفي اليونان وإيطاليا، كان هناك القتل العمد للّاجئين وسط البحر".
يقدّم مهرجان الفيلم العربي فسيفساء من اللهجات العربية المتعددة، ما يشكّل تحدياً لبعض الحضور، لكنه في الوقت ذاته يعكس تنوّع المجتمعات العربية
يحتضن مهرجان الفيلم العربي في برلين، العديد من اللهجات العربية، وهو ما يشكل تحدياً لبعض الحاضرين، إذ تعكس اللهجات المحكية الواقع الحقيقي للمجتمعات العربية. ومع تنوّع الجمهور، لا يبقى من حلّ سوى الاعتماد على الترجمة إلى اللغة الإنكليزية لتسهيل الفهم. تقول منى أمكريسي (28 عاماً): "هذا ثالث حضور لي للمهرجان، ولم أرَ أيّ مشكلة في اللهجة من أي دولة عربية كانت، بل أرى أنها فرصة جيدة للعرب لاستكشاف لهجات عربية أخرى".
وتضيف: "أفضّل عرض الأفلام بلهجتها المحلية العامية، لأنها واقعنا الحالي ومجتمعنا العربي لم يعد يتكلم باللغة العربية الفصحى".
المهرجان الذي انتهت فعاليته في الـ30 من نيسان/ أبريل الماضي، عٌرض في عدد من دور السينما المختلفة في برلين. وتتخللت العروض مناقشات متنوعة مع واحد من صُنّاع الفيلم والمشاركين فيه (المخرج أو الممثل أو أحد القائمين على العمل السينمائي)، دون أن يكون حضورهم شرطاً أساسياً في كل مرة.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 14 ساعةزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ 6 أيامحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ أسبوعالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...