المفارقة في التماثيل المنتصبة في الميادين، أنها برغم ضخامتها، تظلّ بلا حضور يهزّ الوجدان. لا تعيق أبصارنا ما دامت معلّقةً على ارتفاع، ولا تجلس بجوارك على مقعد، ولا تقف عند حافة الرصيف. أشخاص من برونز، مجمّدون في لحظة من الحرب أو المأساة، يمكن تلخيصهم أحياناً بأنهم عرضة لجذب البرق، أو محطة في نزهة قرديحي لطبقة وسطى في نهاية الشهر.
لا تجد أفضل من النُّصُب في الميادين لتستأمنه على موعد غرامي، أو لتشاركه سيجارةً خلفه، أو لتفرش عنده بضاعتك من الريموتات ولعب الأطفال. وأحياناً يكون ملجأً لأمور أبسط بكثير، ومسنداً للراحة أو ظلّاً "للعصاري". ومع ذلك، لا يبدو وجوده مزعجاً، برغم أنه يقف كالصنم، وسط الطريق، حائلاً دون عبورك المختصر قبل إشارة المرور، محاطاً بسور أو سلالم تعيق الوصول إليه. يتوسّط ميداناً هادئاً، أو يحتلّ رصيفاً عريضاً يطمح إلى أن يكون ميداناً، وكأنه استُدعي على عجل ثم تُرك هناك. معروف وغامض في آن، في وضعية متحفّزة، كأنه يترأس اجتماعاً دائماً، أو يراقب حركة المارة، أو يتدرّب على خطاب، أو يطالب حصانه المتعب بالتظاهر بالقوة.
في الإسكندرية، كما في أي مدينة أخرى، تبدو التماثيل علامات واضحةً لا لبس فيها، وفي الوقت نفسه أماكن مسيلةً للمواعيد. الوقوف عندها لا يمنحك سوى شعور متكرر بجسد فارغ.
أقضي أحياناً ساعةً داخل السيارة في شارع أبو قير، أي ما يعادل عشر دقائق سيراً. إنه المسار الوحيد إلى منزلي، وخلاله لا نتوقف عن إزعاج تمثالَي العازفَين المجهولين في ميدان عبد القادر رجب، بينما يحاولان باجتهاد رقيق تحويل الضوضاء إلى موسيقى غرفة.
قبل عامين من شراء "زاستافتي" العزيزة، كنت أتدرّب على قيادة السيارات عند ميدان ساعة الزهور، أمام منطقة الشلالات. هناك، عند محطة انتظار الركّاب، كان من المريح أن أراقب الناس وهم يتّكئون عليها، يتخلصون من التعب، ولا يشعرون بالخفة إلا عندما يخلعون أحذيتهم.
في بداية سكني هناك، كانت تُقام حفلات موسيقية بلا جمهور؛ ذات مساء، ظلّ ثلاثة عازفين، بجانب التمثالَين، يعزفون مقطوعات فيفالدي للنائمين في الشوارع. كنت أطوف حولهم طوال الليل بسيارتي "الزاستافا"، أول سيارة أقتنيها من راتبي؛ "دعسوقة" حلوة بمحرّك صغير، تفوح منها رائحة يوغوسلافيا بعد أن تفككت إلى قطع لم تعد تلتئم.
لم يكن ذلك هرباً من العودة إلى التمثالين، ولا لأنني لم أحقق "الترجت" من بيع كاسيتات السيارات، بل لأنّ العثور على ركنة قرب البيت بات مستحيلاً بسببهما. لا أحد يعرف، على وجه التحديد، من الذي جلب التمثال إلى هناك، وكأنّ إله الأجسام المعدنية قد صبَّهُما ذات ليلة ثم نسيهما.
قبل عامين من شراء "زاستافتي" العزيزة، كنت أتدرّب على قيادة السيارات عند ميدان ساعة الزهور، أمام منطقة الشلالات. هناك، عند محطة انتظار الركّاب، كان من المريح أن أراقب الناس وهم يتّكئون عليها، يتخلصون من التعب، ولا يشعرون بالخفة إلا عندما يخلعون أحذيتهم. واحدة من الممارسات القليلة التي نواصل بها الاتصال مع الآخرين، تحمل صفاءً يشبه ما يحدث بين الناس خلال قيلولة في المساحات العامة أو وسائل النقل.
يبدو أنّ لعنةً ما تصيب سكان المناطق القريبة من التماثيل؛ تتحوّل أشياؤهم إلى فراغ لا يُمسَك، أو إلى حيّز منزوع المعنى.
لم أنسَ، في كل درس، أن أوجّه تحيةً هازئةً إلى مصمّم ساعة الزهور؛ فهو يطوي المعنى في التهام الوقت، كأنها باقة ورد أبدية موضوعة على قبر. وإذا ما تجولت فيها خلال سنوات الإهمال، يمكنك أن تلمح خلف "الكتينة" المزهرة نباتاتٍ شيطانيةً، تشبه اللحظات الفارقة في حياتنا.
فقدتُ صورةً لبابا وهو يقف عند ساعة الزهور، التُقطت له قبل أربعين عاماً. أنا الآن في مثل عمره حينذاك، ومن موقعي هناك، أستطيع أن أكون قريباً من النقطة التي كان يلوّح منها. بقدر ما يبدو مضحكاً أن يظهر كرجل يلوّح لشخص بعيد -برغم أن تحيّته لا تبدو موجّهةً إلى أحد- اكتسبت الصورة دلالتها حين علمتُ أنها من آخر ما التُقط له قبل وفاته. لا مفارقة أكثر دقةً من تلك اللحظة لتُسجَّل كنُصُب تذكاري صغير، شخصي، تمثال لا يمكن أكله، على عكس طبق الخبز الذي تُقدَّم فيه شوربة مطعم المعسكر الروماني، ويبهجني احتساؤها.
على يمين ساعة الزهور، حيث يقف بابا في الصورة، يقع تمثال الإسكندر الأكبر، ممتطياً حصانه، ويده ممدودة تحمل آلهة النصر في الأساطير اليونانية. تشكّلت حوله، تبعاً لأهوائه، حديقة على شكل ساعة بعقارب خشبية عملاقة، بخلاف الحدائق التي تنمو عشوائياً حول النُصُب. كنّا نتبارى في مراقبة ما إذا كانت ساعة الزهور تعمل حقاً، أو تُشغَّل في الأعياد والمناسبات فحسب. وقوفي الآن على الجهة المقابلة لبابا يُبقيني على اتصال به؛ يساعدني أحياناً على ترميم اليوم، ويعفيني أحياناً أخرى من الوقوع في فخّ اختزاله في مخيّلة الطفولة، كواحد من كائنات الساعة.
كنّا أطفالاً نلعب لعبة التماثيل؛ نتحرك بعشوائية، حتى يهتف أحدنا: "كهربا!"، فيردّ آخر: "شدّ الكبس!"، فنتحوّل إلى تماثيل، عاجزين عن الحركة حتى يمدّ أحد اللاعبين يده إلينا. التمثال كان هناك قبلنا، داخل حدائقه المسوّرة، لكنه ظلّ حاضراً في ألعابنا، يكبر معنا بصمته الثقيل خارج لحظات اللعب. لذا، لم يكن غريباً أن يلعب طفل سوري برأس تمثال الأسد فور سقوط النظام.
كنّا أطفالاً نلعب لعبة التماثيل؛ نتحرك بعشوائية، حتى يهتف أحدنا: "كهربا!"، فيردّ آخر: "شدّ الكبس!"، فنتحوّل إلى تماثيل، عاجزين عن الحركة حتى يمدّ أحد اللاعبين يده إلينا
حين كنت أذهب إلى تمارين الكورال، كان أصدقاء الطفولة يؤمنون بأنّ أرواحاً تسكن خلف أجساد التماثيل البرونزية. كنا نؤدّي عند تمثال الإسكندر تحية الشباب، ونتسلق ساق تمثال نوبار باشا، فنبدو كما لو أننا نتدلّى من جدٍّ ملزم بدفع العيدية، بينما يحدّق هو عبر الممر الطويل في سكان العمارة المقابلة في شارع فؤاد، وهو معذور، فقد ظلّ محفوظاً في المخازن لأكثر من أربعين عاماً.
كنا نذهب في نزهات قصيرة إلى تمثال سعد زغلول، الذي بدا كأنه اختار من دولابه ما يناسب ليلةً ممطرةً وطويلةً في ميدان محطة الرمل؛ عابر عادي، يوجّه ظهره غير الجذاب إلى الميدان، منتظراً أصدقاءه حتى يخرجوا من عرض سينمائي في "سينما مترو".
لكن المدينة، حين تعيد رواية ماضيها، تفعل ذلك أحياناً بإدخال تماثيلها في منطقة حرب، كأنما تختبر حضورها. تمثال عروس البحر في ميدان السلسلة، أمام مكتبة الإسكندرية، تعرّض لهجوم عام 2013، حين ألقت عليه جماعة سرّية حبراً أزرق. قيل إنّ الجماعات المتشددة فعلتها، لكنها أنكرت. بالطبع، من يلقي لوناً أزرق على التمثال، لا يبدو متشدداً، بل مهووساً بالألوان. وما تهوس به وتريد تدميره، هو ذاته ما تريده أكثر من أي شيء.
منذ عصر الهوس بالتماثيل، أحد أقدم أشكال التلاعب بالفضاء العام، رأت المجتمعات أنّ إقامة التماثيل، تخليد للذكرى، أو ربما وسيلة للهيمنة على الماضي: تثبيت لحظة المجد، إيقاف المسيرة نحو النهر، مراقبة المريدين والهازئين، والذين يجهلون الأمر وهم يصعدون إليه.
استعددتُ لهجران الإسكندرية، جغرافيتي العاطفية. بعت شقّة أبي، حصّلت مديونيتي شبه المعدومة، وكان آخر ما فعلته أن وضعت إعلاناً على تابلوه سيارتي "الزستافا" لبيعها.
لكن المدينة، حين تعيد رواية ماضيها، تفعل ذلك أحياناً بإدخال تماثيلها في منطقة حرب، كأنما تختبر حضورها. تمثال عروس البحر في ميدان السلسلة، أمام مكتبة الإسكندرية، تعرّض لهجوم عام 2013، حين ألقت عليه جماعة سرّية حبراً أزرق. قيل إنّ الجماعات المتشددة فعلتها، لكنها أنكرت
مرّت أشهر قبل أن يتصل بي رجل بدا من صوته وقوراً ومهذّباً، برغم أنّ الاتصال جاء بعد منتصف الليل. نزلتُ إلى الشارع بملابس النوم، وسمحتُ له بتفحّص السيارة. لكنه لم يحاول التظاهر بالجدّية؛ بدا كأنه أرادها فقط لتبقى ثابتةً، تمنع جاره من استخدام مكانه في أثناء غيابه. عرض ثمناً يعادل ضعف قيمتها، وألحّ، بل توسّل لشرائها.
كان الرجل شديد الشبه بتمثال العازف القريب من منزلي، كأنّ التمثال نزل بنفسه ليفاصلني في بيع الزستافا. ولم لا؟ فهي تصلح تماماً لعازف يتنقل بآلته من البيت إلى الأوبرا.
يبدو أنّ لعنةً ما تصيب سكان المناطق القريبة من التماثيل؛ تتحوّل أشياؤهم إلى فراغ لا يُمسَك، أو إلى حيّز منزوع المعنى. ففي الوقت الذي نغازل فيه الفناء بتواريخنا، تسعى النُّصُب التذكارية إلى الخلود، متجاهلةً نظرة المارّة التي تراها كأثاث شوارع. يكفي أن ينسى عامل النظافة صنابير المياه في الحديقة المسوّرة، ليغرق النصب في مشكلاته الروتينية، وأوقاته الفارغة حين لا يكون محور احتفال أو احتجاج، بينما يجلس رجال السلطة في تسليتهم المفضلة: تقشير أوراق الزمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ghina Hashem -
منذ ساعةالحب حرام بس اعلامهم يلي ماجابت للبلد الا الدمار معليش يرفعوها نحنى محاربون في الشرق الاوسط كافة
ذوالفقار عباس -
منذ يوما
Hossam Sami -
منذ يومصعود "أحزاب اليمين" نتيجة طبيعية جداً لرفض البعض; وعددهم ليس بالقليل أبداً. لفكرة الإندماج بل...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع و عظيم ..
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ أسبوعحلو الAudio
شكرا لالكن