الوحيدين معاً
في غرفة هادئة وُلدت فجراً، رفضت الصبر للصباح، يبدو أن فضولي كان كبيراً منذ أولى لحظاتي في العالم. جئتُ متأملة. لم أبكِ. ظنوا أني ميتة. حتى عندما ضرب الطبيب مؤخرتي لم أصرخ. ربما كنت أشتمه في عقلي: "لمَ أفسدت عليِّ هدوء عالمي يا أبله". وحده الضوء الساطع الذي خرج من كشاف كبير سلّطه على بؤبؤيِّ بقسوة هو ما جعلني أبكي.
فيما بعد أصبحت طفلة انطوائية. أحب الظلام أكثر من النور، أهوى الهدوء أكثر من الصخب، أعشق الانفراد بنفسي أكثر من الاندماج مع الغير. نشأت وحيدة رغم وجود أخي. كان عالمه يختلف عن عالمي. يحب اللعب بالكرة مع الجيران وأحبّ الرسم والكتب. تركنا مع بدايتي للثانوية العامة ودخوله هو للجامعة ليستقل بحياته.
منزل يشبه صحراء وغرفة مقبضة
مرّت ليال لم أجد فيها من أحادثه عن خوفي من الامتحانات، أو رهابي من التجمعات العائلية، أو عن نبضة شعرت بها تهرب من قلبي لتتحول طائراً في سماء الحب، عن حلم يُحطم أمام عيني، عن لحظة خذلان، عن أول قصيدة.
عشتُ في منزل أشبه بصحراء، وغرفتي مقبضة. لم أحب المشاكل المعلقة على شتى جدران بيتنا. سنوات والوحدة صديقتي التي تعانقني كل يوم عندما أجوع للحب، تسكنني كروح ثانية، غرقت بها ولا مناص من العودة، وشعوري بالغربة داخل البيت ازداد حتى ابتلعني.
إلى اليوم الذي فيه ضربت صديقتي بقدميها باب حياتي ودخلت. اندهشتْ من عالمي الذي اختلف تماماً عن عالمها، فكانت رياضية لا تعرف سوى الجري والانطلاق، السهر والسفر، الضحك والحركة هنا وهناك، أما أنا فلا أجيد سوى الهدوء والسكون والقراءة والكتابة والعزلة الطويلة التي قد تدوم لشهور. ما لم أتصوره أن نصبح صديقتين، رغم اختلاف اهتماماتنا وهوايتنا وطباعنا وشخصياتنا.
عندما جُرح قلبي بعمق، تجسّد همها أن أتجاوز هذا الجُرح. تعرف إن تألمتُ شبراً ستتألم هي ذراعاً. أتشاجر معها لتتركني أحزن فأنا متألمة بحق. تقول: "لا تقعي في هذه الحفرة"... مجاز
المشاركة هي المرادف الحقيقي
في بداية معرفتنا، أصرّت أن تصطحبني يومياً إلى محطة القطار الذاهب بي لمكان عملي، ثم تظل معي على الهاتف لمدة ساعتين وأكثر حتى أصل. كنت أنزل من البيت فجراً، وحيدة، أشقّ صفحات الشارع الخالي من جميع الكائنات الحية سواي، وتبقى هي على الهاتف تبدّد وحدتي. في الطريق تسابقنا من يُسمع الآخر أجمل الأغنيات، وأندر الحكايات. هكذا كنت أبدأ يومي بحيوية وطاقة يختلفان عن حياتي الساكنة، وهدوئي المعتاد، كنتُ لأول مرة أختبر إحساس المشاركة الذي لم أعرف معناه قبل ذلك، شعرت أنه وطن حقيقي لا أشعر فيه باغتراب.
عندما جُرحت قدمي، شاهدتني أتألم. قالت بحزم: "سنطهر الجرح بالمُعطر ونضع عليه الدواء ثم نربطه". رفضتُ لأن المعطر سيكوي جرحي المفتوح، ذلك الذي ينزف دماً إثر تآكل الجلد. لم تهتم لرفضي. فقط أمسكت يدي. حاولت أن أتملّص منها باكية. استكملت ما تفعله. كنت أعاتبها كل يوم: "ستضعين المعطر الحارق على جرحي ثانية؟". أبكي فلا تبالي. كل يوم نفس السيناريو.
اختفاء قسري للجروح
في يوم صحوت لم أجد الجرح، فقط تشكلت قشرة سميكة، تساقطت بمفردها ونمت خلايا جلدية جديدة. الجرح اختفى وعادت رجلي كما كانت. كنت أنظر للصورتين قبل وبعد وأبتسم، أتذكر صديقتي، فكانت صاحبة الفرق بينهما.
عندما جُرح قلبي بعمق، تجسّد همها أن أتجاوز هذا الجُرح. تعرف إن تألمتُ شبراً ستتألم هي ذراعاً. لا تقول ذلك. لكنه يظهر في تصرفاتها العفوية التي تسجلها ذاكرتي جيداً. أتشاجر معها لتتركني أحزن فأنا متألمة بحق. تقول: "لا تقعي في هذه الحفرة".
أبكي، فتطمئنني أنني بخير، وأنها ستظل بجواري لنهاية العمر، فأشعر أن الجرح في قلبي يصغر ثم يصغر حتى يتلاشى. أشكو إليها خوفي فلا تتكلم لكنها تبقى معي.
رفقة حياة
رافقتني ساعات السفر الطويلة في الطريق والقطار والعربة. شاركتني القراءة ومشاهدة الأفلام والبرامج والمسلسلات. كنت أشعر أنني بمنطقة آمنة، مساحة مشتركة خلقناها سوياً، كانت بمثابة وطن صغير، أرض نقف عليها ونبني عالماً جديداً بعيداً عن قسوة العالم وشرّ أبنائه. كنت أشعر بقبضة شديدة في قلبي عندما تغيب. أظل أبحث عنها في وجوه المارة علّها تظهر، وعندما تأتي تفر منها الوحدة هاربة؛ لتقرض أناملها من الرعب.
حاولت الهروب من فكرة افتقادي لها حتى لا أحزن لأني لا أقدر على بعدها عني، لكنها حقيقة لا داعي لإنكارها. أصبحت جزءاً أساسياً في كل شيء، ونفسيتي أضحت مرهونة بعودتها، تلك التي انتظرتها طويلاً لكنها لم تحدث... مجاز
سفر طويل وعودة لا تأتي
ذات يوم أخبرتني أنها مسافرة إلى بلاد بعيدة للعمل، لا تعلم متى ستعود. صمت كثيراً، لم أجد كلمات معبرة عن مشاعر مختلطة، تفاجأت بسفرها، دعوت لها أن تسافر وتنجح لكني شعرت بالغربة فجأة، كأن أحدهم انتزعني من أرضي ورماني بأرض غريبة، لا أعرف فيها أحداً.
بعد السفر، مرت الأيام سنوات طويلة. كلما أنجز عملاً أشعر أن ثمة شيء ناقص، مفقود، ضائع. لم أجد هذا الشيء. كنت أعلم أنه إحساس المشاركة، شعوري بالوطن. حاولت الهروب من فكرة افتقادي لها حتى لا أحزن لأني لا أقدر على بعدها عني، لكنها حقيقة لا داعي لإنكارها. أصبحت جزءاً أساسياً في كل شيء، ونفسيتي أضحت مرهونة بعودتها، تلك التي انتظرتها طويلاً لكنها لم تحدث.
وفي لحظة بين الصحو والمنام كتبت هذا النص:
أعرف بنتاً غريبة
إن حاولت وقوفاً على قمم البوح
استقر داخلها جبل الغموض
وسبح فيها التيه
تموت وتحيا في الدقيقة ألف مرة
يقف العالم على صدرها جاثماً
ولا يتحرك إلا ليلكمها
فتنفجر كلماتها في وجوه المحيطين رصاصات
لتخفي طفلةً حاولت الحبو داخلها فاشلة
هذه البنت ضاعت بين دروب الوهم والإيهام
فرّت منها أحلامها لتقف عارية على قارعة الطريق
فأهون عليها أن يقضمها الخوف بشهية مفتوحة
من أن تظل حبيسة هذيان عقلها
هذه البنت يسبّها فراشها وتكرهها الوسادة
من كثرة الاستحمام بلهيب دمعها صيفاً وبردوته شتاءً
هذه البنت حبيسة غرفة الخيبات
تتكور فيها كجنين كل يوم
لا هي تخلت عن قرارها المكين
ولا عرفت الحركة أو النمو
فقط يحتلها الحنين لضمة
تهدم سدود أحزانها وقصور الآمها
تبني لها بيتاً صغيراً نظيفاً من الوجع
فتلك راحتها الأبدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ ساعةاوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ 3 ساعاتمبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ يوملقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ يومهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ يومينمن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ يومينجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...